غرابيل و مقاعد فارغة!


*ماجد شاهين

( ثقافات )

( 1 ) مملوء بشيء فارغ ! 
المقاعِد ُ ، فارغة كانت أم مملوءة ، تثير الأسئلة و تستدعي التمحيص والتدبّر والتروّي .
المقاعد صنفُ منها فارغ ٌ ، وصنف ٌ آخر مملوء ٌ .. هذا وصف للحالة المادّية للمقاعد .
لكنّ التوصيف الأشدّ عمقاً ، يكمن في أنّ هناك مقاعد فارغة مملوءة ، و مقاعد مملوءة فارغة ً !
الفارغ المملوء ، ذاك ما نراه بلا أحد ، في التصنيف الجسديّ ، أي ْ لا أحد يجلس عليه الآن ، لكنّه مملوء بهالة ٍ آدميّة لها إدهاشها .. وإذا تفحّصنا الحكاية نجد أن شخصاً ذا وزن ٍ و قيمة كان يجلس على المقعد وحين غادره لم تغادر هيبته أو شخصيّته .
( يغادرون نعم ، لكنّهم يتركون أثرهم و تأثيرهم وحضورهم في المكان ) . 
….
أمّا المقاعد المملوء الفارغة ، فتلك يجلس فيها أشخاص ، أو نراها محشوّة ً بأجساد آدميّة ، لكنّنا لا نراهم ولا يتركون أثراً ولا يحدثون فرقاً . 
( 2 ) في التبويس الاجتماعيّ !
ردم ُ الفجوة 
تضييق ٌ المسافات 
جسر ُ الهوّة 
رأب ُ الصدع 
تقريب وجهات الرأي
ترطيب الأجواء 
تمتين العلاقات 
تطييب ُ الخواطر 
إزالة ُ العقبات 
طيّ صفحة الخلاف .
* ما ذُكر آنفاً / سابقاً ، يقع في سياق مجموعة اصطلاحات / تعابير / مفاهيم / ألفاظ لغويّة … تدّل إلى فكرة واحدة لها علاقة بإجراء مصالحة بين شخصين أو شخص و مجموعة أشخاص أو بين مجموعتين من الأشخاص أو بين عائلات وهكذا .
• في مواسم الانتخابات والفزعات و المنافع الاجتماعيّة ، وفي الأماكن كلّها ، يكثر تداولُ وتناول ُ هذه التراكيب اللغويّة وغيرها .
.
• ويالمناسبة ، هذه أفعال ، حين ينجح الوسطاء في إحداثها وإجرائها ، تنتهي بالتبويس والاحتضان .
• أقترح أن نسمّيها بـــ ِ : أفعال التبويس الاجتماعيّ .
( 3 ) غرابيل !
الغرابيل ( مفردها غربال ) لا تنفع لكي تحجب ضوء الشمس ولا تنفع لكي تجمع الماء و الشمس التي تشرق على الناس ، لا أحد يستطيع احتكار حيازتها / امتلاكها .
• الشمس تشرق لكي تمنح الضوء للناس كلّهم ومن دون استثناء !
• وفي كتاب الدنيا ودفترها الكبير ، نقرأ : 
” مهما حاولنا الاختباء وراء الجدران لنخفي ضوء الشمس ، فإن ّ الآخرين يستقبلون الشمس و يفرحون لحضورها ولا يغلقون دونها الأبواب ، وإن بدت لاهبة / حارقة ” .
… أمّا في سيرة الغربال الذي لا يحجز الماء ولا يمنع ضوء الشمس ، فالحكمة تقول : ” من غَرْبَلَ الناس َ ، نخّلوه ” ! ، أي سرّبوه من شقوق وثقوب أصغر من ثقوب الغربال !
( 4 ) لاعبو المسرح ! 
