*ترجمة: عدوية الهلالي
من جديد ، تعود انغريد بيتانكور لزيارة الأماكن التي لم تتعب يوما من الإعجاب بجمالها ووصفها. تلك الجامعة التي درست فيها حيث تتكدس الكتب على الرفوف العلوية بانتظار الطلبة الذين يعملون بجد طوال اليوم ..حجرة الطعام الواسعة ووجبات الطعام الجيدة ..مدير الجامعة الذي يقدمها لضيوفه المحليين قائلا : ” هذه انغريد بيتانكور ..احدى طالباتنا ، هل تتذكرونها ..انها الطالبة التي جرى احتجازها في الأدغال الكولومبية لمدة ستة اشهر ..” تبتسم انغريد لهم بشكل آلي ولايبدو ان تلك الذكرى تثقل عليها ..
بعد بضعة ايام ، تتحدث انغريد عن تجربة أسرها للجمهور في جامعتها مانجستر هاريس في اوكسفورد …انها سعيدة لأن الطالب الذي يجلس بجوارها لايرى فيها الا زميلة وليس احدى الناجيات من الجحيم ..اما الطلبة الاخرون فهم في سن أولادها ولا يعرفون شيئا عن قصتها في الغالب ..
وتشعر انغريد بانها بحالة جيدة بوجودها في انكلترا ، ففي الجامعة يمكنها طرح كل مايدور في ذهنها من أسئلة حتى أكثرها حماقة دون ان تشعر بان هناك من يراقبها ..
أمضت انغريد ثلاث سنوات في المدينة الجامعية في أوكسفورد حيث اختارت دراسة اللاهوت وكان عليها ان تختار مكانا محايدا وفكرت وقتها في يال لأن ابنتها كانت في نيويورك وابنها في بوسطن لكن المدينتين بعيديتان عن فرنسا لذا اختارت أوكسفورد كحل وسط وجيد ..وبعد إتمام دراستها والحصول على شهادة الماجستير في المذاهب الحديثة ، تحاول الآن أن تدرس علم لاهوت التحرير لأن الموضوع ابهرها كما تقول لأنه يبحث في مبادئ عقيدة ومدرسة فكرية ولدت في أمريكا اللاتينية تقول بأن الانجيل جاء من اجل الفقراء ولهم فيه درجة تفضيلية ..ولاينتهي تعطش انغريد للمعرفة عند هذا الحد لذلك اتجهت الى الكتابة بنكهة جديدة تماما ..
تناولت انغريد في كتابها الاول الذي صدر قبل اربع سنوات القصة الحقيقية والصادقة للأشهر التي قضتها في الأسر على أيدي الجماعات المتمردة في الأدغال الكولومبية ..أما كتابها الثاني الذي يحمل عنوان ( الخط الأزرق ) فهوعبارة عن رواية نابعة من خيالها تقع لديها تحت لائحة ( متعة الكتابة ) فهي تعشق الكتابة وتستهويها ممارستها وتعتبرها متعة رائعة ..
وتصف انغريد معاناتها خلال أسرها في الغابة من حالة الفراغ الفكري حيث أصبحت الكتابة بالنسبة لها وسيلة للتعويض عن الزمن الضائع وكانت النتيجة رواية ( حتى الصمت له نهاية ) التي انغمست في كتابتها باستمتاع بعد ان رافقها شعور بأن الأصعب والأقسى قد حصل ولن يحدث بعد ذلك مايفاجئها ، كما انها حرصت على نسج روايتها من الخيال لتبتعد عن الواقع الذي تعيشه ..
اختارت انغريد فترة السبعينات في الأرجنتين لتنسج منها روايتها التي تصور مصير بطليها ( جوليا وتيو ) بهيئة فصول يتعاقب فيها الماضي والحاضر بشكل متوازن ..
والبطلان جوليا وتيو من الشباب المؤيدين لحركة مونتونيرو التي عارضت الدكتاتور في الأرجنتين آنذاك والتي كان اغلب اعضاؤها مسجونين وتم القضاء على عدد كبير منهم ..ويصور الكتاب الحرمان من الحرية والالتزام السياسي والنفي وقيمة التسامح ، ورغم انه يحمل صفة رواية إلا انه أشبه بوثيقة تاريخية يمكن استخلاص بعض أوجه الشبه فيها بين قصة الرواية وقصة الكاتبة الحقيقية ، فهي تدرك جيدا بان لاشيء يمكنه إيقافها رغم محاولاتها لتغطية آثارها ..وتبدو أوجه الشبه بين شخصية البطلة جوليا والكاتبة انغريد واضحة أحيانا لكنها لاتروي قصتها في حقيقة الأمر ..
وتقول انغريد انها فكرت في الكتابة عن الأرجنتين لوجود تشابه مع الواقع الكولومبي لكنها استوحت الشخصية الرئيسية من امرأة كانت قد ارتبطت معها بصداقة وكان قد تم اعتقالها وتعذيبها فعلا ..وتصف انغريد كيف انها عملت على تغذية كتابها بالكثير من الأشياء التي أثارت اهتمامها وكانت لديها رغبة بالاستكشاف عن طريق الكتابة لذا جمعت أدلتها ووثائقها وكانت قصتها الخاصة قد جعلت منها شخصية مرهفة وحساسة تجاه كل من عاش خلال فترة حكم الديكتاتور ..ورغم ان انغريد تم اختطافها على يد منظمة تنتمي لأقصى اليسار وتم اعتقال صديقتها الأرجنتينية على يد دكتاتور من اقصى اليمين إلا أن ذلك لايعني عدم وجود تشابه بين الحالتين فهذه الجرائم ليست لها أيديولوجية محددة وأهدافها دائما تصب في إيذاء المواطنين الأحرار ..
وتعترف انغريد ان موضوع رواية ( الخط الأزرق ) ارغمها على الخروج من حالة التقاعد عن الكتابة فهذه الرواية ستسمح لها بالحديث عن الثورة والحرية بطريقة مختلفة تماما فهي مفتونة منذ طفولتها بامتلاك حريتها الخاصة وتعتبر الثورة مقامرة مجنونة تغلفها المخاطر لكنها ضرورية احيانا للحصول على الحرية والحفاظ عليها ، كما انها تدافع في روايتها عن حق المرء في اختيار عواطفه وردود فعله فهذا نوع من أنواع الحرية ، ومن خلال بطليها جوليا وتيو حاولت انغريد إيضاح هذا المبدأ ووصف مشاعر الكراهية والانتقام والمرارة لمن يفقد حريته من السجناء والأسرى وصعوبة الغفران والمسامحة في آخر الأمر لمن كان السبب في ذلك ..
من جانبها ، تشعر انغريد بانها تمكنت من تحرير نفسها بعد ان غفرت لخاطفيها فعلتهم ورغم الكوابيس التي تحاصرها حتى الآن إلا أنها تشعر بتصالح مع مشاعرها ..
ويمثل كتاب انغريد ( الخط الأزرق ) الصادر مؤخرا من دار غاليمار للنشر بـ (355 ) صفحة دعوة من الكاتبة للقراء لإضفاء المصداقية على روايتها التي تحفل بالخيال والواقع كواحدة من روايات ماركيز التي تنتمي الى الواقعية السحرية ذلك أنها نابعة من أعماقها ومن صميم تجربتها الاستثنائية ..
_________
*المدى