*مايا الحاج
لم تكن الجزائرية ربيعة جلطي تطمح إلى مزيد من الشهرة والحضور الأدبي، حين اختارت أن تتجّه من عالم الشعر إلى النثر، إنما كانت تُحقق رغبة دفينة في رسم شخصيات وحيوات وأمكنة وأزمنة أخرى تتوازى مع عالم واقعي تعيشه. فجاءت روايتها الأولى «الذروة» (2009) نذيراً بثورات عربية شعبية قد تشتعل من غير أن تقود في النهاية إلى خاتمة مبشرّة… عن روايتها الجديدة «عرش معشق» التي انتقدت فيها تفاصيل مجتمعنا العربي ورأيها في القضايا الأدبية والسياسية الراهنة كان معها هذا الحوار:
> تعتمدين في رواياتك على مزج التاريخ بالواقع والذات بالعام، وهذا ما وسم روايتك الجديدة «عرش معشق». فإلى أي مدى يمكن الواقع أن يكون مرآة للتاريخ؟
– يحدث كثيراً أن أتأمل في واقعنا العربي الذي لا يخلو من آلام وفجائع، وأتصور أن التاريخ هو العلبة السوداء التي تبقّت من الارتطامات الموجعة، ومن دون قراءة متأنية ثلاثية الأبعاد، لا يمكن فكّ لغز الحطام الذي نعيشه. أجل، أوافقك أن التاريخ والواقع يتماهيان في رواية «عرش معشّق» كما في أعمالي الأخرى، لأنني أؤمن بأنّ الراهن الذي نكتب عنه وفيه، يتموقع بين انكسارات سحيقة وانتصارات ناقصة. والواقع هذا لا يمكن فهمه من دون النبش في مكونات طبقات التاريخ الجيولوجية المتراكمة عبر الأزمان والتجارب.
> ما الرمزية التاريخية التي يُمثلها عنوان «عرش معشق»؟
– «عرش معشّق» هو ذاك الهيكل المصنوع من الزجاج المعشّق، وتختلف شخصيات الرواية في نسبه وعهده. وقد صُنع هيكل عرش معشق من زجاج نوافذ كنيسة المريمية ونوافذ جامع الأمويين كمؤشر الى شرق متنوّع نفتقده شيئاً فشيئاً. يعود هذا الهيكل إلى ملكية الأمير عبدالقادر الجزائري أثناء إقامته في دمشق. وهو في الوقت نفسه يرمز إلى تلك الحادثة التاريخية المعروفة في حقن دماء المسيحيين المهددين في دمشق. مع الأسف ما كتبته في «عرش معشّق» قبل سنتين يحدث الآن في مدينة الموصل في العراق التي تشهد أياماً عصيبة هذه الفترة بسبب تهجير مسيحيي المدينة ظلماً وجوراً.
> يُمكن قارئ روايتك الأولى «الذروة» أن يلتمس فيها تبشيراً مبكراً بالثورات العربية، باعتبار أنّ الثورة الشعبية شكلّت الحدث الذي تُقفل به الرواية. هل كان لديك حدس بضرورة قيام ثورات في بلاد يحكمها الديكتاتوريون والفاسدون مثلما حصل في الرواية؟
– كتبت» الذروة» بين عامي 2007 و2008، وكان حينها يستفزني حال الدول العربية وتحديداً إبعاد أو إقصاء الكثير من المبدعين عن الهمّ المركزي، والانكفاء حول الذات المصابة بمرض الغرور والفردية. الأمر هذا جعلني أخاطب غارسيا لوركا، الشاعر الشجاع الذي حرمته «الفرنكوية» حتى من حق القبر، فكتبت: «لوركا… أيها الشاعر البلا قبر… إن سألت عنا، ففرانكو يقتصّ منا…». أنا أومن بأن الكتابة بمعزل عن محنة الإنسان، والإنسان العربي بوجه خاص، هي مجرد ثرثرة. إنّ الكتابة الأدبية شهادة على عصرنا، شهادة على الذات والمجتمع. فالكتابة الروائية تظلّ في مماحكة مع الواقع حتى وهي في أعلى قمم الخيال وأبهى فنون التخيّل، من خلال حكايات العشق وجنونه، الجمال وجبروته، السلطة وبريقها ودسائسها، الخيانة والوفاء، الموسيقى والأغاني والألوان، الأسماك والعصافير… وكلّ ذلك يصب في ما يعتمل به هذا الزمن، ومنه محنة عالمنا العربي المنهار والذاهب نحو الانحطاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أدّعي أنني حاولت أن أقرأ هذه المحنة عن قرب من خلال تجربتي الذاتية المتمثلة في أسفار ومعايشات للواقع وفهم ومحاورة للتاريخ. لقد كشف النقاد والقراء في «الذروة» تلك المقاربة للزلزال الذي اعتمل في صدور ضاقت بما لا يقال ولا يطاق، واكتشفوا من خلالها أيضاً ذلك التنبؤ بالثورات أو الغضب الذي كسر القيد حول الرسغ.