المسرح ُ يمتليء الآن عن آخرِه ِ بالممثلين .. المسرح فاض َ باللاعبين ، منهم من يتمرّن للوقوف على حوافّ المشهد ومنهم من ينتظر فرصته في اللعب ومنهم من رفع الجمهور بطاقة حمراء في وجهه !
… الجمهور قد يغيّر شروط اللعبة ، إمّا بمغادرة المسرح أو بطرد المخرج وكاتب السيناريو و كثير من الممثلين الزائدين عن الحاجة .
… الارتباك سائد في المشهد ، و الوجوه يابسة وعابسة و فيها تقطيب و وجوم وألوان غير اعتيادية … العارفون في أصول اللعبة الفنيّة يقولون أن الخراب كلّه وقع بسبب من غياب ” مسؤول المكياج ومصمّم الملابس والرقصات ” ، فاختفاؤه أتاح فرصاً لتكريس الفوضى .
….
المسرح ازدُحِم ، والجمهور يغرّد على هواه ، والممثلون أضاعوا النصّ و يعالجون المشهد بالارتجال .
( 5 ) وشايات ناقصة ! 
الذين مرّوا بالقرب من شبابيكنا ، لم يكونوا أتقنوا القراءة والكتابة بعد ، و لم يكونوا تمرّنوا على التقاط نُتف الكلام أو سطور الحكايات ، فخرجوا بــ ِ ” وشايات ناقصة ” أو بــ ِ ” رسائل من دون عناوينها ” .. خرجوا ولم يحصدوا ثمراً يليق بــ ِ ” وشاية دسمة ” أو ” نميمة بأرداف عريضة واضحة ” !
.. الذين اعتادوا التلصّص ، فشلوا مرّتين و خسروا مرّتين ، فشلوا في التقاط ما يجعلهم في الواجهة و فشلوا في كسب أو حصد أو نَيْل ِ ما كانوا يسعون إليه .. و خسروا مرّتين ، في الخسارة الأولى لم ينالوا رضا أنفسهم عن أنفسهم و لا رضا من يشتغلون لمنفعتهم .. أمّا الخسارة الثانية فتلك الفادحة ، لأنّهم خسروا الناس .
.. قد تخسر تجربة مع أحدهم ، مع شخص واحد ، فتحاول المبادرة من جديد وتكرّرها ، لكنّك لن تستطيع إعادة المحاولة حين تخسر الناس كلّهم .
تلك مأساة من لم يتقنوا فنون الوشاية و كذلك مأساة من أيقنوا أن درب الوشاية مربح و نافع ٌ فأوغلوا في عتمته و لم تنفع معهم محاولات التراجع .
( 6 ) تصنيفات بليدة ! 
إنّ من أبرز و أخطر أسباب تراجع الحوار الفكري العربي و غياب كثير من مدارس و مؤسسات النقد و التقييم والتقويم والمراجعة ، ما آلت إليه أحوال المشتغلين في الحقول النقدية و بخاصة في ميادين النقد الاجتماعيّ ، في أن ّالساحات العربيّة 
، و في السجالات الفكريّة و المقاربات النقدية للمنتج الفكري أو الثقافيّ أو الكلاميّ أو الاجتماعيّ ، تشهد محاكمات للأشخاص بعيداً عن إنتاجهم !
.. يحاكمون الأسماء دون النظر إلى ما تنتجه من معرفة و فكر و رأي و سلوك .
..
التصنيفات ، لا تزال بليدة ، كما كانت عليه منذ سنوات ، و قلنا في حينه كلاماً كثيراً عن ذلك ، و نعود ونختصر القول في أن ّ الناقدين الاجتماعيّين والثقافيّين والفكريّين يحاكمون بعضهم البعض على أساس اللون والعرق و الاسم و الجغرافيا و العلاقات البينيّة و سواها ، فيما لا تؤخذ الأفعال والنتاجات على محمل الوضوح والجد .
( 7 ) شؤون الجسد !
