*حاوره في عمّان ـ عاصم الشيدي –
تبدو قراءة المفكر المعروف الدكتور فهمي جدعان منطقية جدا للواقع العربي، ومستمدة مع فعل عملياتي في الشارع العربي، ولكنها قراءة في الوقت نفسه كارثية للحال العربي. ويحتاج واقعنا إلى مثل هذه القراءات التي قد تحيي شيئا في النبض العربي المأزوم. كنت أسير في وسط العاصمة الأردنية عمّان مع بعض الأصدقاء عندما التقيت بالدكتور فهمي جدعان في مكتبة الأهلية يبحث عن رواية «البؤساء».. ورغم أنها المرة الأولى التي التقيه فيها إلا أن ثمة ودا كبيرا يحتفظ به جدعان للعمانيين من يوم كان يعمل عميدا لكلية الآداب في جامعة السلطان قابوس في سنواتها الأولى. دار حديث مقتضب ولكنّ تواعدنا على حوار وحديث مطول عن المشهد العربي. وعلى مدى ساعتين كان هذا الحوار في وسط عمّان العاصمة.
• نتحدث معك دكتور فهمي جدعان وخطاب الطائفي والمذهبي في العالم العربي يعيث فسادا وارهابا وتكفيرا وحقيقة تدميرا أيضا. كيف تقرأ هذا في ظل تبني هذه الجماعات لخطاب إسلامي وإنْ كان شكليا؟
اقرأه في حدود التحولات التي جرت في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر. طبعا في إطار الفكر الحديث عندما نتكلم عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفعاعة الطهطاوي طاهر حداد كنا في إطار تصورات مدنية أو تمدينية حضارية تقدم الإسلام في العالم الحديث على أساس أنه منظومة من العقائد والقيم الموافقة للعصر الحديث وللقضايا المركزية التي يتقلب فيها العالم الحديث.. كانت الاهتمامات نظرية إلى حد بعيد مع اهتمامات حضارية: إصلاح اجتماعي أخلاقي اقتصادي وإصلاح سياسي ولكن في الواقع السياسي لم يكن هو المتقدم على الاعتبارات الأخرى طبعا نحن نعلم إنه في القرن التاسع عشر كله والعشرين تعرضت الأمة العربية لعملية ثأر تاريخي، بمعنى أن الغرب سواء كان في أشكاله العنصرية أو السياسية الاستعمارية أو في أشكاله الدينية المتصلبة، هذا الغرب شعر أو كان يشعر بالوطأة أو الآثار العميقة التي خلفها الوجود الإسلامي في عالمه الخاص.. كان هناك فتوحات ولكن في عيون الغرب هو غزو واستعمار بشكل من الأشكال. مناطق كبيرة جدا كانت خاضعة للتراث اليهودي والمسيحي أو الروماني الحديث مناطق كبيرة كانت قد دخلت تحت الحكم الإسلامي قبل العثمانيين ومع العثمانيين، طبعا الذاكرة الغربية لم يكن لها أن تنسى أو تهمل شيئا من هذا. حدثت ردة الفعل فكانت الحركة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتعزيز هذه الحركة بإيجاد «دولة إسرائيل» في العالم العربي تمهيدا لإضعافه وتمزيقه والسيطرة عليه بشكل أو بآخر. العملية لم تكن عملية نظرية أصبحت عملياتيه مرتبطة بالفعل ومرتبطة بالسياسة والتغيرات الجوسياسية والاقتصادية، وظفر الغرب قوة ماحقة عمليا معززة بالحداثة العلمية التقنية أو ما يسمى الذرائعية الأداتية التي جعلت الأرض القوة المهيمنة في العالم والقوة الأكبر، والغرب يلاحظ دوما أن هذا العالم الذي احتله وأصبح يعي الواقع الجديد واقع الاستعمار.. التخلف والجهل والفقر وأن فيه قد نبتت حركات قومية أو حركات تنويرية أو حركات مضادة سياسا للغرب ووحدوية، فكرة الوحدة بالنسبة للغرب تمثل هاجسا مرعبا.. في اعتقادي لا يمكن للغرب أن يسمح باقامة دولة موحدة، محاولة الناصرية تم اجهاضها من الداخل ولكن كانت مدعومة من الخارج.
