*محمد جمال باروت
برحيل المؤرخة الشامية خيرية قاسمية، تبدأ حياة ثانية لإنجازها الكبير في المكتبة التاريخية الشامية خصوصًا والعربية عمومًا، تسمح بتمليه ومعاودة اكتشافه واستثماره من جديد في كتابة التاريخ الشامي الحدبث. فهذه المؤرخة الشامية ذات الجذر الفلسطيني الراسخ التي شهدت عيناها الفتيتان نكبة شعبها وتشريده واقتلاعه، وتكون وعيها في مجرى التحولات التاريخية العاصفة للمشرق العربي بعد النكبة، برهاناتها الكبيرة وراياتها المكسورة ستجعل من دراسة الحركة العربية الشامية بدرجة أساسية، ورجالاتها، وتجاربها وتاريخها الفلسطيني موضوعات أساسية في كتابتها التاريخية في منظور المؤرخ المحترف أو المختص. وستعود في أوائل السبعينيات من القاهرة إلى جامعة دمشق بأطروحتها المتميزة عن الحكومة العربية في دمشق بين 1918-1920، التي مثّلت باكورة إنتاجها العلمي. ولم تكن قاسمية أول من كتب عن تاريخ الحركة العربية، لكنها كانت من أوائل المؤرخين الشوام المحترفين الذين كتبوا عن حكومتها في دمشق خلال سنوات 1918 – 1920، ليغدو كتابها ولما يزل مرجعًا أساسيًا لا يمكن تجاهله في أية كتابة عن تجربة هذه الحكومة التي تشكل في سياق تجربتها أول برلمان عربي منتخب على درجتين يتميز بتمثيليته في مرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية، وصيغ فيه مشروع دستور قومي عصري علماني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى (فيما عدا الأحوال الشخصية)، ليكون أبكر دستور عربي حديث بمعنى الدستور تقره هيئة تشريعية منتخبة موكلة بمهام جمعية تأسيسية.
وبهذا، منحت قاسمية دراسات الحركة العربية زخمًا جديدًا، لم يكن ممكنًا لولا منهجيتها العلمية الصارمة في العمل وفق قواعد المؤرخ المختص. وشكلت في ذلك استمرارية للزخم العلمي الذي بدأ قسم التاريخ في جامعة دمشق وريثة الجامعة السورية الأم بدفعه وتطويره. كان لهذا القسم، الذي يدين بتأسيسه إلى مؤسسيه الكبيرين الرائدين نور الدين حاطوم وجورج طعمة قد عمل في مجال التاريخ العربي والتاريخ الشامي السوري الحديث، أن يرسي بصبر وأناة لتأسيس كتابة التاريخ على أسس علمية، وشكلت رسالة الكفاءة في التخرج منه لحمل إجازة التخرج العامة منه مجالًا خصبًا لإنتاج العديد من الدراسات التاريخية المعمقة، والتي غدا بعضها مراجع أساسية لاغنى عنها. كان في عدادها في الجيل الذي سبق جيل خيرية قاسمية رسالة محمد حرب فرزات في العام 1955 عن الحياة الحزبية في سوريا بين 1908-1955، التي مازالت مرجعية وحيّة حتى اليوم. وكان هذا هو حال الأقسام الأخرى في جامعة دمشق، فمن سيذكر اليوم ربما سوى أدونيس أن أولى دراساته المعتبرة كانت عبارة عن رسالة الكفاءة في إجازة التخرج في العام 1955 من جامعة دمشق عن “نظرية هو هو بين الحسين بن منصور الحلاج والمكزون السنجاري”. كان المؤسسان الكبيران قد