*د. محمد عبد المطلب
الحوارات التي سبق أَنْ عرضنا لها كان لها إطارها الزمني والمكاني (زمنياً بداية خلق آدم ومكانياً في السماء)، وهذان الإطاران وجّها الحوار السماوي ليكون حواراً محكياً بين الله والملائكة وآدم وإبليس، ومن ثَمّ اعتمد على فعل (القول): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ». «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ»، وعندما امتنع إبليس عن السجود لآدم، جاء قوله تعالى: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»، وعندما اتسعت المساحة المكانية للحوار لتشمل السماء والأرض بمن عليها من الأنبياء والمرسلين، تعدّلت الصيغة القرآنية مؤقتاً، ليحل (الوحي) محل (القول)، وجاءت الإشارة إلى هذا النسق الصياغي في الخطاب القرآني إلى محمد (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ» (النساء 163).
وهكذا جاء الحوار مع نوح عليه السلام بعد أن أُرسل لقومه، ثم قوله لهم: «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ» (هود 25)، لكنه لم يجد منهم إلا الإصرار على الكُفر، ومن ثَمّ اتجه إلى الله بالدعاء:«رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً» (نوح 26، 27)، واستجابت السماء لدعاء نوح في قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ . وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ . وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ» (هود 36 – 38)
البلاغة القرآنية أحلت مفردة (الوحي) محل مفردة (القول)، ثم استبقت الوقائع بإخبار نوح أن الناجين من قومه في الفُلك قِلّة، بعضهم من أهله، وبعضهم من قومه، ثم استبقت الآية ما سوف يكون من نوح عندما يلتمس من ربه إنقاذ ابنه من الغرق، برغم أنه من الكافرين، ولهذا جاء قوله تعالى له: «وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ»، ثم يأخذ الحوار نسقاً بلاغياً إضافياً، إذ أصبح الحوار بين (القول والفعل) لا بين القول والقول، كما هو المألوف في صيغة الحوار، إذ تضمن الحوار أمراً سلبياً لنوح: «فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ»، وأمراً إيجابياً: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ»، ومقتضى الحوار أن يجيب نوح:(لن ابْتَئِسْ . وسوف اصْنَعُ الْفُلْكَ)، لكن الفعل حل محل القول: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ».
ثُمّ يتجه الحوار إلى كيفية إنقاذ المؤمنين:«حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ» (هود 40)، وخلال ذلك يجري حوار جزئي بين نوح وابنه في محاولة لإنقاذه: «وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ.قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» (هود 42، 43)، والملاحظ هنا أن نبوة نوح لم تلغ إنسانيته تماماً، إذ تَغلَّب عليه إحساس الأبوة، فاتجه إلى السماء مُلتمِساً من الله إنقاذ ابنه من الغرق: «وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ» (هود 45)، ويأتي الرد الإلهي على هذا الالتماس: «قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (هود 46)، وهنا تأتي استجابة نوح فورية: «قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ» (هود 47).
وعقب الطوفان ونجاة المؤمنين يتجه الحوار إلى لحظة النجاة: «قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ» (هود 48)، وهذا الحوار يقدم للبشر درساً سماوياً في العدالة الإلهية التي تكافئ المؤمنين بالثواب والنجاة وتجعل للمعاندين الكافرين الجزاء الأليم، ولا ينفع مع هذه العدالة مكانة أو قرابة قريبة أو بعيدة إلا من جاء بقلبٍ سليمٍ من الكفر والعصيان.
_______
*الدوحة