مجمل التحولات في نصف القرن العشرين وفي مطالع القرن الحادي والعشرين أصبحت تحولات من النظري إلى العملية.. يعني إلى السياسي وبالتالي المخاطر السياسية والاقتصادي والجيوسياسية أصبحت حاكمة في الموضوع، النظم الوطنية هذه لم تكن قادرة على مجابهة الأوضاع ولا عن حل مشاكل مواطنيها في كل القطاعات، إضافة إلى التبعية للقوى الخارجية، إضافة إلى المشكلات الحياتية التي كانت كل الأقطار العربية عمليا، باستثناء دول الخليج، ترزح تحتها، كانت هذه الأقطار مريضة اقتصاديا وحياتيا وهذا ولد تيارات مختلفة جديدة من بينها تطور حدث داخل النزعة الإسلامية التي كانت عمليا متبلورة، وبدت بالتبلور بعد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء السلطنة وإلغاء الخلافة عام 1922 وبعد إلغاء الخلافة بخمس سنوات ظهرت حركة الإخوان المسلمين، حركة الإخوان المسلمين بدت حركة اجتماعية، حركة هدْي ولكنها في حقيقة الأمر كانت تنظر إلى فكرة دولة دينية أو بدلا من الخلافة التي دمرها أتاتورك والعلمانية الغربية. طبعا هذه الحركة قويت وتطورت وغنيت وأصبحت خطيرة لأنها أخذت بعدا سياسيا. وفي داخل الحركة نفسها ونتيجة للاجهاضات التي تدخلت والعسف السياسي، وملاحقة هذه الحركات، ظهر التطرف على تخوم هذه الحركة بظهور عدد من المفكرين والمضطهدين سيد قطب بالدرجة الأولى الذي كان مبدأ لتيار ينتمي أو يتعلق بفكر المودوي الهندي فكرة الحاكمية التي تحول كل شيء من أخلاقي اجتماعي حضاري إلى سياسي وإلى سياسي عنيف. السيد قطب عمليا هو الذي ابتدع هذا الطريق. ثم دخلنا في جو صراعي: صراع عملي، صراع سياسي وكان لا بد أن يتفجر من الحركات السياسية العنيفة نتائج عملية عنيفة، لذلك وجدنا هذا الجنوح إلى اختيار الطريق الأقصى، طريق العنف المادي. ولكن «النظم الوطنية» لم تحل المشاكل، والوطأة الاقتصادي تتعمق، بالإضافة إلى الفساد والاستبداد كان لا بد سواء حدث هذا مع الربيع العربي في السنوات الماضية أو فيما بعد كان لا بد أن يحدث ما حدث.
حدث في 2011 عمليا ولكن لا ننسى ما حدث في أوائل القرن: غزو بغداد، تدمير العراق.. تمزيقه إلى دويلات والآن يتحقق ذلك والعراق اليوم أمام مرحلة تقسيم واضح: كردي شيعي سني، وهذا كان عاملا اضافيا جديدا لتصعيد الصراع وتحويله إلى عنف لأنه تبين أن الحلول السلمية لن تجدي.. هذه النظم متمترسة في الفساد والاستبداد ويتعذر تحويلها وتغيرها بطرق آمنة أو بطرق سلمية.
• ولكن حدث تطرف؟
بكل تأكيد.. التطرف واضح أنا في اعتقادي حدث تبدل في مفهوم الناس للإسلام نفسه. الإسلام حين جاء في التجربة التاريخية بعد فترة الفتوحات التي كان القصد منها تعزيز وجود الدين في العالم ولكن بعده كانت هناك المرحلة الحضارية. في المرحلة العباسية كان هناك عصر حضاري وعلمي وثقافي.
هذه الصورة الحضارية التي تعززت للإسلام في القرون العباسية وجاء التدخل العثماني ليعود للغزو عمليا وليعقّد الحالة الإسلامية ولكن العرب ظلوا في حالة انزواء. في ظل الدولة العثمانية حدثت عملية التهميش للعرب. وهي في الحقيقة من ناحية حمت العرب من الانقراض بمعنى من المعاني، ولكنها من ناحية أخرى أعطت وفتحت المجال لوقوع الأقطار العربية تحت فريسة وضحية الاستعمار الغربي. الدولة العثمانية سقطت، سايكس بيكو تحققت، الدول العربية مزقت وجزئت وخضعت للاستعمار، وهذا نتيجة لسقوط الدولة العثمانية بكل تأكيد لو أن الدولة العثمانية قوت العرب، لو أنها أعطتهم حقوقهم وجعلت منهم مجتمعات اقتصادية وعلمية!! ولكن الدولة العثمانية كانت دولة عسكرية، دولة مجد تريد القوة والدليل أنها استأنفت الحرب في أوروبا. القرن العشرين: أواسط القرن العشرين بالتحديد إلى بدايات القرن الحادي والعشرين حدث التحول الكبير وأيضا التبدل في مفهوم الإسلام نفسه، الاسلام لم يعد الديانة التي تعني أخلاقا وتقوى ومعاملات إنسانية وإنما أصبح مطلوبا منه أن يكون قوى سياسة عسكرية قادرة على القتال والصراع وعلى النصر لتحقيق المثال القديم الذي حلم به حسن البنا وحلم به قادة الإخوان المسلمين الذين ظهروا على حواف هذه الظاهرة في هذه الحركات والمجموعات القليلة المحدودة ولكن الراديكالية العنيفة.
تبدلت صورة الإسلام من دين إلى سياسة من عقيدة دينية إلى أيدلوجيا. لم يعد الإسلام دين إلا عند عامة المسلمين والاتقياء ولكن التيارات الكبيرة جدا من الشباب. أصبح إيديولوجيا، أصبح حزبا وجماعات مقاتلة لتحقيق فكرة الدولة الإسلامية.
•لماذا؟ ما هي أسباب كل ذلك؟
طبعا الأسباب واضحة. هناك سوء فهم للإسلام نفسه وعدم تمييز بين ما هو ثانوي وبين ما هو جوهري في الدين الإسلامي، بين ما هو ثابت ومتغير بين ما هو متغير وأبدي. وانتزعت من النصوص الدينية سواء القرآن أو الحديث مجموعة من النصوص التي تعزز مفهوم المقاتلة والجهاد العنيف وليس الجهاد الروحي والعقلي. في عدد مهم من النصوص الدينية القرآنية والحديثية يجنح بهذا الاتجاه وهي نصوص مرتبطة بوقائع تاريخية ولكن انتزعت من سياقاتها التاريخي وعممت وألحقت بالزمن الحاضر واستغل بشكل خاص ابن تيمية وتيار الحديث الذي بدأ في القرن الثالث مع احمد بن حنبل ويحيى بن معين والخزاعي الذين درستهم في كتابي المحنة في عود لهذا التيار واجتزاء بالنصوص القتالية النصوص النزاعية التي تعبر عن نفسها اليوم بما يحدث.
•هل تابعت بحثا تطور عقل هذه الجماعات التي يمكن أن نطلق عليها اليوم تيارات «الإسلام السياسي»؟
أنا أتابع الأحدث تماما. ولي بحث عن تحولات السلفية. وكل هذه الحركات غالبا ما تربط نفسها بالسلفية والسلفية مفهوم غامص . ميزت ثلاثة اشكال من أشكال السلفية: السلفية التاريخية القديمة، وسلفية الصحابة والتابعين، وسلفية إيمانية تقوية دعوية، ثم السلفية المحدثة: سلفية جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده وهي مرحلة عقلنة الموضوع ثم السلفية الأخيرة السلفية المتعالية التي تعلو على النص عمليا، وتستخدم بعض عناصر النص وتحتكم للأزمة التي تعاني منها هذه الجماعات والتي اتخذت شكل المقاتلة وشكل العنف. تفصيلات اعتقد ليست مهمة كثيرا ولكن الظواهر واضحة.. هناك تبدل من إسلام أخلاقي اجتماعي تمدني إلى إسلام سياسي، وبعد ذلك التبريرات الجزئية هذه يمكن الحصول فيها على أدبيات واضحة، وكنت أجد في متابعتها نوعا من العبث لأنه فيه تكرار لنفس الثيمات والأفكار تتكرر وتحصر في مجموعة من الأفكار التي تُعزز غالبا ببعض الأحاديث المقروءة بقراءة ما، وبعض الآيات القرآنية المنتزعة والمفهومة على ظاهرها. لأنه هناك مشكلة أن الفرق بين الإسلام والمسلمين، ودرستهم في كتابي أسس التقدم، وهذا أبنت عنه في مقدمة الطبعة الخامسة وهذه الجماعات المتصلبة كما يسميها الغزالي الذي يستعمل مصطلح المتصلبة بدلا من المتطرفة وهي أقوى، أقول الفرق هو فرق في الفهم، فرق ابستملوجي، أولئك يفهمون ويميزون بين الظاهر والمأول، بين العرضي التاريخي والجوهري الثابت بين الفرعي والجوهري يعتبرون جزءا كبيرا من التراث الديني هو تراث تاريخي وليس تراثا أزليا. السلفيون لا يقبلون إلا المعنى الظاهري للنصوص سواء كان حديثا أو آيات قرآنية بينما التنويريون والتمدنيون من محمد عبده إلى أواسط القرن العشرين يدخل معهم مفهوم التأويل، قراءة النص قراءة غير حرفية وهذا يعطي نتائج كبيرة. وفرق كبير بين أن أفهم النصوص على ظاهرها وبالتالي أعطيها معنى الاطلاق وهذا خطير جدا، وبين أنْ أقول أنّ هناك نصوصا لا بد أن أولها لأجعلها متوافقة من التطور الحاضري. الظاهرة الكبيرة، وهو خلل في الحقيقة، أن هؤلاء وهم يتبعون في الواقع أصحاب الحديث القدامى من يسمون بأهل السنة الأوئل وأصحاب الحديث أحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر الخزاعي ويحيى بن معين هؤلاء تيار حرفي، تيار نصي لا يفهمون من الدين إلا ظاهر النصوص وهذا خلاف للتيار العقل والتأويل الذي تميزت به المعتزلة. والآن المشكلة في رأيي، وهذا ما أدافع عنه باستمرار، هو بين أن أظل على ظاهر النصوص واختنق بهذا الظاهر الذي يوقعني في مشاكل لا حد لها محليا وسياسيا واقتصاديا، وبين أن أفهم هذه النصوص فهما تأويليا.
هذه النصوص مرتبطة بظروف تاريخية معينة لا يجوز أن نربطها دوما بتلك الظروف، ينبغي أن نفهما بزوايا قابلة أن توافق العصر بحيث أن يمر الإسلام بحالة آمنة في العصر الحديث، ومأثرة، وجاذبة. أقول دوما نحن الآن أمام صورتين للإسلام صورة طاردة ولدتها الحركات الراديكالية وبين صورة جاذبة يمثلها عمليا من نسميهم مسلمي التنوير المنفتحين الحضاريين. البعض يستخدم كلمة الإسلام الليبرالي ولكن يجب أن تفهم هذه بتحديد دقيق ويحدد المعنى لأن هذه التسمية تذهب أحيانا باتجاه العلمانية وحتى هذه لا بد أن تفهم بمعنى مختلف، وليس بالمعنى الدارج لأن هناك علمانية الحياد، وعلمانية الفصل، وبينهما فروق جوهرية وأساسية.
