*إبراهيم اليوسف
يرد مصطلح “الإدهاش في الشعر” على نطاق واسع، من خلال الدراسات النقدية التي تتناول الشعر الجديد، على نحو خاص، وقصيدة النثر على نحو عام، باعتبار أن هذه القصيدة متخففة من بعض الأدوات مسبقة السطوة الجمالية، وفي مقدمتها الموسيقى الخارجية التي من شأنها أن تجسر تجاه متلقيها، لاسيما الأنموذج الذي يتلقى هذا الفن، من خلال أذنه، ويعطيها الدور الأكبر من بين حواسه الأخرى، حيث يربط الشعر بموسيقاه، بل لا يمكنه استساغة، أو تصور وجود هذا الشكل الفني الراقي، خارج إطار بنيته الموسيقية . وإن كانت ثيمة الموسيقى حقاً لها دور مهم في النص، بيد أن عنصر الإيقاع الخارجي، رغم أهميته، فهو يقدم بدائل عن جماليات كثيرة، يطمسها، أو يحجبها، أو يهيمن عليها، على اعتبار أنها تدغدغ الأحاسيس، ويكاد لا يبقى في نصوص كثيرة إلا خطان متوازيان: الدلالة الشعرية، وهي تكون واضحة عادة، في القصائد التي تعتمد بشكل مفرط على الموسيقى، لاسيما ما يسمى منها ب”البحور الستة عشر”، بل وحتى قصيدة التفعيلة التي جاءت ولادتها قبل أن تستفيد من قصيدة النثر امتداداً لإيقاعيات قصيدة العمود ذاتها .
ضمن مثل هذه الرؤية للقصيدة التي تعتمد على العمود الشعري، فإن عنصر الدهشة يتوارى، ضمن مجرد عنصر، أو عنصرين، من دون أن تتمكن الأدوات الأخرى في النص من المضي بالدهشة، بعيداً، ما خلا بعض النصوص النادرة، التي تمت كتابتها من قبل شعراء بارزين، ويتم الحديث عما كتبوه بأنه ينتمي إلى الفضاء الحداثي، مهما طالت مساحة الفاصل الزمني عن الراهن، وهو ما جعل كثيرين من متعلمي العروض فحسب، يتكئون على مجرد عنصرين: الموسيقى، أو اللغة، ما جعلنا نفقد ليس فقط الحضور الفني لمكونات النص الشعري، الإبداعي، بل وعنصر الدهشة الذي يتولد ضمن إطار صدمة النص .
وبعيداً عن تحليل الدهشة وتحليل مكوناتها، ودواعيها، فإنه يمكن تناولها كأثر أو كمحرض جمالي، استفزازي، لا يتوقف عند حدود التلذذ بالنص، حيث يتداخل التلذذ والإدهاش، كما أنه في الوقت نفسه يدل على حالة جد صحية، هي نجاح عملية التلقي، بل وارتقاء هذه العلاقة إلى درجة إمكان النص من تحقيق معادلة التواصل مع المرسل إليه، كأحد الشروط المتوخاة من الفن والإبداع، بل إن هذه الدهشة تؤدي إلى صعود عملية التفاعل بين أطراف هذه المعادلة إلى الذروة، حيث يتمكن النص من فرض جدواه، وإيجاد مسوغاته، لئلا يكون عبارة عن خطاب خارج الشعرية .
طبيعي أن خلق الدهشة في النص الإبداعي دليل على توافر مقومات عديدة، منها ما يتعلق بالناص، أي ما يخص: عمق موهبته، وأصالتها، ومهاراته، تجربته، بل وثقافته، ومعجمه، ونجاحه في المعالجة الفنية لرؤيته، ومنها ما يتعلق بالنص، لاسيما من منظور: “هل أن هاتيك العناصر “الخارجنصية”، انعكست، في عمارة نصية متكاملة، بل وأن كل مكون نصي تم توظيفه، وفق معالجة فنية عالية، من دون غلبة أحدها على الآخر، بل من دون أن يكون هناك أي خلل، وهي عملية في منتهى الصعوبة، كما أنها في منتهى السلاسة، والشرط الوحيد هنا قدرة النجاح على حضوره في نصه، ليتوهج بكيميائه، من دون أي إسفاف، أو طغيان، من قبل مكون على آخر، ما يؤدي إلى تفحم بنية النص، مهما حاول الناص التعويض عن الخلل، عبر اللجوء إلى تزويقه” .