تلقيا تكوينهما الأساسي في مرحلة أفول “المدرسة المنهجية” في ثلاثينيات القرن العشرين وبزوغ مدرسة الحوليات (منذ عام 1929)، لكنهما لم ينفعلا بالحوليات مع تأكيدهما كما تأكيد عبد الكريم غرايبة أحد أبرز معلمي القسم وغيرهم على مسألة كتابة التاريخ بالاعتماد على معايير المدرسة المنهجية. ولم يكن هؤلاء منغلقين بل فتحوا الحرية أمام المقاربات الأخرى التي لا تعتمد على وثائق تقليدية بالمعنى الدقيق لماتقصده المدرسة المنهجية بها، وهو” الوثيقة”. وبذلك حاولا التأسيس على قاعدة مكينة مع الانفتاح على التجديد في المقاربات. لكن انغماس قسم التاريخ الفتي وفق ما صممه الرائدان طعمة وحاطوم بدراسة التاريخ الشامي الحديث كجزء من التاريخ الحديث العام تمّ في بيئة إيديولوجية – سياسية موّارة بالصراعات وبالاستقطابات، وبانخراط الطلبة من أقصاهم إلى أقصاهم في لجّة تناقضاته، وكانت الكتابة العلمية عن هذا التاريخ مدعاةً إلى حرق الأصابع. ومع ذلك، حاول المؤسسان الكبيران وتلامذتهما إنقاذ الكتابة العلمية للتاريخ السوري الحديث من هذا الطغيان، ولم يكن التوفيق حليفهما، بسبب التسييس العام المفرط، فعلى خلاف ما يمكن أن يُظن، كانت الكتابة العلمية في هذا التاريخ نوعًا من ورطة لصاحبها. هكذا، هرب حرب فرزات من تدوين التاريخ السوري الحديث الذي أبرز فيه مهارات مكتبية وميدانية كبرى غير مألوفة حتى تاريخه إلى التاريخ الحضاري القديم، ومايزال – أمدّ الله في عمره- غائصَا فيه. لكن قسم التاريخ كان يتطور مع ذلك بالكفاءات العلمية الكبيرة بما تعنيه الكلمة من معنى، وفي جيل الستينيات ستبرز أسماء منتجة ورائدة لهذه الكفاءات. فمن الذي يستطيع اليوم تجاوز أسماء توفيق برو أو سهيل زكار أو عبد الكريم رافق وغيرهم من أساتذة أجلّاء؟ عادت خيرية قاسمية من القاهرة إلى دمشق بأطروحتها المرجعية – وهي مرجعية حتى اليوم- في ظل ارتفاع مخاوف المؤرخ السوري من الكتابة في التاريخ الحديث. لكنها عادت إلى تاريخ مرحلة 1918-1920 برؤية مختلفة عن رؤية أهواء الدولة العقائدية لوظيفة تدريس التاريخ وكتابته، وكانت هذه الأهواء مشحونة بالفكر البعثي وتعتبر أن الحركة القومية الحقيقة تبدأ مع البعثية وعبر القطيعة مع الحركة العربية التقليدية، والتي كانت الحكومة العربية أهم ثمراتها التاريخية النوعيّة حتى في منظور الدولة العصرية المؤسسية الحديثة. وواصلت قاسمية في سنيّ إنتاجها الخصب هذا الاهتمام، ليبرز شبه اختصاص دقيق لها في تحقيق مذكرات وشهادات الفاعلين في التاريخ السوري والشامي الحديث. ومن المؤكد أن قاسمية كانت تعتبر أن هذه الأمة عبارة عن طوائف وأقليات وأكثريات طائفية وإثنية من دون لحمة العروبة، وكان مفهومها للعروبة يتصادف اتفاقًا مع رؤية الحركة العربية المؤسّسة في العهد العربي (الفيصلي) الكبير بالمعنى التاريخي للعروبة كإطار قومي عام جامع.