•هل نفهم بالمعنى الذي تحدثت عنه أن الربيع العربي جاء في سياق كل التغيرات التي شهدها القرن العشرين والحركات الإسلامية؟
لا. جاء نتيجة الأوضاع المشخصة «الميدانية» المادية التي عاشت وتعيش فيها هذه الشعوب منذ عصور الانحطاط ولكن على وجه التحديد منذ أواسط القرن العشرين، الأوضاع الاقتصادية والاستبداد والفساد، هذه الرذائل الثلاث هي وراء الربيع العربي وانسداد الافاق. كل هذه الشعوب شعوب محرومة ومستعبدة ولا تملك من أمرها شيئا، وتعيش فقرا غير عادي في مقابل عالم يدخل فيما هو أكثر من الرفاهية في العالم الغربي، ثم هناك وعي منذ العولمة. العولمة بدأت عمليا في السبعينات، والعالم انفتح، وأصبحنا نرى كل شيء. الفقير يرى وكل السياسيين يرون. طبيعي أن الوعي يتغير مع كل هذه التقنيات الحديثة المرتبطة بالمعلوماتية وأصبحنا نطلع على كل ما يحدث في العالم ويعطينا درسا ويجعلنا نقارن بين أنفسنا والآخرين. ما يسمى بالربيع العربي هو نتيجة طبيعية تماما للأوضاع المشخصة التاريخية التي تتبلور وتختزل في الفساد والاستبداد والفقر.
•ولكن هل تطور «الربيع العربي» كما هو اليوم كان طبيعيا؟
لا لا لا. رأيي أنا أن البدايات كانت نقية. أكيد ليس السفير الفرنسي ولا برنارد ليفي قال للبوعزيزي احرق نفسك، ولكن ما فعلته السلطة متمثلا في الشرطية هي التي دفعته أن يحرق نفسه.. قالت انت تحرميني من وجودي وحياتي. الاستعداد لحرق النفس وحرق الآخرين موجود مع الكل وفق تلك الظروف.. «فولعت» في تونس أولا ثم ذهبت إلى مصر وثم ليبيا. ليبيا هي التي كان التدخل الأجنبي فيها صريحا. كل المعلومات والوثائق مكتوبية عن دور برنارد ليفي وساركوزي والجيش الفرنسي، والتدخل الأوروبي كانا واضحا. نعم لم يكن هناك داع للتدخل في تونس ولا في مصر.. مصر بلد حضاري كبير وفيه قوى غير عادية وفيه جيش كبير وقوي، ولكن التدخل حدث في ليبيا وبرنارد كتب وألان جريش كتب وفضحه. والتدخل حقيقة حدث في عام 2003 في العراق والعراق الآن غير موجود عمليا.
•إذن نستطيع أن نتحدث وفق هذا الخطاب عن مؤامرة عالمية؟
أنا أؤمن بالمؤامرة ولكن مصطلح المؤامرة مصطلح شعبوي للإشارة للتدخلات الخارجية والتدخل الغربي وهذا ما نسميه في العلوم السياسية استراتيجية العلاقات الدولية القائمة على الهيمنة وإلا ما نفع السفارات ولماذا هي موجودة! آسف جدا الكلمة الشعبية مشروعة تماما ولكن أفضل استخدام الكلمة الثانية وهي استراتيجية العلاقات الدولية ولكن الأولى فضّاحة أكثر.
•إذن في هذا السياق نستطيع أن نقول إن قضية الطاعة التي كنت تحدثت عنها في كتبك قد سقطت؟
أعتقد أن قضية الطاعة مرتبطة بالخوف من الأمن والحاكم المستبد غير العادل الذي يطلب الطاعة بأي ثمن ولا يأبه بالكرامة الإنسانية ولا يقبل بالقيم العليا التي تكرم الإنسان. إذا كان هناك فضيلة كبرى لما يسمى «الربيع العربي» فهو أنه كسر حاجز الخوف وبالتالي الطاعة اهتزت وظهر ذلك في المظاهرات والاحتجاجات والعمليات العنيفة بالنقد الواسع جدا على وسائل الإعلام الحديثة، ولم يعد هناك خوف. وأصبح عند الذين لم يعودوا يخشون المعارضة، يعتقدون وهم محقون، أنه في رأي عام عالمي سياسي يمكن أن يدعمهم. وفي أي بلد إسلامي يضطهد شخص تجد أن السفراء يتدخلون.
•في كتابك الطريق إلى المستقبل تحدثت عن قضية تكوين العرب اليوم في ظل كل هذه الظروف كيف ترى تكوين العرب؟
العرب.. القوة الدافعة المحركة الموحدة لعالم عربي شامل هذه غير موجودة مفقودة تماما.. نحن نمر في مرحلة قطرية بكل معنى الكلمة وقطرية مأزومة.. بمعنى هذه الأقطار التي تتمترس حول هوياتها الشخصية «لمّا يقول فلان بلدي أولا» هذه الهويات الذاتية المحدودة أصبحت نفسها مأزومة وصارت مهددة داخليا لأنه هناك أقليات.
•لم يعد هناك من يتحدث عن الوحدة العربي؟
نعم.. صحيح إنه حديث يداعب الخيال ولكنه طوباوي.
فقدت قوتها فقدت عصبها بسبب المشكلات التي استبدت بهذه الأقطار الواحدة تلوى الآخر، لذلك على المدى المنظور لا يمكن أصلا ولا ينبغي أن توضع الوحدة العربية أولا قبل وحدة الأقطار ذاتها المكونة لهذه الوحدة، الأقطار هذه مثلومة ومريضة مرهقة تأن بالمشاكل والصعوبات وشتى أشكال الفقر والضعف والذل والمهانة ولذلك ينبغي حل هذه المشكلة أولا ثم الحديث عن الوحدة العربية.. لاحظ في الخمسينات من القرن الماضي كانوا يقولون الوحدة العربية أولا ثم بعد ذلك الأقطار. أنا أقول الآن الأقطار أولا ثم الوحدة. إذا كانت هذه الأقطار مستعدة لوحدة يمكن أن تسير للوحدة، ولكن إذا لم تكن مستعدة فلن تستطيع.. فكرة الوحدة فكرة مثالية، فكرة مجردة، فكرة تهمل أو تغفل عن الشروط الواقعية الميدانية المشخصة الأرضية التاريخية، فكرة جميلة جدا ولكنها خيالية لا يجوز البدء فيها لأن الأقطار ستعارض لأسباب كثيرة. البداية يجب أن تكون دوما في اصلاح المشاكل في الأقطار والوصول إلى أنظمة اجتماعية مدنية سليمة عادلة آمنة مرفهه مثقفة تجتمع على مجموعة من الأفكار التي يمكن الربط بينها والسير بطريق وحدة أو اتحاد أو تضامن هذه الكلمات التي كنا نسمعها كثيرا.
وهناك استراتيجية دولية يعني مؤامرة دولية تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى حد ما ودورها عموما أقل لأن ليس لها تاريخ استعماري. أما أمريكا فتفكيرها امبراطوري بكل تأكيد ولها قواعد في كل أنحاء العالم، وتتدخل في كل مكان، و»الامبراطوري» نوع جديد من الاستعمار المطور. هذه الاستراتيجيات في علاقتها مع عالمنا أو أقطارنا العربية قائمة على أساس تكريس التبعية والتخلف والتجزئة وبالتالي هي لن تسمع بأي حركة قوية يُشتم منها القدرة على تكوين تشكل أو تشكيل عربي موحد بشكل أو بآخر على المدى المنظور لأنه في تكاتف صريح وواضح أن هذا العالم لا يجوز أن يقوى ويصبح عالما واحدا مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو الاتحاد الروسي، وينبغي أن يكون مجزأ وضعيفا بسبب القدرة السكانية الهائلة له وحماية اسرائيل وبسبب أن هذه البلدان من هنا إلى قرن على الأقل ستظل أجزاء منها مصدرا أساسيا للطاقة الأوروبية بالإضافة إلى أنها سوق اقتصاديا. لو صارت دولة واحدة ستكون قادرة على فرض سياسات حمائية على الأقل. لكن اليوم هذه الدول لا تستطيع. نحن اليوم غير قادرين على الاستقلال بذاتنا عن الغرب، وعموما أنا لا أقول أن نستغني عن الغرب ولكن يجب أن نبني علاقات سليمة آمنة مع الغرب ولا يجوز أن نأخذه على أساس أنه العدو الأزلي ولكن إقامة علاقات آمنة عادلة بيننا وبين الغرب وألا تكون هذه العلاقات قائمة على أساس الاستبداد الغربي بنا ووضعنا في خانة الفقر والتخلف الأبدية.