خائط الملابس الفاشل ( الخيّاط الذي يخوط ) ، يرجع أسباب فشله إلى أن ّ زبائنه لم يلتزموا نمطاً غذائيّاً محدّداً وغالباً ما تختلف حجوم وأوزان و أشكال أجسادهم .
أقترح أن تقوم علاقة فنيّة تشاوريّة بين الخيّاط وطبيب تغذية مختصّ و مؤسسات لها علاقة بالغذاء والدواء والقماش و شحّ القماس وأرباع الفساتين و أخماس القمصان و كلّ ما يتّصل يالشفط و اللهط و البطاطا .. وذلك للحفاظ على ” رشاقة وطنيّة وشعبيّة ” تنفع يوم يكون السباق إلى الهروب أو حين نولّي الأدبار إلى اتجاهات لا نعرف عنها شيئاً .
لا تلوموا الخيّاط ، 
فإذا كان هناك ناقدون فنيّون ، وناقدون اجتماعيّون و ناقدون أدبيّون وناقدون سياسيّون وناقدون حلمنتيشيّون … فإن : الخياط ناقد متخصص في شؤون الجسد !
( 8 ) معارك خاسرة ! 
العائدون من المعارك الخاسرة ، أو المهزومون ، في الأغلب الأعم ّ يرجعون إلى بلادهم و يدخلونها من الأبواب الخلفيّة أو المواربة أو يتسلّقون الأسوار .
… 
في الهزيمة ، ثمّة انتصارات يمكن تسجيلها ، والانتصار في الهزيمة يبدأ من اعتراف المهزوم بأن ّ استعداده للحرب لم يكن كافياً و بأن ّ خسارته كانت لتقاعسه أو لجهله أو لسوء نيّته .. و لا ينفع أن يحيل خسارته ويرجع أسبابها إلى ” مؤامرة دبّرها آخرون ” .
..
لا ينفع أن يسعى المهزوم إلى ” الإيقاع بــ ِ أو توريط ” آخرين .
( 9 ) خلاصة الدهشة ! 
قد تنفع ُ كتابتي هنا ، ولا تنفع هناك .. و قد تصيب استحساناً هناك و لا تنال قبولا ً هنا .. و قد يرضى بها هذا ولا يقبل بها ذاك ، و قد تتحدث عن شأن عام ٍ هنا و عن شأن ٍ خاص ّ هناك .. ذاك منوط بعناوينها و بمزاج الكاتب والمتلقي و بأحوال الكلام والكتابة .
.. ما نكتبه متّصل ٌ ، بالضرورة ، بأحوالنا النفسيّة و دهشاتنا المخبوءة و أمزجتنا التي تصعد هنا وتنخفض هناك .
نكتب لــِـ / عن شارع ٍ لتقرأ عنا مدينة ، ونكتب عن مدن ٍ كثيرة لكي يقرأ بوحَنا شارع ٌ أو زقاق !
نكتب عن شجرة لكي تقرأنا دالية و نكتب عن زيتونة لكي تقرأنا بيّارة .
نكتب عن امرأة لكي نبعث رسائلنا إلى نساء كثيرات ، أو نكتب عن نساء كثيرات لكي تقرأنا امرأة واحدة !
نكتب عن مدينة ٍ نحبّها لكي نرى البلاد كلّها ، ونكتب عن البلاد كلّها لكي ترانا مدينة نحبّها !
الكتابة فعل ٌ حينا ً وردّات أفعال أحيانا ً أخرى ، و أنا لا أكتب بحبر غيري حين ينفقد منّي الحبر أو ينفد !
.. لا تقرأوا ما أراده الكاتب من كتابته ، بل اقرأوا ما تريدون رؤيته في الكتابة .
الكتابة دهشة الكاتب والمتلقّي ، فاقرؤوا ” خلاصة الدهشة ” و ابحثوا عمّا تريدون ، لا عمّا يريده الكاتب .
2014

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *