*أولاد أحمد
نعم! نعم!… لابد أن يكون ذلك كذلك. وبلا حجّة، وبلا دليل، الكتابة، هي أن لا نكتب. أن نتطير من السمق، والحبر، والورق، وننفي نفيا مطلقا كذبة كوننا نملك أيادي، وألسنة، وشفاها، تلك الكذبة التي لا تسندها سوى الوظيفة النرجسية للمرايا، وحاجتنا إلى أن نفضل أنفسنا على الحيوان كلما لم نجد دليلا على أننا أفضل من الآلة، أو أكثر شأنا من الحجر!
أن نختار حبرا لا مرئيا لرسم حروف افتراضية لا تتشكل، ولا تنقال، إلا باستعداد الجسد لأن يتحوّل، في كل آن، إلى رماد من أجل أن يكون موضوع الكتابة شكلا للوجود لا استدعاء لوجود غائب، ومغيب لم نفعل شيئا لكي نُمَمْكِنَهُ أو نصير إليه.
أن ننتقل من معاهدة حسن جوار الألوان إلى إعلان وحدة الألوان: من زرقة الحبر وحمر الدم إلى خلاصتهما المخلصة: إلى البنفسجي: لون الإنسان الخالص.
أن نقسط حروفنا على الناس حتى إذا جفنا، فرادى في البراري، أو قتلنا جماعات في الحروب… كان مجمل ما كتبنا كلمة منقوصة لا يفض مغلقها سوى الضالعين في علوم النكد وكبار منصوفة الحريّة.
نعم!
نعم! ليسبق الحدسُ القانون.
الكتابة هي أن تكف – فورا – عن الكتابة.
أن نصمت.
أن تتملّكنا رغبة سبارتاكوسيّة في أن نمرّ، هكذا فجأة، إلى ما بعد حقوق الإنسان، إلى مطلق الإرادة البشرية، قبل رسم الحرف الأول، من الحرفين الأولين: من الكلمة الأولى التي لن تليها ثانية.
لا وقت للكتابة.
من يركّب كلمة يموتْ!
يخسر اللحظة الفجائية للخلاص.
تصوروا، إذا كان ممكنا أن تتصوّروا، أن سبارتاكوس ضيع وقته في الكلام عن حاله كعبد، وفي النواح عن حاله كعبد، مثلما يفعل مواطنو الدرجة الثانية، في النصف المظلم من هذا الكوكب، بطقوسية جنائزيّة مربكة،، هل كان برابرة الرومان: أولئك الأجلاف المفطومون، كالكلاب، على مذاق الدم، سيفوّتون على أنفسهم فرصة التلذذ بتمزيقه، كليّة، وسط الحلبة؟
هل كانوا سيحرمون الحيواني فيهم من مسك اللحظات الأكثر سادية في مشهد مطاردته وقتله؟
لا وقت للكتابة.
من يركّب كلمة يموت!
ذلك درس تعلّمناه من النحلة: حبيبتنا النحلة، بمجرد أن تتكلم، وتقول للمتطفل على عريشها: «ابتعد عنّي وعن عسلي» تتهاوى وتموت.
درس مناقض تماما لدرس شهرزاد.
يا للوعي السلحفاتي بالزمن!
فتاة جميلة كشهرزاد، المفترضة، تضيّع ألف ليلة وليلة، في الكلام. في تحويل حريرات النهار إلى نقاط وفواصل واستطرادات ليلية لا تنتهي!
قلبٌ أنثوي مرتجف يؤثثه الموت الممكن كل ليلة، طيلة ألف ليلة وليلة، دون أن يهتدي إلى أن خلاصه مرتهن، على وجه الدقّة، بالاستعاضة عن الكلام بعدم الكلام!
أو لم تكن قطرة واحدة من السم، في قهوة، أثناء حكاية عجائبية، كافية لقتل شهريار، وبالتالي لإخراج شهرزاد من لعنة الكلام (العقاب) إلى حق الصمت (الخلاص)؟
وأية حجة تدعم الحجة القائلة بأن الكلام هو الذي أنقذ شهرزاد من الموت المحقق سوى ما يتوهم حجة على أن شهريار ينفرد بحق سبحاني في تقرير الكلام، والصمت على من يريد وكيفما يريد؟!
الكاتب، بالتعريف الذي نحاول إذا كتب: يَقتُل أو يُقْتَل. يستوطن أو يُشرّد.
يغزو أو يُغزى.
يُدفن خارج بلاده أو تدفن فيه بلاده.
في أحسن الحالات يُجنّ أو تُحرق كتبه.
ما من إمكانية ليجرح فقط، أو يفقد ساقه فقط، أو يصاب بالزكام فقط، أو يشوه فقط، إلا في الحروب الصغيرة والحقيرة الحروب اليميسارية المخجلة: حروب موظفي المعرفة وثوريّي الثورات العاطلة، حيث يقبل الكاتب، دونما مناقشة، أن يكون وفيا للتشريط الثقافي القائم، أو للذي سيقوم على مضامين مختلفة وأساليب مماثلة.
وذلك شرط السدانة الفكرية، شرطٌ لا تكمن خطورته في كونه يحوّل الكتابة إلى قطاع خدماتي لبيع البديهة، المشكوك في بداهتها، إلى الحس العام، ويعرفها على أنها مصنع لإعادة إنتاج الإنتاج، بل في كونه يشجع على السكون بدل الحركة، وعلى الائتلاف بدل الاختلاف، ويموضع الحربة خارج الكوكب لتخويف الناس من هول تحققها في لحظة ما من صراعهم مع الأنوات الذاتوية الحاكمة.
_____
٭ شاعر تونسي/القدس العربي.