•في كتابك الطريق للمستقبل طرحت فكرة نقد الفعل العربي عوضا على نقد العقل العربي ولكنك لم تشتغل على الفكرة كثيرا رغم أهميتها؟
فكرتي هي أننا في التيار العقلي والعقلاني في الفكر العربي الحديث نركز تركيزا مطلقا على المدخل المعرفي للمشكل ويرى هذا التيار أن مكمن الخلل في العقل العربي، وصديقنا الجابري الله يرحمه، هو الذي روج لهذه القضية ومعه جملة العقلانيين الذين قالوا كله.. العقل العقل العقل. أنا أريد أن أعالج الأمور عقليا وأنا مؤمن بهذا ولكن هذا ليس كل شيء.. هناك الجانب العملي. نريد أن نكون عقلانيين ولكن نريد أن تكون أعمالنا سديدة بمعنى محكومة بقيم أخلاقية وقيم انسانية وقيم وجدانية تحكم سلوكنا. نحن لا نملك هذه العدة، ليس لدينا سلم للقيم في كل العالم العربي.. ليس هناك إلا فوضى في القيم، قيم مختلطة، لا نتقيد بقواعد معينة ومناهج معينة كل واحد يسير على هواه وليس هناك سلم واضح للقيم لنقول أن مجتمعاتنا وأفرادها يمارسون في حياتهم اليومية هذه القيم وهذه وهذه.. لحساب الدعوة المستمرة الطوباوية في طبيعة الأمر للعقل ولتمجيد العقل، مجرد تمجيد لا أكثر، أنت لا تقيم العقل بالدعوة للعقل أنت تقيم العقل بممارسة الأمور العقلانية والقيم جزء من هذه الأمور العقلانية، القيم هي الفلسفة الأخلاقية العملية التي لها تجسدات في الحياة اليومية، وهذا غير واراد أن أظل أسبح بحمد العقلانية وأهمل الجانب القيمي. أخونا الجابري، رحمه الله، كتب نقد العقل الأخلاقي لكن ماذا نجد فيه، نجد أخلاق القبيلة والأخلاق القديمة والسائد في العصر الأموي لكن لم ينزل الجابري للشارع وقام بعملية جرد لطرق المعاملات والقيم والأخلاق التي يمارسها المغربي في الدار البيضاء ولا في الرباط أو فاس او في دمشق أو بغداد أو في مسقط أو في جدة.. أخذ القيم من هنا وليس من الكتب القديمة.. مرت قرون وتطورات الأمور والقيم، نعم احتفظت بمفاهيم وقيم القبيلة والقيم الأبوية ولكن هناك أشياء كثيرة موجودة في الواقع تحتاج إلى دراسة ميدانية ولذلك نظرية الفعل ينبغي أن تبدأ من هنا.. دراسة القيم في الممارسة الواقعية، في حياتنا اليومية، كيف يعامل الرجل زوجته وكيف يعامل أبناءها، وكيف أتعامل مع الآخرين في الدكان وفي الإدارة. ربما تكون لدي قضية في عمّان وأذهب عند الموظف.. أذهب خائفا ولا أذهب الى مواطن مساو للموظف الذي أذهب له، أذهب باعتباره الدولة أو السلطة المخيفة، ولا أعرف كيف يمكن أن يتعامل معي: ممكن أن يقول لي تفضل فلان ويضيّفني ويعاملني معاملة من أجمل ما تكون، وممكن أن ينظر لي ويقول: انتظر في الخارج ويجعلني أنتظر ساعة او ثلاث، وممكن أن يشتمني، أو يقول: ارجع بعد أسبوع. ماذا يعني هذا ؟ يعني غياب لسلم القيم.. وقس على هذا ما يحدث في الشارع، هناك فوضى في القيم وهذا ما ينبغي دراسته. لا يكفي أن أقول ان العقل العربي عقل هرمسي وبياني.. لا. لا بد أن أنزل إلى الشارع. نعم لم أفعل هذا لأنه يحتاج إلى جهاز بحثي قوي جدا، ويقوم بالعملية في كل الأقطار العربية الغربيون يعملونه في مجتمعاتنا وظهرت في الغرب دراسات ترصد أخلاقنا وتصوراتنا ولكنا نحن لم نفعل شيئا من ذلك.
_________
مجلة عُمان