*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
القسم الأول
” موسيقى البوب الأمريكية تنبعث من مكبّرات الصوت في شمال إفريقيا ، و الروايات الهندية صارت تقرأ على أرصفة الطرق الخلفية في مدينة نيويورك العملاقة ، فهل صار النتاج الثقافي معولماً كما هي حال سلاسل مطاعم البيتزا و الهمبرغر ؟ “
بهذه العبارات الاستهلالية يفتتح موقع ( Yale Insights ) الحوار مع البروفسورة ( شميم بلاك Shameem Black ) التي تعمل حالياً أستاذة في الجامعة الوطنيّة الاسترالية ANU حيث قدمت إليها بعد خبرة تدريسية حقّقتها في تدريس مادة الأدب مابعد الكولونيالي Post-Colonial Literature في جامعة ييل الأمريكية المرموقة . حصلت البروفسورة بلاك على شهادة الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأمريكيّة و تتنوّع اهتماماتها البحثية و التدريسية في ميادين : العولمة و الأخلاقيّات في الرواية المعاصرة ، التنوّعات الثقافية في الأدب المعاصر ، الأدب مابعد الكولونيالي في القرنين العشرين و الحادي و العشرين ، الأدب و اليوغا ، العدالة و المصالحة الانتقالية في المجتمعات التي خاضت حروباً أهلية ، السرديّات الرقميّة و سرديات الأزمات الإنسانية .
نشرت البروفسورة بلاك كتابها المعنون ( الرواية عبر التخوم : تخيّل حيوات الآخرين في روايات نهاية القرن العشرين Fiction Across Borders: Imagining the Lives of Others in Late Twentieth-Century Novels) عن جامعة كولومبيا عام 2010 وتحاول المؤلّفة في هذا الكتاب توكيد فكرة أن الروايات من مختلف بقاع كوكبنا الأرضي في نهايات القرن العشرين كانت تسعى لتصوير شخصيات إنسانية و جغرافيات متباينة اجتماعيّاً دون تنميط جاهز أو مثالية زائفة أو محاولة خلع صفات خارجية قسريّة عليها .
لطفية الدليمي
الحوار
• ما الذي تعنيه العولمة في نطاق المعايير الأدبية ؟
– هذا شأن حديث في المناظرات الثقافية – و الأدبية منها بخاصة – ، فعندما كنت طالبة جامعية في منتصف تسعينات القرن الماضي قلّما كان أحدنا يسمع بموضوعة العولمة في الأدب ، و أرى أنّ الناس قد نشأوا و تم تدريبهم على التفكير بأن الأدب شأن قومي و هذا ما نراه جلياً في الرواية التقليدية التي ترتبط بحسّ راسخ في الانتماء إلى هوية قومية محدّدة السمات : فهل حصل مثلاً أن سمع أحدكم برواية يمكن وصفها برواية الاتحاد الأوروبي أو الغرب الأوسط الأمريكي ؟ و هذا بالضبط هو ما يميّز الرواية عن الأشكال الثقافية الأخرى ، فهي تعدّ بشكل ما حاضنة للطموحات القومية إلى حد أن ذهب البعض إلى اعتبار أنّ العولمة الأدبية فكرة مضادة للتقاليد القومية الراسخة و المعظّمة . يمكننا اليوم رؤية الكتّاب وهم يواجهون المعضلات التي تعترض طريق المجتمعات التي يتعاملون معها كلّ يوم و يسائلونها فيما يكتبون ، و هنا قد يتساءل البعض : ألم تكن هذه هي وظيفة الأدب منذ أن عرفناه كشكل ثقافي متفرّد ، فأقول : نعم بالتأكيد و لكن ثمة ملاحظة دراماتيكية تستحقّ منّا كل الانتباه فيما يفعله كتّاب اليوم بالمقارنة مع الحقب المبكّرة من القرن التاسع عشر عندما انبثقت الموجة المبكّرة من الكتابة المعولمة فقد بتنا اليوم ننظر إلى الكتّاب الأوروبيين الذين اخترقوا أصقاعاً بعيدة و كتبوا عنها بأنّهم كانوا يقابلون بمواقف عدائية من طرف سكّان تلك الأصقاع الذين لم يرحّبوا بوجودهم ، وأن الأدب الذي كتبوه كان في العموم يمثّل دافعاً لإدامة الزخم الإمبراطوري في الحفاظ على الهيمنة العالمية ، و مع أن المشهد لم يكن كلّه مطبوعاً بهذه السمة و لكن الأمر الغالب كان يميل لسيادة النزعة الإمبراطورية ، أمّا اليوم فنعيش لحظة مفارقة تماماً : فقد غدت الغالبية العظمى من الناس ناقدة صارمة لفكرة ” النزوع الكولونيالي ” و ” الإمبراطورية المهيمنة ” ، و على الرغم أنّ هذا الارتقاء في النظرة لم يكن ثابتاً و لكن هذه النظرة ترسّخت في عقدي الستّينات و السبعينات من القرن العشرين مع نمو الحركات المناوئة للإمبريالية ، و صعود الحركات الداعمة للحقوق النسوية ، و تعاظم دور سياسات تدعيم الهوية الذاتية و القومية ، و قد تعاظم منذ ذلك الحين إدراك خطل أفكار من مثل : الإمبراطورية و العنصرية و التمييز الجنسي و صارت تعدّ كمشكلات خطيرة تنتظر حلولاً حاسمة و حقيقية ولم يعد ينظر لها من وجهة نظر فردية ترى فيها منغّصات جارحة للضمير الفردي و الاخلاقيّات الإنسانية السوية فحسب . ترسّخ دور الأفكار المناهضة للهيمنة الإمبراطورية مع رسوخ الأفكار المضادة للنزعات الكولونيالية و صار بإمكاننا اليوم أن نرى كتّاباً يكتبون في هذا السياق الجارف من جميع أنحاء الكوكب الأرضي و صار متاحاً لنا الوصول إلى نتاجات الأدب العالمي بأفضل مما كنا نفعل من قبل مع أنّني أرى بعض المحدوديّات في عملية تداول النتاجات الأدبية إذ صرنا نرى تركيزاً في نشر و ترجمة الأعمال الأدبية المكتوبة في حدود فضاء الثقافة الأنكلوسكسونية و نتج عن هذا أن كثيراً من الذين يتكلّمون الإنكليزية قلّما تتاح لهم فرص جيّدة للوصول إلى النتاجات الأدبية غير الإنكليزية و غير المترجمة إلى الإنكليزية . إنّ كثيراً من الكتّاب الهنود مثلاً يشعرون بأنّهم لو أرادوا أن يحقّقوا مقروئية عالية و أن تتاح لهم نسب توزيع جيدة لأعمالهم و أن يعرفوا ككتّاب خارج الفضاء الهندي المحلي فينبغي لهم أن يكتبوا نتاجاً صالحاً للتصدير إلى السوق العالمية !! و هكذا رأينا في تسعينات القرن الماضي طوفاناً من الكتّاب الجنوب آسيويين الذين يكتبون بالإنكليزية و الذين صاروا واجهة للأدب العالمي منذ ذلك الوقت .
• نسمع كثيراً عن الدور الذي تلعبه العولمة في الثقافة و بخاصة في ميادين : الموسيقى و التلفاز و صناعة السينما . هل العولمة في الأدب تختلف عن نظيراتها في الأنماط الثقافية الأخرى ؟
– أظنّ أنّ كتّاب الأدب كانوا سينجرفون في حبّ العولمة لو أنّ قلّة قليلة فقط من المهووسين بعبادة أنماط الثقافة الشعبية ( ثقافة البوب Pop Culture ) كانت توجّه اهتماماتها لقراءة أعمالهم الأدبية لكنّني أفهم بالطبع أن الأدب و ثقافة البوب اشتغالان متمايزان و من الصعوبة البالغة مقارنة كيفية انتشار تأثيراتهما على مستوى الكوكب الأرضي . كنت مقيمة قبل بضع سنوات في الصين و اعتدت أن أتنقلّ كثيرا باستخدام القطارات – ولطالما راودتني الكثير من الأفكار المثمرة و أنا أتنقّل بين تلك القطارات – و كانت موسيقى البوب تطرق أسماعنا دوماً في تلك القطارات و لم يكن مهمّاً من كان يستمع إلى تلك الموسيقى أو حتّى إن كان ثمة من هو مهتمّ بالاستماع !! و هنا لاحت لي الفكرة المفارقة التالية بخصوص الناس في إطار الثقافة الصينية : ففي الوقت الذي لم أكن أعرف فيه نوع الكتب التي يقرأها الناس في منازلهم لكنّني كنت واثقة من نوع الموسيقى التي تطرق أسماعهم في القطارات ووسائل النقل الأخرى أيضاً ، و على الرغم من أنّ هذا المثال قد يبدو غارقاً في التطرّف لكنّني أعلم أنّ كافة أشكال الثقافة الشعبية يمكن لها أن تتغلغل ببساطة شديدة في كيان أعداد كبيرة من الناس . الكتب ليست مثل برامج الراديو و التلفزيون والأفلام : فالكتب تنتج و تستهلك منفردة و بمعزل عن أيّ مؤثّر آخر حتى مع بزوغ عصر النشر الإلكتروني و المواقع الالكترونية – مثل أمازون – التي كان لها تأثير بيّن على انتشار الأدب من الأشكال الثقافية الأخرى و أتاحت للكثير من الكتّاب فرصة الوصول إلى قطاعات من الناس لم تكن متاحة أمامهم من قبل فقد أتاح الإنترنت نشوء ثقافة موازية للثقافة السائدة و يمكن تسميتها ” الثقافة الالكترونية ”
ثمة جانب آخر في المسألة غير الجانب الإلكتروني الذي أتاحته التكنولوجيا : و ذاك هو الجانب الاقتصادي ، فأنت ترى مثلاً أنّ أغلبية الكتب المنتشرة في السوق الصينية – التي عايشتها عن قرب و لي فيها خبرة جيدة – كانت من نتاجات القرن التاسع عشر مثل روايات ( جين آير ) و معظم أعمال ( ديكنز ) و كان المرء في حاجة لضربة حظ لكي يعثر على آخر النتاجات الأدبية السائدة في العالم الغربي و لست في حاجة إلى بيان أن السبب يعود إلى أنّ النتاجات المتداولة لم تكن تخضع لاعتبارات ( الملكية الفكرية Copyright ) و كان من الممكن تداولها و ترجمتها بلا أية قيود ، و لكن مع الارتقاء الاقتصادي الصاروخي في الصين ازدادت مداخيل الناس و تعاظمت قدراتهم الشرائية و صرت ترى اليوم الكتب الأكثر مبيعاً في أوروبا و الولايات المتحدة مترجمة و متداولة على أرصفة الطرق في الصين ، و قد صار الكثيرون من الكتّاب الصينيين يتسابقون في طرح كتب لهم على نمط ( هاري بوتر ) و لكن بنكهة صينية !! ، و صارت الثيمات و العناصر الروائية المتداولة في الكتب التي تجدها في متاجر بيع الكتب في الولايات المتحدة هي ذاتها التي نراها في مثيلاتها من الكتب الصينية.
يتبع القسم الثاني