> هل تعتقدين أن الثورات العربية ارتقت إلى أحلام شعوبنا المكبوتة؟ وما هي العوائق التي حالت دون بلوغها الذروة؟
– تؤكد ياقوت، إحدى بطلات «الذروة»، وهي إحدى قريبات «الزعيم» الديكتاتور أنّ لا شيء سيتغير بما أن الديكتاتورية قد استطاعت أن تئد المعارضة السياسية وتشوّه النقابة وتفتت وحدة النخب، فمنهم من تشرد ومنهم من سجن ومنهم خان. وتبقى نهاية الرواية مفتوحة على الفجيعة عبر سخرية سوداء تتجسّد بتولّي «الشاذ» السلطة. فالثورات التي استبشر بها الكثيرون خيراً كان جلياً أنها ذاهبة نحو الهاوية… ماذا يمكن أن ننتظر من قطار من دون رأس، يدبّ فوق سكة على جسر بين جبلين.
> تلعب المرأة الدور المحوري في رواياتك. هل اختيار الشخصيات الأنثوية في أعمالك الإبداعية هو تعويض عن ذكورية مجتمعٍ تنتمين إليه؟
– كما في رواياتي، تلعب المرأة في الواقع أيضاً دوراً أساساً ومحورياً، لكنه ليس بالضرورة إيجابياً. فالمرأة ليست مظلومة دائماً في رواياتي ولا تتباكى دوماً على حظها المشؤوم، وأحياناً تكون النسوية «ألعن» من الذكورة، ذلك أنها تمارس إعادة إنتاج العادات والتقاليد والأعراف التي تحرم المرأة من إنسانيتها. ففي الثقافة المتوارثة داخل الفضاء النسوي تُرضِعُ المرأة الولد الشعور بتفوقه الجنسي منذ الحداثة، وتوقظ الحميّة الذكورية من حولها. ونظراً الى تدني الوعي، كثيراً ما تمارس المرأة إنتاج بل إعادة إنتاج الإيديولوجيا الذكورية.
> غالباً ما تضعين بطلاتك أمام تحديات مجتمعهن وتعقيداته. فما هو التحدّي الأصعب الذي تواجهه المرأة الجزائرية اليوم؟
– بقناعة فكرية، لست أفصل في كتاباتي هموم المرأة عن هموم بقية مكونات المجتمع. الرجل ليس عدو المرأة، لا غصة لدي تجاه الرجل ولا نقمة، فمن الرجال من هم أكثر رحمة بالمرأة من المرأة نفسها، بل إنني أدين ظاهرة التخلف الذي أعتبره العدو المشترك لهما معاً. التخلّف والجهل والقدرية والاستكانة الفكرية والكسل العقلي… إنها كارثة حقيقية ترخي سدولها على مجتمعاتنا، وهو زلزال يهددنا جميعاً، وعليك أن تتصوري ارتداداته على الأجيال الآتية. إنّ المرأة الجزائرية ليست معزولة في فقاعة، بل تكاد نساء الأرض جميعاً يحلمن بمجتمع تتسلط فيه الكرامة والعدالة والحب والجمال والأمومة والسلام والإخاء والتسامح.
> انتقدت في روايتك الأخيرة المجتمع العربي الذي يُقدّس المظاهر الخارجية في حين أنّه مهترئ ومتعفّن من الداخل. أيّ فصامٍ يعيشه عالمنا العربي برأيك؟
– فصام في مفاصل الحياة الاجتماعية، ومنها الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكلما اقترب أحد المجتمعات العربية من تحقيق نوع من الانسجام والتميز، خرج له بقدرة مقتدر عفريت من القمقم يحلل ويحرّم ويتوعد وينذر ويفتي في لباس المرأة ومشيتها وفي قوانين العلاقات البشرية والدولية وفي شروط السياحة وفي الطب الشرعي والرقية والشعوذة والسحر وغير ذلك… فيعود المجتمع «الشارد» إلى المربع الأول حيث بقية القطيع، «فيرتاح الفرطاس من حك الرأس»، كما يقول المثل الشعبي الجزائري، فيرتاح الجميع إذ كلنا في التخلف عرب!
> هل ترين في الصحراء مجتمعاً مثالياً هو أكثر تحضراً من المدينة نفسها، كما صورت لنا روايتك «نادي الصنوبر»؟
– لعلّ شخصية عدرا، المرأة الطارقية الفاتنة العاشقة والمعشوقة بغوايتها الصامتة الضاجة تجيب على ذلك، فقد جاءت إلى الشمال من عمق الصحارى، مما تبقى من نظام أميسي تحتل فيه المرأة مكانة السيدة، ومن ثم تنتقل إلى الخليج قبل أن تعود إلى العاصمة الجزائرية ومنها الى الصحراء. هي تفضح – عبر حضورها المتأمل والقوي وعينها الناقدة والنافذة – حياة الزيف والتخلّف والظلم المستشري في المجتمعات العربية ومدن الشمال الكسولة ذات الواجهة «المتحضرة»، والتي تعيش فقط على ما تشفطه من نفط الصحراء المنسية، تنقله البواخر العملاقة والقنوات الباطنية منها والظاهرة، الشرعية منها وغير الشرعية نحو بلدان بعيدة، بينما يعيش من هم فوقها حياة الفقر والجحود الذي أدى في السنوات الأخيرة إلى فورة غضب، وهو ما عبر عنه أحد القرّاء بأن «نادي الصنوبر» مثل «الذروة» أنذرت بغضب أهل الجنوب، جنوب ينتج الذهب ويغرق في الفقر.
> بعد ثلاث روايات متتالية، هل يمكن القول إنّ ربيعة جلطي التي حفرت اسمها في الشعر قد انتقلت نهائياً إلى عالم الرواية؟ وما الذي منحتك إيّاه الكتابة الروائية بالمقارنة مع الشعر؟
– الشعر قدري وكينونتي ومركز توازني الإنساني والأدبي. إنه يشكل جوهر حساسيتي تجاه اللغة والطبيعة والحياة والأشياء والناس والمخلوقات جميعها. الشعر بالنسبة إليّ في جوهره هو الهالة الخفية التي تطوقني وتمنحني حاسة سادسة قوية مدوخة للتأمل والنفاذ إلى الأعماق. أما الرواية، فقد تريثت عشريتين من الزمن عن غواية نشرها إلى أن امتلأتُ برغبة تفصيل القول السارد، والشخصيات، والحيوات، والمكان، والزمان، وربط العقد وتفكيكها. ولأنني قارئة نهمة للرواية منذ صغري، وباللغات الثلاث: العربية والفرنسية والإسبانية، حاولت قدر الإمكان أن أكون مختلفة، واستفدت من حاستي الشعرية في نبذ التمطيط والتكرار والحشو والعمل على اقتصاد اللغة. وفي غياب النقد الجادّ البعيد عن الشللية وأمراض الزمالة، فإنني أسعد بالقراء الذين يتابعون رواياتي ويقرأونها ويُقبلون على شرائها، مما أدى إلى اختيار اثنتين من رواياتي «الذروة» و «نادي الصنوبر» في المراتب الأولى بين الروايات الجزائرية والعربية لعامين متتاليين 2012 و2013. ولأن للشعر سحره الدائم عليَّ، فسأصدر قريباً مجموعة شعرية بعنوان «في وضح الليل». ولديّ رواية كتبتها قبل سنة ونصف السنة، لكنها ما زالت تتعتّق بهدوء في الجرار.
_________
*الحياة