*رضوى أشرف
يوكو أوجاوا إحدي أشهر كاتبات اليابان في السنوات الأخيرة. بدأت مشوارها الأدبي في أواخر الثمانينات، ومنذ عام 1988 حتي الآن نشرت أكثر من 20 عملاً أدبياً، ما بين القصة القصيرة والرواية، وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية المرموقة أهمها جائزة أكوتاجاوا، وتحولت روايتها “مدبرة المنزل والأستاذ” إلي فيلم بعنوان “الأستاذ ومعادلته المفضلة”، كما شاركت عالم الرياضيات ماساهيكو فوجيوارا في كتاب “مقدمة إلي أرقي العمليات الحسابية في العالم”، بحوارٍ تحدثت فيه عن جمال الأرقام المبهر.
قال عنها الأديب كينزابورو أو: ” لديها القدرة علي أن تبث الحياة في أدق عمليات النفس البشرية بنثر رقيق وثاقب”، والحق أن شخصيات أوجاوا تمتاز بأنها “لا تعرف لما تفعل ما تفعله”، وتعتمد علي تراكم التفاصيل، وهي تقنية أثبتت نجاحها في قصصها القصيرة.
ورغم أن أبطالها ليسوا سيدات دائماً، إلا أن محاور أعمالها غالباً ما تدور عن المجتمع الياباني ودور المرأة فيه. أما أسلوبها، فلم تتقيد بأسلوب واحد في أعمالها كلها، حيث تراوحت ما بين السريالية والغرابة والفكاهة، والأسلوب النفسي المبهم والمزعج أحياناً.
تدور أشهر أعمالها “مدبرة المنزل والأستاذ” حول أستاذ رياضيات عبقري ليست لديه القدرة علي تذكر أحداث أكثر من 80 دقيقة، جراء حادث مر به. ومدبرة منزله الذكية، وابنها الذي يبلغ من العمر عشرة أعوام، المسئولة عن الاهتمام به. وكل صباح يتعرف الأستاذ ومدبرة منزله علي بعضهم البعض من جديد، وتنشأ بينهما علاقة فريدة، فعقل الأستاذ أشبه بشريط يُعاد من جديد كل ثمانين دقيقة. وكل ما يستطيع تذكره هي تلك المعادلات الصعبة من الماضي.
وفي كتابها “حمام السباحة”، الذي يضم ثلاث روايات قصيرة، يدور في فلك الحب والهوس، وكيف أن أبسط الانفعالات وأكثرها براءةً لا تخلو من نية شريرة. مراهقة وحيدة تقع في حب أخيها بالتبني عندما تراه يقفز في حمام السباحة. امرأة شابة تسجل تقلبات أختها المزاجية أثناء فترة حملها في مذكرة لنري الكثير من الهوس والتهيؤات، ولا نعرف أهي هلوساتها هي أم أختها؟ وامرأة تعود بالذكريات لأيامها الجامعية لتزور مبني السكن الجامعي الذي كانت تقطنه علي أطراف طوكيو، والذي يديره الآن شخص غامض مبتور الأطراف بساق وحيدة. كتاب يجمع بين الأسلوب المضحك والغامض المخيف عن أشخاص عاديين يكتشفون ماضيهم المظلم.
وربما أغرب أعمالها علي الإطلاق وأشدها راديكالية رواية “فندق أيريس”، التي تدور حول فندق ساحلي تديره ماري ووالدتها، وفي إحدي الليالي يضطران لطرد رجل متوسط العمر وعاهرة من الغرفة، لتجد ماري نفسها منجذبة إلي صوت الرجل. وعلي الرغم من محيطها الضيق ووالدتها المتحكمة، إلا أن ماري تهوي التلصص علي تصرفات البشر، وتري في ذلك الرجل ما كانت تبحث عنه.
تمتاز شخصيات أوجاوا بالتعقيد من جهة، وبالبساطة من جهة أخري، فشخصياتها منفصلة عن العالم، متشككة، وعادة ما تأتيهم المساعدة من أكثر الشخصيات أو الأماكن غير المتوقعة. كما تتمتع بأسلوب سرد شيق، يتجنب المباشرة وينتصر للجماليات.
من الصعب توقع شهرة خارجية لكاتبة مثلها، فحتي الكُتاب اليابانيون الآخرون الفائزوين بجائزة نوبل مثل كينزابورو أو كاواباتا ياسوناري لم ينالوا الشهرة التي نالتها هي في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الترجمة.