ولعلنا نقع أثناء قراءاتنا على نصوص كثيرة، تحاول أن تخلق إدهاشات مصطنعة، وذلك عبر العلاقة بين المفردات، أو عبر التهويمات التي تتوزع في هيئة صور، منبتة، عن بنية النص، وغير متنامية عن بؤرته، وهو ما تتم من خلاله الإساءة إلى الشعر، عبر إفساده، بل ولا يتوقف الأمر عند هذه الحدود، وإنما ينعكس الأمر، على ذائقة المتلقي، حيث يتم عطبها، وتشويهها، وعطالتها، وهو ما قد يخلق لدى منتج مثل هذه النصوص، ما يمكن تسميته ب”وهم الإبداع” الذي تعاني منه نسبة كبيرة ممن يتعاطون الكتابة، من خلال تقديم ذواتهم كشعراء جدد .
إن الإدهاش لا يكون محصوراً على عنصر محدد، من دون بقية العناصر النصية، وإنما يتوزع كل ما هو ضمن بنية النص، بدءاً بالمفردة، ومروراً، بالصورة، والإيقاع الداخلي الذي يتأتى من خلال نجاح الناص في مهمة تفاعل أدواته وليس انتهاء بالبنية النصية، وهذا ما يؤكد أن أي استغراق من قبل الناص في إهاب أداة واحدة، بل جملة أدوات، وإهمال الأخرى، يؤدي إلى غياب الإدهاش، وهو يعني غياب شعرية النص .
كما لابد من إدراك أمر آخر هنا ألا وهو أن الإدهاش ليس معطى متساوياً تقدمه النصوص الشعرية، بسوية واحدة، بل هو متفاوت بين تجربة وأخرى، فقد يصل إلى أمداء بعيدة على يدي نص، بيد أنه قد يخفق على يدي آخر، ويظهر كسيحاً، لا يتجاوز سقف الحدود الدنيا لدى غيرهما، بل لابد من الإشارة إلى أن نجاح الناص في تحقيق الإدهاش، الجزئي، أو العالي، في نص من نصوصه، لا يعني أنه يمتلك أعنته، لأن مقدرة تحقيق الإدهاش المتجدد، تتطلب تجدد موهبة الشاعر، وتجاوز أحداثيات: الذات والآخر، بشكل متواصل، ليكون لكل نص عالمه، وعلامته .
أجل، لا يمكن أن يكون هناك أي نص محقق لمعادلته الشعرية، في معزل عن دهشته، وذلك لأن النص الإبداعي، بل والفن عموماً، والشعر، على نحو خاص، لا يمكن أن يرتقي إلى مسماه، وصفته، وهو لا يمتلكها، وهو ما استطاعت الدراسات النقدية الجديدة تشخيصه، على نحو أدق، رغم أن النقد القديم لم يبلور مصطلحه بالشكل المطلوب وكان يركز على جوانب أخرى، ينظر من خلالها إلى نجاح النص الشعري .
يمكننا، اعتماداً على بعض المفاتيح الأولى التي قدمتها هذه المقاربة التنظيرية، معرفة حقيقة أن الدهشة في مكونها العام، هيولى النص النابضة، وهي امتيازه، وعلامته النصية الفارقة، بل إن أي نص لا يخلق الدهشة، هو في النهاية نص خاو قوقعة منخورة الثمر، زَبد تائه بين مائيته وزُبديته، بل هي الروح بالنسبة إلى النص، فلا أهمية البتة لأي من عناصره، بل وكلها في آن إذا كانت مفتقدة له، وهو يعني أن الإدهاش هوية النص، وهو جواز مروره إلى متلقيه، وهو امتحان الشاعر، حيث إنه قد ينهزم، أو ينتصر، حتى وإن كانت هناك أعداد كبيرة ممن يستقلون “أوتسترادات” هذا الفن العصي، لا يعرفون كنه الإدهاش .
______
*الخليج