كانت قاسمية عروبية من دون أي جدل لكنها في البحث التاريخي كانت مستقلة علميًا، وتعرف بناء المسافات العلمية مع موضوعاتها، بمعنى استقلال الباحث عن مواجد وعواطف الحدث. وحين تناولت القضايا العروبية فإنها تناولتها ضمن منظور النقد التاريخي، ولم تكن لديها أحكام مسترسلة ولا نتائج غائية تبحث مسبقًا عن البرهان عليها. لقد كانت مؤرخة مختصة. وكانت قاسمية الخبيرة بشعاب الوثائق السورية، والأدرى بما يكتنزه مركز الوثائق التاريخية بدمشق وبعض مكتباتها الأخرى من كنوز ووثائق لا يمكن للمؤرخ أن يكتب بشكل محترف من دونها، حريصةً على مواصلة هذا التقليد المنهجي الذي أرساه المؤسسون الكبار لقسم التاريخ في جامعة دمشق، بشكل موسع. وهي في أطروحتها احتذت هذا النهج فعادت إلى وثائق ومصادر يعتبرها البعض مفاجئة بينما هي مرمية على قارعة الطريق في مركز الوثائق، فقسم كبير من وثائق دراسة التاريخ السوري الحديث ما يزال على الرصيف. اختارت قاسمية في مراحل سنيّ إنتاجها الخصب نهج الاختصاص شبه الدقيق في تحقيق المذكرات وتقديمها، قدمت وحققت مذكرات القاوقجي وعوني عبد الهادي ومحسن البرازي وعادل العظمة ونبيه العظمة، وأحمد سامي السراج.. إلخ، وبحثت في أحمد الشقيري. لم يكن البرازي بينهم من رجالات الحركة العربية المباشرين، لكنه اضطلع بدور خطير في مرحلة سوريا ما بعد الجلاء وانتهت تجربته بإعدامه الاعتباطي في العام 1949 مع حسني الزعيم. كانت قاسمية في اهتمامها بالمذكرات كمصدر في كتابة التاريخ متساوقة مع عديد من المؤرخين السوريين المحترفين الكبار مثل يوسف إيبش في تقديمه العظيم لمذكرات الأمير عادل أرسلان، وكانت قاسمية كما إيبش كما المؤرخن المحترفون يعرفون بدقة قيمة هذه المذكرات وحدودها، فلقد كانت قاسمية مدربة في تكوينها بقواعد “المدرسة المنهجية” الصارمة. لقد دشّنت قاسمية تقليدًا عبر مواصلته والإلحاح عليه، وهو جعل المذكرات مصدرًا في كتابة التاريخ السوري الحديث، مع بقاء الجدل حول نوعية هذا المصدر، وفحصه داخليًا وخارجيًا. وكانت قاسمية التي تبلورت لديها الرؤية كمؤرخة محترفة تدرك ذلك على كافة المستويات، وكانت تدركه بشكل خاص بالنسبة إلى الشهادات الفلسطينية لمحنة شعبها، وألحت عليه باستمرار، وكان لها دور كبير في ذلك. فالمذكرات كانت تُبحث حتى عهد قريب من منظور جنس كتابي شبه أدبي بالنسبة إلى دارسي الأدب وتاريخه بينما قاسمية ساهمت بإعادة الاعتبار إليه في ضوء منظور المؤرخ المحترف أو المختص، كمصدر من مصادر تدوين التاريخ أو عملية الإيستوريوغرافيا. وهناك جدل كبير في هذا، لكن ليس هناك أي جدل في اعتماد المذكرات مصدرًا بعد فحصها، وهنا تحضر قيمة المدرسة المنهجية (الفرنسية) في النقد الداخلي والخارجي التي لاينبغي على أي مشتغل بالتاريخ التفريط بها، بل يجب التشدد بها في مواجهة محاولة بعض المؤرخين أو من ينتمون إلى حقله الادعاء بفلسفات التاريخ وبناء الغايات وإسداء “العبر” التاريخية. إن اهتمام قاسمية بالمذكرات يعكس بدرجة واضحة مشروعًا يتصل بشكل عميق برسالتها العلمية المرجعية عن تاريخ الحكومة العربية في دمشق، وبهذا المعنى نقصد الحديث عن حياتها بعد رحيلها، وكانت السيدة بذلك صاحبة مشروع ستبقى قيمته العلمية حاضرة ومتجددة.
______
*العربي الجديد