تُرجمت أعمال أوجاوا إلي العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية، وبعد هاروكي موراكامي، تعد يوكو أوجاوا من أشهر الكُتاب اليابانيين حالياً وأكثرهم انتشاراً في الولايات المتحدة الأمريكية.
__________
“الظهيرة في المخبز”/ ترجمة: رضوى أشرف
كان يوم أحد جميلاً. السماء كانت قبة من نور بلا سحب. وفي الميدان، كانت أوراق الشجر تتساقط علي الرصيف بفعل الهواء الرقيق. كل شئ بدا لامعاً بضوء خافت: سقف منصة بيع الأيس كريم، صنبور نافورة المياه، عيون قطة ضالة، حتي قاعدة برج الساعة المغطاة بفضلات الحمام.
تجولت مجموعات من العائلات والسياح في أرجاء الميدان، يستمتعون بعطلتهم الأسبوعية. تستطيع سماع أصوات حادة قادمة من رجل في أحد الأركان، حيث يصنع حيوانات من البالونات. التف حوله بعض الأطفال، منبهرين. بالقرب منه جلست امرأة تخيط علي أحد المقاعد، وتردد صوت بوق سيارة من مكان ما. انفجر سرب من الحمام في الجو، ليفاجئوا طفلاً ويبدأ بالبكاء، فتسرع الأم لتضمه بين ذراعيها.
بإمكانك أن تحملق في هذه الصورة المثالية طوال اليوم. ظهيرة غارقة في الضوء والراحة وربما لن تلحظ تفصيلة واحدة تنقص المكان أو تشوهه. وبمجرد دفعي لباب المخبز الدوار ودخولي، خفتت ضوضاء الميدان بالكامل، وتم استبدالها برائحة الفانيليا الحلوة. المتجر كان فارغاً.
”معذرةً،” ناديت بتردد. لم يرد أحد، لذلك قررت أن أجلس علي أحد المقاعد وأنتظر.
كانت مرتي الأولي داخل المخبز، كان متجراً صغيراً متواضعاً، أنيقاً، ونظيفاً. الكعك، الفطائر والشيكولاتة تم ترتيبها بحرص في صندوق زجاجي، وعلب البسكويت احتلت أرفف الجهة المقابلة. وعلي المنضدة خلف المنضدة النقود كانت هناك لفافة جميلة من ورق التغليف البرتقالي بزخرفاته الزرقاء. كل شئ بدا لذيذاً. ولكنني كنت أعرف ماذا سأشتري قبل دخولي المحل: كعكتا فراولة فحسب.
رن جرس برج الساعة أربع مرات. ومرة أخري حلق سرب الحمام في السماء ليطير عبر الميدان، ليستقر أمام متجر الورود. خرجت بائعة الزهور بوجه عابس وهشتهم بيدها لتبعدهم، لتخترق موجة من الريش الرمادي سماء الميدان.
لم تكن ثمة علامة علي وجود أي شخص بالمتجر، وبعد انتظاري لفترة أطول فكرت في الاستسلام والرحيل. لكنني انتقلت مؤخراً لهذه المدينة ولا أعرف مخبزاً آخر بنفس الجودة. وربما فكرة تركهم للزبائن ينتظرون هكذا مؤشر علي الثقة، لا انعدام الذوق. الضوء في الصندوق الزجاجي كان هادئاً ولطيفاً، المخبوزات بدت رائعة، والكرسي كان مريحاً بعض الشئ. أعجبت بذلك المكان، رغم مستوي الخدمة.
دخلت امرأة قصيرة وممتلئة عبر الباب الدوار. ضوضاء الميدان دخلت وراءها قبل أن تتلاشي. “أهناك أحد هنا؟” نادت. “أين ذهبت؟” أضافت، وأدارت رأسها ناحيتي وابتسمت. “من المؤكد أنها ذهبت لقضاء حاجة ما. أنا متأكدة أنها ستعود بسرعة.” جلست بجواري وانحنيت لها قليلاً.
”أعتقد أن بإمكاني الوقوف وراء المنضدة وأخدمك بنفسي،” قالت المرأة. “أعرف كيف تسير الأمور هنا بشكل جيد، أنا أبيع التوابل لهم”
”هذا لطف بالغ منك، لكنني لست مستعجلة،” أخبرتها.
