* ترجمة وإعداد: لطفية الدليمي
تعدّ الكتابة عملاً متفرّداً يشوبه الكثير من الغموض و الالتباس و بخاصة بسبب علاقته الإشكالية مع مظاهر الاضطراب النفسي والذهني و حتى العقلي الذي قد يرقى أحياناً لمرتبة الاضطرابات الذهانية Psychosis ، و يبدو أنّ التحدّيات الهائلة التي يواجهها الكتّاب ليست مقتصرة على علاقتهم بدور النشر الحديثة حيث يصارعون في تأمين لقمة عيشهم بل تنسحب أيضاً إلى عوالمهم الداخلية التي لا تخلو من صراعات صامتة غير منظورة مع عقولهم قد تكون في أحيان كثيرة عنيفة و مؤذية للغاية ، و قد وصل الأمر حدً أنّنا اعتدنا سماع التساؤل : هل تحتاج العقول المبدعة جرعة من اللااستقرار و اللاتوازن الذهنيّين لإنجاز نتاجاتها الإبداعية ؟ و ليس غريباً أن تتكرر فكرة ” المبدع المجنون ” في كتابات الكتّاب – وبخاصة المبتدئين منهم – ممن يتناولون الفكرة بطريقة غارقة في التفاصيل الميلودرامية البعيدة عن الرصانة متصوّرين أن هذا الفعل طريقة مضمونة لإيصال أصواتهم و شقّ طريق أدبيّ خاص بهم في المحافل الأدبية .
يبدو من الأسلم دائماً أن لا نقطع بفكرة الاضطراب العقلي المصاحب للعملية الإبداعية ، إنما من المؤكّد أن هناك حقيقة ثابتة نستطيع إعلانها:
تلك هي أنّ المبدعين – و الكتّاب طائفة منهم بالطبع – كائنات أكثر حساسيّة من الآخرين و أنّهم كلّما كانوا أكثر انتقاداً لذواتهم كانت نتاجاتهم أفضل و لكن قد تنشأ واحدة من العقد العصية جرّاء هذه الحقيقة التي نريد التدقيق فيها إذ ثمّة فرق واضح بين جرعة الانتقاد الذاتي الذي يقود المبدع إلى التذمّر ممّا أنجز و من ثمّ محاولة الارتقاء بعمله و بين تلك الجرعة التي تستحيل صوتاً لحوحاً يرنّ بلا هوادة في رأس المبدع و يشلّ قدرته الإبداعيّة و يدفعه إلى التذمّر بطريقة مفرطة لا يقوى معها على التعايش مع أيّ شكل من أشكال الإنجاز ،،، و هنا يحقّ لنا أن نتساءل : كيف يعرف المبدع في أيّ الطريقين يمضي ؟ و ما الحدّ الفاصل بين هذين المسارين ؟
الحوار الآتي مع المعالج النفسي و الكاتب ( فيليب كيني Philip Kenney ) يلقي أضواء على الأفكار التي أشرنا إليها أعلاه : فهو يتشارك النظرة إلى الكتابة مع الآخرين من الذين يرون فيها بديلاً ناجعاً عن العلاج النفسي الدوائي المضاد للاكتئاب Anti-depressant Psychotherapy و الذي يمثّل عقار “البروزاك” طليعته حتّى باتت حضارتنا اليوم تسمّى في وسائل الإعلام الشعبية الغربية حضارة البروزاك Prozac Culture لفرط استهلاكه و تسويقه للأفراد و الجمهور كعقار دوائي و كمادة ذائعة التناول في وسائل الميديا ، كما يتناول الحوار موضوعة الانتقاد الذاتيّ الصحي الذي يمارسه الكاتب مع ذاته و يفرّق بينه و بين الأشكال الخطيرة من الانتقاد الذاتي التدميري المبدّد للطاقة الإبداعيّة.
يعمل فيليب كيني معالجاً نفسياً ممارساً في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأمريكية حيث يقيم مع زوجته و ابنيه المراهقين ، و قد أكمل دراسته العليا في علم النفس المرضيّ الإكلينيكي في إحدى الكليات الطبية المرموقة في واشنطن العاصمة ، و إلى جانب عمله المهنيّ يمارس كيني الكثير من اليوغا و التأمل و يكتب الشعر و له أربعة كتب شعرية و قد نشر حديثاً روايته الأولى بعنوان ” إشعاع Radiance ” عام 2012 و التي يرى فيها النقّاد شكلاً من أشكال الأوديسا السايكولوجية و الروحية وتمثّل امتداداً لأدب الاعترافات السايكولوجية التي تلقى رواجاً كبيراً بين الناس إذ لا زال العمل الأول الموثّق في هذا اللون الأدبي وهو ( اعترافات متعاطي أفيون إنكليزي Confessions of an English Opium Eater ) يلقى رواجاً هائلاً منذ نشره في لندن عام 1821 و حتى يومنا هذا اذ صدرت منه مئات الطبعات و هو في الأصل سيرة ذاتية ذهنية – سايكولوجية مركّبة يسرد فيها المؤلّف توماس دي كوينسي Thomas De Quincey التأثيرات التي أحدثها إدمان الأفيون و الكحول على حياته.
لطفية الدليمي
الحوار
• تقول في البيوغرافيا الخاصة بك على موقعك الإلكتروني أنّك لجأت إلى الكتابة كوسيلة للفطام عن مضادات الاكتئاب التي كنت تتناولها . كيف ساعدتك الكتابة على التعامل مع حالة الاكتئاب التي كنت تعانيها و من ثمّ تجاوزها إلى حياة أفضل ؟
– يبدو الأمر لي أكثر غموضاً من محض هذه المواضعة التبسيطيّة : الكتابة في مقابل العلاج الدوائي للاكتئاب . كنت أعاني في فترة ما من حياتي من التأثيرات السمّية المتراكمة لعقار البروزاك المضاد للاكتئاب و أذكر أنّني نهضت أحد أيّام الصيف البهيجة و أنا أعاني قلقاً شديداً و شعرت بالحاجة الملحّة لكتابة قصيدة !! و كم أشعر اليوم بحسن حظّي آنذاك لأنني امتلكت القدرة العقلية و الذهنية التي مكّنتني من كتابة قصيدتي العتيدة مع قلقي الشديد رغم أنّني لم أمارس أية كتابة من قبل سواء كانت شعرا أم سوى ذلك، و قد كانت القصيدة حقا جميلة بطريقة هائلة للغاية !!! و بدأت منذ ذلك الحين بقراءة شعر وليم ستافّورد William Stafford ( شاعر أمريكي مناهض للحروب ولد عام 1914 و توفي عام 1993 و عمل مستشاراً لشؤون الشعر في الكونغرس الأمريكي منذ عام 1990 و حتى وفاته ، المترجمة ) و كذلك استعنت بقراءة بعض الكتب التي تتناول موضوع الكتابة الإبداعية و قد ترسّمت خطى ستافّورد الذي كان يبدأ يومه بكتابة قصيدة و فعلت الأمر ذاته على مدى عشر سنوات ، و شعرت منذ البدء أن هذا الفعل ضخّ في روحي قدراً من الحيوية كنت أفتقده بصورة خطيرة من قبل . نميل كلّنا في الغالب إلى الحديث عن منافع و مباهج الحياة الإبداعية و لكنّني أميل إلى الاعتقاد أنّ الميزة الأعظم لتلك الحياة هي الرابطة المنعشة التي نقيمها مع أعماق ذاتنا اللاواعية : تلك الرابطة التي تقودنا إلى حياة مليئة بالإنجاز و إلى الارتقاء بالروح و النفس معاً ، و منذ أن واظبت على اتباع خطى ستافّورد و حتى اليوم أشعر أنّني أمتلئ بوهج الحياة كلّما انغمرت في مشروع كتابيّ أيّاً كانت طبيعته .
• يقضي الكتّاب الكثير من الوقت مع الأفكار التي تتصارع في رؤوسهم و يمكن لهذه الفعالية كما نعلم أن تكون لها تبعات خطيرة يأتي في مقدّمتها الخوف و القلق اللذان نرى إشارات لهما في أعمال الكتّاب . ما الطرق التي يلجأ إليها الكتّاب في العادة عند التعامل مع معوّقات الكتابة التي تنشأ عن الخوف و القلق ؟
– من المؤكّد أن رؤوس الكتّاب تمثّل منطقة خطيرة تتصارع فيها الأفكار و الرغبات ، و القلق بذاته موضوع إكلينيكي واسع و شائك بصورة متعبة و ينشأ عن مصادر عصية على الحصر و لكنّني سأحدّد مصدرين اثنين شديدي الأهمية : فثمّة خوف و قلق ينجمان عمّا يدور برأس الكاتب ، و ثمّة خوف و قلق من نوع آخر ينشآن عن محاولة الكاتب في الذهاب بعيداً في عملية استقصاء التخوم اللاواعية للنفس البشرية . أرى أنّ المشكلة الأكبر التي يواجهها الكتّاب تكمن في حقيقة كونهم كائنات مخلّقة بطريقة جعلت منهم شخوصاً شديدي الحساسية ، و بسبب هذه الحساسية المفرطة فهم يعانون وهناً شديداً – رغم صلابتهم الأخلاقية و رصانتهم الذهنية – لسببين : السبب الأوّل بسبب فرط الإثارة و طوفان الحالات الوجدانية و العاطفيّة التي تتجاوز في غالب الأحوال قدراتهم على ضبط إيقاع حيواتهم و جعلها تنساب في مسارها المتوازن و هو الأمر الذي يقود إلى حالات قلق عظمى من جهة و إلى مظاهر فصامية من جهة أخرى ،،، أمّا السبب الثاني فهو أنّ المبدعين و بسبب حسّاسيتهم المفرطة تلك يميلون إلى تخزين الكثير ممّا يعاينون و يعايشون من خبرات في العالم الخارجي بما فيها تلك الخبرات غير المنتجة و غير المرغوب فيها و هو شأن يقود إلى فرط إثارة و إجهاد عقلي و نفسي يصعب على أي شخص – مبدعاً كان أم غير مبدع – أن يتجنّب تداعياتها المؤذية ، و إذا ما تصادف أنّ المبدع كان له تأريخ من صعوبات التكيّف العاطفي و حالات إجهاد مابعد الصدمة Post-Traumatic Stress فإن وهنه النفسي و إجهاده العقلي الناتجين عن فرط الإثارة و الحساسية سيتضاعفان بالمقارنة عمّا يحدث لسواه . أظنّ أنًّ “سالنجر” صرّح مرّة أنّه يحتاج ساعة من الكتابة ليصبح بعدها صادقاً مع نفسه ، و بالنسبة لي فإنّ هذا هو دليل الممانعة و القلق اللذين ينتاباننا و نحن نجلس لطاولة الكتابة ، و من المؤكّد أنّ عمليّة الغوص في طبقات لا وعينا العميق و استكشاف بعض ممّا يمور فيه من أفكار و عرضها في العلن هي عمليّة شاقّة للغاية و مرعبة بذات الوقت فالكتّاب – كما غيرهم من الناس – متردّدون في أعماقهم عندما يتعلّق الأمر باستغوار خباياهم الدفينة . إنّ الوسيلة الأفضل التي أعرفها و التي بإمكانها تهدئة مخاوفنا العميقة هي العلاج السايكولوجي الديناميكي الجيد ( و الذي يمثّل العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavioural Therapy الذي يرمز له CBT أحد أهم أركانه ، المترجمة ) و أرى أن هذا العلاج يستطيع إلقاء أضواء كاشفة على تلك المناطق المعتمة و المغيّبة و التي تختزن معتقداتنا و مشاعرنا و أفكارنا القديمة و التي تنشأ عنها بواعث القلق الخوف ، و يمكن أيضاً للجلوس في حالة تأمل Sitting in Meditation أن يكون وسيلة خارقة الفعالية في مواجهة مخاوفنا الناجمة عن محاولتنا ملامسة حدود لا وعينا العميق و ليس أفضل من ساعات الفجر الأولى في ممارسة هذا التأمّل حيث يمكننا الجلوس و الاسترخاء و عندها سيكون ممكناً الولوج إلى تلك الأفكار المخزّنة و المقموعة في دواخلنا العميقة ، و أرى أنّ الفعل ذاته ينطبق على فعل الكتابة : حيث يميل معظم الكتّاب إلى استغلال ساعات الفجر الأولى في عملهم و من المثير حقّاً أن تكون عمليّة الوصول إلى جذر الأفكار المولّدة لمخاوفنا و قلقنا متماثلة مع عملية استجلاب الأفكار الخلّاقة في فعل الكتابة الإبداعية.
_______
*المدى
رائع اعجبني💕💕💕