جيري جودا وخراب بابل


*فيء ناصر

يتجلى دور الفنان المعاصر في إعادة خلق وعكس مشاهد وتأثيرات الحياة والكون من حولنا، والفنان ربما يختار الاحتفاء بالجمال (من وجهة نظره) بطريقة تصويرية أو تجريدية او بتأثير من موروثه الديني أو الاجتماعي، وبالتالي يشارك المتلقي يومياته المرئية والمصورة واستغراقاته وهوسه الملون بحساسيته الشخصية تجاه الموضوعات المختلفة، أو ربما يختار التعبير عن الوعي الجمعي لمجتمعه الخاص أو الإنساني. ومن جانب آخر يعيد المتلقي اكتشاف ذاته القلقة من خلال الفن الحقيقي.

ولوحات جيري جودا هي استجابة مباشرة للصراعات حول العالم وتأثير العنف المروع بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية، وفي نفس الوقت هذه اللوحات تدعونا الى التساؤل: متى يكف الرسم أن يكون رسماً ؟ وكيف تخرج اللوحة عن إطارها رغم إنها ما زالت ملعقة على حائط ما؟ أليست اللوحة هي التي “تخاطب” دون أن تقول شيئا؟ إذا كان هذا هو مشروعها فحتماً ستكون في رتبة أعلى من الكلام. 
حروب الشرق الأوسط 
ويبدو أن لوحات جيري جودا تجيب على هذه الأسئلة، حين تتوسط منطقة ما بين الرسم والنحت، وحينما ينشغل الفنان ذاته بالأحداث المروعة وبالتغيير الذي يطرأ على البيئة الحضرية أثناء وبعد النزاعات والحروب، وهذا التوسط يترجرج في أحيان كثيرة، بتناغم مع الكوارث ذاتها. رسومات جيري جودا تستكشف ديناميكية البناء والتدمير ومحنة الحيرة والذهول إزاء العنف الذي بدا كعملاق شاحبٍ يهيمن على الكتل الرمادية البيضاء المستوحاة من مخلفات الحروب الداكنة، حتى عندما يطغى لون آخر على بعض اللوحات فان فجوة كونية تهيمن داخل اللوحة كما في خرائط الفضاء والفلك، من الصعب تقييم أعمال جيري جودا بمعزل عن تجليات الحروب في منطقة الشرق الأوسط، العراق وسوريا أو غزة . كما أن أصداء الكوارث الناجمة عن التغييرات المناخية والأعاصير أو الفيضانات وحرائق الغابات تتردد في لوحاته أيضا.
جيري جودا المولود في كلكتا عام 1951 والذي ينحدر من إصول عراقية (هاجر جده من بغداد ليسكن منطقة ليهود العراق في الهند)، وترعرع هو في البنغال الغربية قبل أن تهاجر عائلته الى لندن. بريطانيا ما بعد الحرب الثانية ولندن تحديداً، شكّلت صدمة الخراب الاولى لجودا الذي قضي وقته بإستعادة ذكرياته عن الهند ومناظرها الطبيعة والهندسة الزخرفية للمعابد الهندوسية والبوذية واليهودية والجوامع وتأثيرات الشعائر الممسرحة التي تقام في الاماكن الدينية، ونميّ مخيلته المعمارية بإعادة رسم هذه المعالم بقلم الرصاص والفحم. درس الفن في كلية بارنت للفنون شمال لندن (1970 – 1972) قبل أن يحصل على درجة الشرف من كلية الفنون الجميلة (كولد سميث كولج 1972- 1975) وبعدها درس النحت في كلية لندن الجامعة (1975- 1977). 
افتتح مشغله الخاص في (ويست إند) في لندن وبدأ في نحت الأعمال الضخمة، ولكي يدعم مشروعه مادياً، عمل في المسرح كمصمم للمشاهد والديكورات واشتغل لعدة مسارح مهمة في العاصمة البريطانية منها مسرح شكسبير والمسرح الملكي الوطني.
وقد وظف المسرح كساحة بصرية لعرض أعماله الفنية وحقق نجاحاً طيباً في التصاميم المبتكرة للمسارح والأفلام والبرامج التلفزيونية والمتاحف. إبتكر عدة تصاميم لمحطة البي بي سي وللقناة الرابعة البريطانية والمتحف البريطاني وإشتغل في التصاميم المسرحية لعدد من المطربين منهم بول ماكارثي ومايكل جاكسون. صمم عدد من الجسور في مدينة لندن وكامبريج. ينصب إهتمام الفنان في الوقت الحاضر على النحت المتداخل مع الرسم والذي يعكس تفكيره ومشاعره تجاه الأحداث التاريخية القريبة وقد أبدع سلسلة من اللوحات الكبيرة الثلاثية الأبعاد التي تغور عميقاً لاستكشاف تأثيرات الحروب والتخريب الذي يتسبب به الانسان على سطح هذا الكوكب . عُرضتْ لوحاته في معارض شخصية عديدة منها في التمبر يارد في لندن 2005، وفي كاليري إنجلز وفي المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين 2006. 
معرضه الأخير والمعنون (بابل) في كالري فلورز في شرق لندن، تفاجأك لوحات كبيرة معلقة أسفل الحائط لكنها تبنى من الحائط ايضا، تبدو غريبة او تسلك طريق الغرابة حين ننظر اليها من فوق، بعين طائر أو يعسوب، حيث غالباً ما تستقر هذه اللوحات في الجزء الاسفل من الحائط القريب للأرض وغالبا ما تحتوي على مشاهد مرعبة تثير الدوار. 