انتظرنا معاً. قامت بتعديل وشاحها، نقرت طرف حذائها، وبدأت تتململ بعصبية وهي تلهو بمشبك حافظة جلدية سوداء من الواضح أنها تستخدمها لتحصيل حساباتها. لاحظت أنها كانت تحاول أن تفكر في شئ نتحدث عنه.
”الكعكات هنا لذيذة،” قالت أخيراً. “هم يستخدمون توابلنا، لذلك يمكنك التأكد أنه لا يوجد شئ غريب بها”.
”هذا مطمئن،” أخبرتها.
”هذا المكان عادةً ما يكون مزدحماً. شئ غريب أن يكون فارغاً اليوم. غالباً ما يكون هناك صف بالخارج في الانتظار”
مر بعض الأشخاص أمام نافذة المتجر. أزواج شباب، عجائز، سياح، شرطي أثناء نوبة حراسته، ولكن لم يبد علي أحدهم الاهتمام بالمخبز. التفتت المرأة لتنظر باتجاه الميدان، ومررت أصابعها بين شعرها الأبيض المموج. وكلما تحركت في مقعدها، انبعثت رائحة غريبة؛ رائحة الأعشاب الطبية والفاكهة الناضجة مندمجة برائحة جونلتها الشبيهة بالمواد الكيماوية، ذكرتني بطفولتي، ورائحة المشتل الصغير في الحديقة حيث كان أبي يزرع زهور الأوركيدا. كنت ممنوعة من فتح الباب منعاً باتاً؛ لكنني مرة وبدون إذن، فعلتها. رائحة الأوركيدا لم تكن كريهة، بل لطيفة.
”سعدت لرؤية كعكات الفراولة لديهم” أخبرتها وأنا أشير للصندوق. “تلك كعكات حقيقية. لا ذلك الجيلي، أو تلك المغطاة بقطع الفاكهة الزائدة عن الحد، أو تلك الأشكال الصغيرة التي يستخدمونها في التزيين. فقط فراولة وكريمة”
”معكِ حق” أخبرتني. “أضمن لك جودتها. هي أفضل شئ في هذا المتجر. وقد استخدموا في قاعدتها الفانيليا الخاصة بنا”.
”سأشتريها لابني. اليوم عيد ميلاده”
”حقاً؟ أتمني أن يكون يوماً سعيداً. كم عمره؟”
”ست سنوات. وسيظل في السادسة للأبد. ابني ميت”
مات منذ اثني عشر عاماً مختنقاً في ثلاجة مهجورة بمكان خالٍ. عندما رأيته وقتها، لم أعتقد أنه ميت. ظننته فقط خجلاناً من النظر في عيني بعد تغيبه عن المنزل لثلاثة أيام. كانت تقف بالقرب مني امرأة عجوز لم أرها من قبل، تبدو منبهرة، وأدركت أنها قد تكون من عثرت عليه. شعرها كان أشعث، وجهها شاحباً، وشفتاها ترتعشان. بدا عليها الموت أكثر من ابني.
”أنا لست غاضبة، كما تعرف،” قلت له. “تعال هنا لأحضنك. اشتريت الكعكة لعيد ميلادك. هيا لنعود للمنزل.” ولكنه لم يتحرك. كان قد لف نفسه بطريقة ذكية ليتلاءم حجمه مع المساحة ما بين الأرفف وصندوق البيض، طويت ساقاه بحرص وكان وجهه مدفوناً بين ركبتيه. انحناءة عموده الفقري تراجعت إلي ركن مظلم ومكدس لم أتمكن من رؤيته. لون جلد رقبته تغير بفعل الضوء القادم من الباب المفتوح. كان ناعماً للغاية، مغطي بضوء رقيق كنت أعرفه جيداً. “لا، هذا مستحيل،” قلت للمرأة التي بجواري. “هو نائم فحسب. فهو لم يأكل شيئاً، ولا بد أنه متعب. هيا لنحمله للمنزل ونحاول ألا نوقظه. عليه أن ينام بالقدر الذي يرغب به. سيستيقظ لاحقاً، أنا متأكدة من ذلك.” ولكن المرأة لم تجب.
رد فعل المرأة في المتجر بعد سماع قصتي كان
يختلف عن أي شئ قابلته في الماضي. لم تكن هناك أي علامة علي التعاطف أو المفاجأة أو حتي الإحراج علي وجهها. كنت سأعرف إن كانت فقط تتظاهر بالرد بكل ذلك الهدوء. تجربة فقدان ابني علمتني قراءة الأشخاص، وعرفت علي الفور بأن هذه المرأة صريحة للغاية. فهي لم تندم علي سؤالي ذلك السؤال ولم تلمني علي اعترافي بشئ شخصي كهذا لشخص غريب.
”حسناً،” قالت، “لحسن طالعك اخترتِ هذا المخبز. لن تجدين مخبوزات أفضل منه في أي مكان؛ وابنك سيكون سعيداً جداً. حتي أنهم يمنحون علبة شمع لكعكات عيد الميلاد مجاناً. فاتنة حقاً، حمراء، زرقاء، وردية، صفراء، ببعض الزهور أو الفراشات أو الحيوانات، أو أي شئ ترغبينه.”
ابتسمتُ ابتسامة صغيرة تتناسب مع هدوء المخبز. ووجدتني أتساءل هل فهمت حقاً أن ابني مات. أم أنها فقط تعرف الكثير عن موت الأشخاص.
بعد مرور وقت طويل من اكتشافي بأن ابني لن يعود، احتفظت بكعكة الفراولة التي كان من المفترض أن نأكلها معاً، وقضيت أيامي في مراقبتها تتعفن. أولاً، اكتسبت الكريمة اللون البني وانفصلت عن الدهون، لتترك أثرها علي ورق السيلوفان. بعدها جفت الفراولة، وتجعدت مثل رؤوس أطفال مشوهة. أما الكعكة الاسفنجية فتصلبت وتشققت، وأخيراً ظهرت طبقة من العفن.
”العفن من الممكن أن يكون جميلاً” هكذا أخبرت زوجي. تضاعفت البقع، لتغطي الكعكة ببقع رقيقة ملونة.
”تخلصي منها،” أمرني زوجي.
استطعت تبين غضبه، ولكنني لم أفهم لماذا يتحدث بكل هذه القسوة عن كعكة عيد ميلاد ابننا، لذلك رميتها بوجهه، فغطي العفن والفتات شعره وخديه، وامتلأت الغرفة بالرائحة الفظيعة. رائحة أشبه برائحة الموت.
كعكات الفراولة كانت معروضة في الرف العلوي من صندوق الحلوي، أفضل بقعة في المتجر. غطي كل منها ثلاث حبات كاملة من الفراولة، بدت محفوظة بالكامل، دون أي علامات للعفن.
”أريد أن أنصرف” قالت السيدة العجوز. نهضت، عدلت من جيبتها، ونظرت خارج النافذة باتجاه الميدان، وكأنها تلقي نظرة أخيرة بحثاً عن فتاة المخبز.
”أنا سأنتظر بعض الوقت” قلت لها.
”فلتفعلي ذلك” أجابتني، بينما كانت تمد يدها لتلمس يدي برفق. يدها كانت جافة ومجعدة، خشنة جراء عملها، وثمة قذارة كانت تسكن أسفل أظافرها. علي الرغم من ذلك، كانت يدها دافئة ومريحة، شبيهة بذلك الدفء الذي تمنحه شمعات عيد الميلاد الصغيرة التي ذكرتها من قبل. “سأتفقد أماكن أخري فمن الممكن أن أعثر علي تلك الفتاة، وإن وجدتها سأخبرها بأن تتوجه لهنا مباشرةَ”.
”شكراً” قلت لها.
”ليست هناك مشكلة .. سلام”.
وضعت حافظتها أسفل ذراعها، واستدارت لترحل. أثناء خروجها من الباب الدوار، لاحظت أن خيوط جيبتها علي وشك أن تنحل من الخلف. حاولت أن أوقفها، لكنني تأخرت. اختفت وسط الحشود بالميدان، وعدت وحيدة مجدداً.
كان طفلاً ذكياً. كان بإمكانه قراءة كتاب الكوميكس المفضل من البداية وحتي النهاية بصوت عالٍ بدون خطأ واحد. كان يستخدم أصواتاً مختلفة لكل شخصية: الخنزير الصغير، الأمير، الإنسان الآلي، الرجل العجوز. كان أعسر، بجبهة عريضة وشامة علي شحمة أذنه. وعندما كنت أنشغل بتحضير العشاء، كان يسألني أسئلة غالباً لم أكن أعرف أجوبتها. من اخترع الحروف الصينية؟ لمَ يكبر الناس؟ ما هو الهواء؟ أين نذهب حين نموت؟
بعد رحيله، بدأت بجمع قصاصات الجرائد عن الأطفال الذين يموتون في ظل ظروف مأساوية. كل يوم كنت أذهب للمكتبة وأجمع المقالات من كل المجلات والجرائد، ومن ثم أنسخها.
فتاة في الحادية عشرة من اغتُصبت ودُفنت في غابة. فتي في التاسعة اختطفه منحرف ووجدوه لاحقاً في صندوق للنبيذ وقد تأذي كاحلاه. طفل في العاشرة يقوم بجولة في مصنع الحديد ينزلق من علي الممر لينصهر فوراً. كنت أقرأ تلك المقالات بصوت عالٍ، ألقيها كقصائد شعر.
كيف لم ألحظ ذلك من قبل؟ نهضت قليلاً من علي مقعدي ونظرت خلف المنضدة. الباب خلف منضدة دفع النقود كان نصف مفتوح، وكان بإمكاني رؤية داخل المطبخ. امرأة شابة كانت تقف هناك وأدارت وجهها. كنت علي وشك أن أناديها، ولكنني أوقفت نفسي. كانت تتحدث لشخص ما علي الهاتف، وكانت تبكي.
لم أستطع سماع أي شئ، لكنني استطعت رؤية ارتعاش كتفيها. كانت قد جمعت شعرها بإهمال تحت قبعة بيضاء. وعلي الرغم من بقع الكريمة والشيكولاتة، بدت جيتما نظيفة. جسدها الصغير بدا كجسد فتاة صغيرة.
عدت لمقعدي ونظرت للميدان. بائع البالونات كان لازال يصنع الحيوانات للأطفال. الحمام كان متناثراً هنا وهناك، والمرأة كانت لا تزال تحيك علي المقعد. بدا وكأن شيئاً لم يتغير، باستثناء ظل برج الساعة أصبح أطول وأنحف.
المطبخ بدا مرتباً وأنيقاً كالمتجر. أطباق، سكاكين، خلاطات، أكياس المعجنات، مناخل، كل ما قد تحتاجه لعمل اليوم كان موجوداً حيث يجب أن يكون. مناشف الأطباق كانت جافة ونظيفة، الأرض خالية من البقع. وفي وسطها وقفت الفتاة، بحزن يتناسب مع نظافة المطبخ. لم أسمع شيئاً، ولا كلمة، ولا صوت. تأرجح شعرها قليلاً مع تنهيداتها. كانت تنظر لأسفل باتجاه المنضدة، وقد مال جسدها علي الفرن. يدها اليمني تمسك بمنديل. لم أستطع رؤية التعبير علي وجهها، لكن حزنها كان ظاهراً من فكها المحكم، شحوب عنقها، قبضتها المتوترة علي الهاتف
سبب بكائها لم يهمني. ربما لم يكن هناك سبب علي الإطلاق. دموعها كانت تتحلي بذلك النقاء.
الباب الذي لا ينفتح مهما دفعته بقوة، مهما ضربته، الصرخات التي لم يسمعها أحد، الظلام الجوع، الألم، الاختناق ببطء، طرأ بعقلي في أحد الأيام أنه علي أن أختبر نفس المعاناة التي مر بها.
أولاً أطفأت ثلاجتنا وأفرغتها: سلطة البطاطس من ليلة البارحة، لحم الخنزير، البيض، المحشي، الخيار، السبانخ الذابلة، الزبادي، بعض زجاجات البيرة، أفرغتها من كل شئ. تساقط الكاتشب، انكسر البيض، ذاب الآيس كريم. ولكن الثلاجة كانت فارغة الآن، أخذت نفساً عميقاً، كورت جسدي، وببطء بدأت في الدخول.
بمجرد أن انغلق الباب، اختفي كل الضوء. لم أعد أستطيع معرفة ما إن كانت عيناي مفتوحتين أو مغمضتين، لاحظت أن ذلك ليس له أهمية هنا. حوائط الثلاجة كانت لا تزال باردة. من أين يأتي الموت؟
”ماذا تظنين نفسك فاعلة؟” سأل زوجي بعد أن كاد يقتلع باب الثلاجة أثناء فتحه.
”أنا ذاهبة إليه”، حاولت أن أبعد يده المرتعشة لأغلق الباب مرة أخري.
”هذا يكفي” أخبرني، وأخرجني من الثلاجة. صفعني، وبعدها تركني.
ما من شخص واحد في الميدان يعرف أن هناك امرأة تبكي في مطبخ المخبز. كنت أنا الشاهد الوحيد.
الظهيرة المتسللة عبر النافذة بدأت بالخفوت مع بدء الشمس في الاختفاء خلف سطح مبني البلدية. الرجل في الميدان مع حيواناته البالونية الشهيرة كان يقدم عروضه لعدد أقل من الأطفال الآن. تجمع بعض الأشخاص حول برج الساعة ليلتقطوا الصور لعرض الإنسان الآلي عندما تدق الخامسة.
كنت أعرف أن كل ما ينبغي علي فعله هو مناداة الفتاة، ومن ثم أستطيع شراء ما أرغب لأرحل، ولكنني امتنعت. جيبتها المغرقة بالنشاء كانت كبيرة بعض الشئ، ما زاد من صغرها وضعفها. لاحظت العرق علي رقبتها، أكمامها المجعدة وأصابعها الطويلة، وتخيلت كيف يكون شكلها عندما تعمل. تخيلتها وهي تخرج الكعكات الإسفنجية الساخنة من الفرن، وتزينها بالكريمة، وتضع كل حبة فراولة بعناية متناهية. كنت متأكدة من أنها تصنع أفضل كعكة فراولة في العالم.
بعد عدة سنوات من وفاة ابني، وعندما بدأت بالعيش بمفردي، تلقيت مكالمة تليفونية غريبة. الصوت كان غير مألوف ولكنه بدا صوتاً شاباً. بدا متوتراً بعض الشئ، ولكنه تكلم بأدب وهو يذكر اسم ابني.
”ماذا؟” لهثت قائلة، وتجمدت لدقيقة من الزمن.
”أهو بالمنزل؟” سألني.
”لا، ليس بالمنزل”، كان ما تمكنت من قوله.
”طيب. فقط أردت محادثته من أجل لم الشمل لصفنا بالمدرسة المتوسطة. أتعرفين متي سيعود؟”
أخبرته بأنه لم يكن بالمنزل، بأنه يعيش بالخارج ليدرس.
”أه، هذا مؤسف حقاً” قال. “كنت أتطلع لرؤيته”، وقد بدا محبطاً فعلاً.
”أكنتم صديقين؟”
”نعم. كنا في نادي المسرح معاً. كان هو الرئيس وكنت أنا نائب الرئيس.”
”نادي المسرح؟”
”فزنا بمنافسة المدينة وتأهلنا للمسابقة الوطنية. أتذكرين، قمنا بتأدية رجل اللهب. وقد لعب هو دور فان جوخ، وأنا لعبت دور أخيه ثيو. كان علي الدوام هو البطل، رجل مولع بالنساء، وكنت أنا صديقه المقرب. ليس علي المسرح فحسب بل في الواقع كذلك. كان هو مركز الاهتمام دوماً.”
لسبب ما لم يزعجني أنه يتحدث عن شخص آخر. ولم أحاول التصحيح له. كان ابني يقرأ كتب الكوميكس بشكل جيد جداً وكان من المرجح أن ينال الدور الرئيسي في مسرحية يوم ما.
”أمازال يمثل؟”
”نعم “
”حقاً؟ اعتقدت ذلك. أيمكنك إخباره بأنني اتصلت به؟”
”بالطبع، سأفعل.”
بعد أن أغلق الخط، أمسكت السماعة بالقرب من أذني لفترة من الوقت، أستمع لهمهمة التليفون. لم أسمعه مرة أخري.
بدأ جرس برج الساعة في الرنين. ارتفع سرب من الحمام للسماء. وبرنين الجرس الخامس، فتح باب أسفل الساعة ليخرج منه مهرجان راقص صغير من الدمي المتحركة، بعض الجنود، دجاجة، وهيكل عظمي. كانت الساعة قديمة جداً، والتماثيل تغير لونها بعض الشئ. رأس الدجاجة كانت تتأرجح وكأنها علي وشك الصراخ؛ الهيكل العظمي يرقص. ومن ثم ظهر ملاك، يرفرف بأجنحته الذهبية.
قامت الفتاة في المطبخ بوضع السماعة في مكانها. كنت أمسك بأنفاسي. نظرت إلي الهاتف لبعض الوقت، وبعدها تنهدت تنهيدة عميقة وجففت دموعها بالمنديل.
كررت لنفسي ما سأقوله عندما تظهر في ضوء المتجر المتلاشي: “كعكتان بالفراولة، من فضلك.”
____
*أخبار الأدب