تكوينات من الجنفاص تبدو كأنها تُمسكْ بسطح اللوحة بسحر او بمعجزة ما، وتعرض علينا منطقة متشظية ومتهالكة من مخلفات المجمعات السكنية التي طُحنتْ وأُزيلتْ عن الوجود بفعل القنابل والصواريخ، عبر قطع فنية مائلة ومترنحة بمختلف الاتجاهات. هوائيات وأعمدة معدنية كأنها نتوءات متورمة في فرقاطة ذات ندوب مميتة، يحيطها الحطام وسط الموج. 
قطعاً إن هدف هذه التكوينات وميتغاها ليس الجمال، بل أرشفة الذاكرة الشخصية والجمعية، وهي أيضاً أرشفةً لذاكرة المكان التي إنخرطت في السياق التصويري، لتصبح اللوحة ذاتها جزءًا من سجل تأريخيٍ للواقعة، لكنها، رغم الخراب تكتسب شيئاً من البهاء في سكون تداعيها المدقع، كأنها تصرخ فينا لتنال بعض الشفقة. في هذا المعرض لا جمال يخدع عين المتلقي التي تبحث عن الألوان البراقة عادة، كل شئ مُدمرٌ ومُوؤدٌ، كل شئ يمثل الفظاعات التي تستقر في أعقاب تدمير الحياة الانسانية، الخراب هنا يُبنى كملحمة تراجيدية بلا مسرح وبلا وجود بشري كي يُمحّص الذي حدث، لا دماء مراقة ولا أشلاء متناثرة، وهذه المجمعات السكنية تتقارب حدّ التلاصق لدرجة صعوبة الرؤية في ما بينها، تميل على بعضها كما لو إنها تدعم رزيّة بعضها البعض. الهوائيات والأطباق الفضائية المحطمة لازالت معلقة، كأنها متحجرات أثرية مدفونة في نسيج اللوحة. شظايا الأبنية متضاربة ومدقوقة، تمثل العذاب البشري الذي كان يقيم فيها. الفنان جودا يعمل غالبا بلونين فقط ، الأبيض والأسود والأحمر في أحيان قليلة وهو يكثر من تقنية التكوين المبرقش البارز من السطح الذي يثير الانتباه ويشتت الذهن عن موضوع اللوحة الاصلي، باتجاه الأبعاد الخارجية، عن قصد ربما، ويبدو انه يتلاعب بتناغمات مختلفة لكن متزامنة للتشتيت البصري. إنه لايقدم الأفكار والتأملات للتزيين والتجميل كأنه يدعونا لإستثناء أعماله عن هذين الغرضين، لكنه من جانب آخر، يجتهد في خلق رؤية يقينية متوقدة وكاملة، حادة وقلقة لنظرة مركزة واحدة تُدين كل أشكال العنف. اللون البيض إذن، يخفي كل شئ، انه لون غبار الهليوم وغبار الانفجارات ولون الأشباح، وهو لون التخفي، فأبيض جيري جودا يصرخ نيابة عن كل من فقد قدرته على الكلام وسوف يشعرك بالغرابة والصمت والإنعزال. اللوحات جميعها تأخذ شكلين فقط ، المستطيل والدائري، في الشكل الدائري وتكويراته هناك إيحاءاً درامياً في عنف التداعي للمباني المهشمة، سوف تتجه العين مباشرة الى المركز لذا فالفنان شكل هذه اللوحات كمتراس يوحي برمزية العبور. 
وحين نحدق يمين او يسار هذه المباني المحطمة، نكتشف ان سطوح هذه اللوحات منقرة او مجوفة بأجزاء وأجسام متشظية أو مخدشة بخطوط غريبة، بعضها دائري أو مستقيم. كأنها تحفظ آثار سكانها الاصليين، او تخفي أسرارهم بين بقاياها. 
العبث الكوني
(الرسومات / المنحوتات) تبدأ من مصغرات كارتونية وبكل تفاصيلها مصفوفة واحداً بجانب الآخر في إستديو الفنان، كأنها نماذج لمبانٍ موحشة من مناظق الحروب، سوريا أو العراق او فلطسين. تلصق هذه المصغرات المجسمة بالنسيج الخشن لسطح اللوحة و يقوم الفنان بعد ذلك بتدميرها بقبضته فجاة، كأنه يحرر غضبه من الحروب بإعادة تصويرها. هذه القبضة التدميرية هي جوهر العمل الحقيقي والمحفز لفكرة إبتكار لوحة او إختراعها، وهو لايكف عن متاهة إغترابه حين يفتت أشكالا بناها، ليستخرج خراباً يتفاقم لينقض معناه. وبعد التدمير، يضيف الفنان الجص والأشرطة اللاصقة والصبغ والأنقاض والشظايا الزجاجية، لتتحول اللوحة بعد ذلك الى منظر جارف في تهديده. بغداد ما بعد 2003، هذا ما إستحضتره سريعا حين تأملت لوحات جيري جودا، إنبعاث موروث الحرب، الأسلاك والأطباق الفضائية التي تحكي عن موت الحاضر مثلما مات الماضي، ونعم انها لوحات تمثل خراب بغداد أو حلب، عَبّرَ عنها الفنان من خلال استعارة اسم بابل كعنوان لمعرضه، وكلما منحته خامة اللوحة فسحة اخرى امتدت أسئلته البصرية في حرية لا نهائية ورغبة للبحث عن نقاء وسط هذه الزحمة من العبث الكوني الذي تصنعه الكراهية والجيوش والسيارات المفخخة.
________
*العالم الجديد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *