يوكو أوجاوا‮..‬ الانتصار للجمال والشخصيات المهووسة


*رضوى أشرف

يوكو أوجاوا‮ ‬إحدي أشهر كاتبات اليابان في السنوات الأخيرة‮. ‬بدأت مشوارها الأدبي في أواخر الثمانينات،‮ ‬ومنذ عام‮ ‬1988‮ ‬حتي الآن نشرت أكثر من‮ ‬20‮ ‬عملاً‮ ‬أدبياً،‮ ‬ما بين القصة القصيرة والرواية،‮ ‬وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية المرموقة أهمها جائزة أكوتاجاوا،‮ ‬وتحولت روايتها‮ “‬مدبرة المنزل والأستاذ‮” ‬إلي فيلم بعنوان‮ “‬الأستاذ ومعادلته المفضلة‮”‬،‮ ‬كما شاركت عالم الرياضيات ماساهيكو فوجيوارا في كتاب‮ “‬مقدمة إلي أرقي العمليات الحسابية في العالم‮”‬،‮ ‬بحوارٍ‮ ‬تحدثت فيه عن جمال الأرقام المبهر‮.‬

قال عنها الأديب كينزابورو أو‮: ” ‬لديها القدرة علي أن تبث الحياة في أدق عمليات النفس البشرية بنثر رقيق وثاقب‮”‬،‮ ‬والحق أن شخصيات أوجاوا تمتاز بأنها‮ “‬لا تعرف لما تفعل ما تفعله‮”‬،‮ ‬وتعتمد علي تراكم التفاصيل،‮ ‬وهي تقنية أثبتت نجاحها في قصصها القصيرة‮. ‬
ورغم أن أبطالها ليسوا سيدات دائماً،‮ ‬إلا أن محاور أعمالها‮ ‬غالباً‮ ‬ما تدور عن المجتمع الياباني ودور المرأة فيه‮. ‬أما أسلوبها،‮ ‬فلم تتقيد بأسلوب واحد في أعمالها كلها،‮ ‬حيث تراوحت ما بين السريالية والغرابة والفكاهة،‮ ‬والأسلوب النفسي المبهم والمزعج أحياناً‮.‬
تدور أشهر أعمالها‮ “‬مدبرة المنزل والأستاذ‮” ‬حول أستاذ رياضيات عبقري ليست لديه القدرة علي تذكر أحداث أكثر من‮ ‬80‮ ‬دقيقة،‮ ‬جراء حادث مر به‮. ‬ومدبرة منزله الذكية،‮ ‬وابنها الذي‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر عشرة أعوام،‮ ‬المسئولة عن الاهتمام به‮. ‬وكل صباح‮ ‬يتعرف الأستاذ ومدبرة منزله علي بعضهم البعض من جديد،‮ ‬وتنشأ بينهما علاقة فريدة،‮ ‬فعقل الأستاذ أشبه بشريط‮ ‬يُعاد من جديد كل ثمانين دقيقة‮. ‬وكل ما‮ ‬يستطيع تذكره هي تلك المعادلات الصعبة من الماضي‮. ‬
وفي كتابها‮ “‬حمام السباحة‮”‬،‮ ‬الذي‮ ‬يضم ثلاث روايات قصيرة،‮ ‬يدور في فلك الحب والهوس،‮ ‬وكيف أن أبسط الانفعالات وأكثرها براءةً‮ ‬لا تخلو من نية شريرة‮. ‬مراهقة وحيدة تقع في حب أخيها بالتبني عندما تراه‮ ‬يقفز في حمام السباحة‮. ‬امرأة شابة تسجل تقلبات أختها المزاجية أثناء فترة حملها في مذكرة لنري الكثير من الهوس والتهيؤات،‮ ‬ولا نعرف أهي هلوساتها هي أم أختها؟ وامرأة تعود بالذكريات لأيامها الجامعية لتزور مبني السكن الجامعي الذي كانت تقطنه علي أطراف طوكيو،‮ ‬والذي‮ ‬يديره الآن شخص‮ ‬غامض مبتور الأطراف بساق وحيدة‮. ‬كتاب‮ ‬يجمع بين الأسلوب المضحك والغامض المخيف عن أشخاص عاديين‮ ‬يكتشفون ماضيهم المظلم‮.‬
وربما أغرب أعمالها علي الإطلاق وأشدها راديكالية رواية‮ “‬فندق أيريس‮”‬،‮ ‬التي تدور حول فندق ساحلي تديره ماري ووالدتها،‮ ‬وفي إحدي الليالي‮ ‬يضطران لطرد رجل متوسط العمر وعاهرة من الغرفة،‮ ‬لتجد ماري نفسها منجذبة إلي صوت الرجل‮. ‬وعلي الرغم من محيطها الضيق ووالدتها المتحكمة،‮ ‬إلا أن ماري تهوي التلصص علي تصرفات البشر،‮ ‬وتري في ذلك الرجل ما كانت تبحث عنه‮.‬
تمتاز شخصيات أوجاوا بالتعقيد من جهة،‮ ‬وبالبساطة من جهة أخري،‮ ‬فشخصياتها منفصلة عن العالم،‮ ‬متشككة،‮ ‬وعادة ما تأتيهم المساعدة من أكثر الشخصيات أو الأماكن‮ ‬غير المتوقعة‮. ‬كما تتمتع بأسلوب سرد شيق،‮ ‬يتجنب المباشرة وينتصر للجماليات‮.‬
‮ ‬من الصعب توقع شهرة خارجية لكاتبة مثلها،‮ ‬فحتي الكُتاب اليابانيون الآخرون الفائزوين بجائزة نوبل مثل كينزابورو أو كاواباتا‮ ‬ياسوناري لم‮ ‬ينالوا الشهرة التي نالتها هي في الولايات المتحدة الأمريكية وفي‮ ‬الترجمة‮.‬
تُرجمت أعمال أوجاوا إلي العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية،‮ ‬وبعد هاروكي موراكامي،‮ ‬تعد‮ ‬يوكو أوجاوا من أشهر الكُتاب اليابانيين حالياً‮ ‬وأكثرهم انتشاراً‮ ‬في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية‮.‬
__________
“الظهيرة في‮ ‬ المخبز”/ ترجمة: ‬رضوى أشرف
كان يوم أحد جميلاً‮. ‬السماء كانت قبة من نور بلا سحب‮. ‬وفي الميدان،‮ ‬كانت أوراق الشجر تتساقط علي الرصيف بفعل الهواء الرقيق‮. ‬كل شئ بدا لامعاً‮ ‬بضوء خافت‮: ‬سقف منصة بيع الأيس كريم،‮ ‬صنبور نافورة المياه،‮ ‬عيون قطة ضالة،‮ ‬حتي قاعدة برج الساعة المغطاة بفضلات الحمام‮.‬
تجولت مجموعات من العائلات والسياح في أرجاء الميدان،‮ ‬يستمتعون بعطلتهم الأسبوعية‮. ‬تستطيع سماع أصوات حادة قادمة من رجل في أحد الأركان،‮ ‬حيث يصنع حيوانات من البالونات‮. ‬التف حوله بعض الأطفال،‮ ‬منبهرين‮. ‬بالقرب منه جلست امرأة تخيط علي أحد المقاعد،‮ ‬وتردد صوت بوق سيارة من مكان ما‮. ‬انفجر سرب من الحمام في الجو،‮ ‬ليفاجئوا طفلاً‮ ‬ويبدأ بالبكاء،‮ ‬فتسرع الأم لتضمه بين ذراعيها‮.‬
بإمكانك أن تحملق في هذه الصورة المثالية طوال اليوم‮. ‬ظهيرة‮ ‬غارقة في الضوء والراحة‮ ‬وربما لن تلحظ تفصيلة واحدة تنقص المكان أو تشوهه‮. ‬وبمجرد دفعي لباب المخبز الدوار ودخولي،‮ ‬خفتت ضوضاء الميدان بالكامل،‮ ‬وتم استبدالها برائحة الفانيليا الحلوة‮. ‬المتجر كان فارغاً‮.‬
‮”‬معذرةً،‮” ‬ناديت بتردد‮. ‬لم يرد أحد،‮ ‬لذلك قررت أن أجلس علي أحد المقاعد وأنتظر‮.‬
كانت مرتي الأولي داخل المخبز،‮ ‬كان متجراً‮ ‬صغيراً‮ ‬متواضعاً،‮ ‬أنيقاً،‮ ‬ونظيفاً‮. ‬الكعك،‮ ‬الفطائر والشيكولاتة تم ترتيبها بحرص في صندوق زجاجي،‮ ‬وعلب البسكويت احتلت أرفف الجهة المقابلة‮. ‬وعلي المنضدة خلف المنضدة النقود كانت هناك لفافة جميلة من ورق التغليف البرتقالي بزخرفاته الزرقاء‮. ‬كل شئ بدا لذيذاً‮. ‬ولكنني كنت أعرف ماذا سأشتري قبل دخولي المحل‮: ‬كعكتا فراولة فحسب‮. ‬
رن جرس برج الساعة أربع مرات‮. ‬ومرة أخري حلق سرب الحمام في السماء ليطير عبر الميدان،‮ ‬ليستقر أمام متجر الورود‮. ‬خرجت بائعة الزهور بوجه عابس وهشتهم بيدها لتبعدهم،‮ ‬لتخترق موجة من الريش الرمادي سماء الميدان‮. ‬
لم تكن ثمة علامة علي وجود أي شخص بالمتجر،‮ ‬وبعد انتظاري لفترة أطول فكرت في الاستسلام والرحيل‮. ‬لكنني انتقلت مؤخراً‮ ‬لهذه المدينة ولا أعرف مخبزاً‮ ‬آخر بنفس الجودة‮. ‬وربما فكرة تركهم للزبائن ينتظرون هكذا مؤشر علي الثقة،‮ ‬لا انعدام الذوق‮. ‬الضوء في الصندوق الزجاجي كان هادئاً‮ ‬ولطيفاً،‮ ‬المخبوزات بدت رائعة،‮ ‬والكرسي كان مريحاً‮ ‬بعض الشئ‮. ‬أعجبت بذلك المكان،‮ ‬رغم مستوي الخدمة‮.‬
دخلت امرأة قصيرة وممتلئة عبر الباب الدوار‮. ‬ضوضاء الميدان دخلت وراءها قبل أن تتلاشي‮. “‬أهناك أحد هنا؟‮” ‬نادت‮. “‬أين ذهبت؟‮” ‬أضافت،‮ ‬وأدارت رأسها ناحيتي وابتسمت‮. “‬من المؤكد أنها ذهبت لقضاء حاجة ما‮. ‬أنا متأكدة أنها ستعود بسرعة‮.” ‬جلست بجواري وانحنيت لها قليلاً‮.‬
‮”‬أعتقد أن بإمكاني الوقوف وراء المنضدة وأخدمك بنفسي،‮” ‬قالت المرأة‮. “‬أعرف كيف تسير الأمور هنا بشكل جيد،‮ ‬أنا أبيع التوابل لهم‮”‬
‮”‬هذا لطف بالغ‮ ‬منك،‮ ‬لكنني لست مستعجلة،‮” ‬أخبرتها‮.‬
انتظرنا معاً‮. ‬قامت بتعديل وشاحها،‮ ‬نقرت طرف حذائها،‮ ‬وبدأت تتململ بعصبية وهي تلهو بمشبك حافظة جلدية سوداء‮ ‬من الواضح أنها تستخدمها لتحصيل حساباتها‮. ‬لاحظت أنها كانت تحاول أن تفكر في شئ نتحدث عنه‮.‬
‮”‬الكعكات هنا لذيذة،‮” ‬قالت أخيراً‮. “‬هم يستخدمون توابلنا،‮ ‬لذلك يمكنك التأكد أنه لا يوجد شئ‮ ‬غريب بها‮”.‬
‮”‬هذا مطمئن،‮” ‬أخبرتها‮.‬
‮”‬هذا المكان عادةً‮ ‬ما يكون مزدحماً‮. ‬شئ‮ ‬غريب أن يكون فارغاً‮ ‬اليوم‮. ‬غالباً‮ ‬ما يكون هناك صف بالخارج في الانتظار‮”‬
مر بعض الأشخاص أمام نافذة المتجر‮. ‬أزواج شباب،‮ ‬عجائز،‮ ‬سياح،‮ ‬شرطي أثناء نوبة حراسته،‮ ‬ولكن لم يبد علي أحدهم الاهتمام بالمخبز‮. ‬التفتت المرأة لتنظر باتجاه الميدان،‮ ‬ومررت أصابعها بين شعرها الأبيض المموج‮. ‬وكلما تحركت في مقعدها،‮ ‬انبعثت رائحة‮ ‬غريبة؛ رائحة الأعشاب الطبية والفاكهة الناضجة مندمجة برائحة جونلتها الشبيهة بالمواد الكيماوية،‮ ‬ذكرتني بطفولتي،‮ ‬ورائحة المشتل الصغير في الحديقة حيث كان أبي يزرع زهور الأوركيدا‮. ‬كنت ممنوعة من فتح الباب منعاً‮ ‬باتاً؛ لكنني مرة وبدون إذن،‮ ‬فعلتها‮. ‬رائحة الأوركيدا لم تكن كريهة،‮ ‬بل لطيفة‮.‬
‮”‬سعدت لرؤية كعكات الفراولة لديهم‮” ‬أخبرتها وأنا أشير للصندوق‮. “‬تلك كعكات حقيقية‮. ‬لا ذلك الجيلي،‮ ‬أو تلك المغطاة بقطع الفاكهة الزائدة عن الحد،‮ ‬أو تلك الأشكال الصغيرة التي يستخدمونها في التزيين‮. ‬فقط فراولة وكريمة‮”‬
‮”‬معكِ‮ ‬حق‮” ‬أخبرتني‮. “‬أضمن لك جودتها‮. ‬هي أفضل شئ في هذا المتجر‮. ‬وقد استخدموا في قاعدتها الفانيليا الخاصة بنا‮”.‬
‮”‬سأشتريها لابني‮. ‬اليوم عيد ميلاده‮”‬
‮”‬حقاً؟ أتمني أن يكون يوماً‮ ‬سعيداً‮. ‬كم عمره؟‮”‬
‮”‬ست سنوات‮. ‬وسيظل في السادسة للأبد‮. ‬ابني ميت‮”‬
مات منذ اثني عشر عاماً‮ ‬مختنقاً‮ ‬في ثلاجة مهجورة بمكان خالٍ‮. ‬عندما رأيته وقتها،‮ ‬لم أعتقد أنه ميت‮. ‬ظننته فقط خجلاناً‮ ‬من النظر في عيني بعد تغيبه عن المنزل لثلاثة أيام‮. ‬كانت تقف بالقرب مني امرأة عجوز لم أرها من قبل،‮ ‬تبدو منبهرة،‮ ‬وأدركت أنها قد تكون من عثرت عليه‮. ‬شعرها كان أشعث،‮ ‬وجهها شاحباً،‮ ‬وشفتاها ترتعشان‮. ‬بدا عليها الموت أكثر من ابني‮. ‬
‮”‬أنا لست‮ ‬غاضبة،‮ ‬كما تعرف،‮” ‬قلت له‮. “‬تعال هنا لأحضنك‮. ‬اشتريت الكعكة لعيد ميلادك‮. ‬هيا لنعود للمنزل‮.” ‬ولكنه لم يتحرك‮. ‬كان قد لف نفسه بطريقة ذكية ليتلاءم حجمه مع المساحة ما بين الأرفف وصندوق البيض،‮ ‬طويت ساقاه بحرص وكان وجهه مدفوناً‮ ‬بين ركبتيه‮. ‬انحناءة عموده الفقري تراجعت إلي ركن مظلم ومكدس لم أتمكن من رؤيته‮. ‬لون جلد رقبته تغير بفعل الضوء القادم من الباب المفتوح‮. ‬كان ناعماً‮ ‬للغاية،‮ ‬مغطي بضوء رقيق كنت أعرفه جيداً‮. “‬لا،‮ ‬هذا مستحيل،‮” ‬قلت للمرأة التي بجواري‮. “‬هو نائم فحسب‮. ‬فهو لم يأكل شيئاً،‮ ‬ولا بد أنه متعب‮. ‬هيا لنحمله للمنزل ونحاول ألا نوقظه‮. ‬عليه أن ينام بالقدر الذي يرغب به‮. ‬سيستيقظ لاحقاً،‮ ‬أنا متأكدة من ذلك‮.” ‬ولكن المرأة لم تجب‮.‬
رد فعل المرأة في المتجر بعد سماع قصتي كان
يختلف عن أي شئ قابلته في الماضي‮. ‬لم تكن هناك أي علامة علي التعاطف أو المفاجأة أو حتي الإحراج علي وجهها‮. ‬كنت سأعرف إن كانت فقط تتظاهر بالرد بكل ذلك الهدوء‮. ‬تجربة فقدان ابني علمتني قراءة الأشخاص،‮ ‬وعرفت علي الفور بأن هذه المرأة صريحة للغاية‮. ‬فهي لم تندم علي سؤالي ذلك السؤال ولم تلمني علي اعترافي بشئ شخصي كهذا لشخص‮ ‬غريب‮.‬
‮”‬حسناً،‮” ‬قالت،‮ “‬لحسن طالعك اخترتِ‮ ‬هذا المخبز‮. ‬لن تجدين مخبوزات أفضل منه في أي مكان؛ وابنك سيكون سعيداً‮ ‬جداً‮. ‬حتي أنهم يمنحون علبة شمع لكعكات عيد الميلاد مجاناً‮. ‬فاتنة حقاً،‮ ‬حمراء،‮ ‬زرقاء،‮ ‬وردية،‮ ‬صفراء،‮ ‬ببعض الزهور أو الفراشات أو الحيوانات،‮ ‬أو أي شئ ترغبينه‮.”‬
ابتسمتُ‮ ‬ابتسامة صغيرة تتناسب مع هدوء المخبز‮. ‬ووجدتني أتساءل هل فهمت حقاً‮ ‬أن ابني مات‮. ‬أم أنها فقط تعرف الكثير عن موت الأشخاص‮.‬
بعد مرور وقت طويل من اكتشافي بأن ابني لن يعود،‮ ‬احتفظت بكعكة الفراولة التي كان من المفترض أن نأكلها معاً،‮ ‬وقضيت أيامي في مراقبتها تتعفن‮. ‬أولاً،‮ ‬اكتسبت الكريمة اللون البني وانفصلت عن الدهون،‮ ‬لتترك أثرها علي ورق السيلوفان‮. ‬بعدها جفت الفراولة،‮ ‬وتجعدت مثل رؤوس أطفال مشوهة‮. ‬أما الكعكة الاسفنجية فتصلبت وتشققت،‮ ‬وأخيراً‮ ‬ظهرت طبقة من العفن‮.‬
‮”‬العفن من الممكن أن يكون جميلاً‮” ‬هكذا أخبرت زوجي‮. ‬تضاعفت البقع،‮ ‬لتغطي الكعكة ببقع رقيقة ملونة‮. ‬
‮”‬تخلصي منها،‮” ‬أمرني زوجي‮.‬
استطعت تبين‮ ‬غضبه،‮ ‬ولكنني لم أفهم لماذا يتحدث بكل هذه القسوة عن كعكة عيد ميلاد ابننا،‮ ‬لذلك رميتها بوجهه،‮ ‬فغطي العفن والفتات شعره وخديه،‮ ‬وامتلأت الغرفة بالرائحة الفظيعة‮. ‬رائحة أشبه برائحة الموت‮.‬
كعكات الفراولة كانت معروضة في الرف العلوي من صندوق الحلوي،‮ ‬أفضل بقعة في المتجر‮. ‬غطي كل منها ثلاث حبات كاملة من الفراولة،‮ ‬بدت محفوظة بالكامل،‮ ‬دون أي علامات للعفن‮. ‬
‮”‬أريد أن أنصرف‮” ‬قالت السيدة العجوز‮. ‬نهضت،‮ ‬عدلت من جيبتها،‮ ‬ونظرت خارج النافذة باتجاه الميدان،‮ ‬وكأنها تلقي نظرة أخيرة بحثاً‮ ‬عن فتاة المخبز‮.‬
‮”‬أنا سأنتظر بعض الوقت‮” ‬قلت لها‮.‬
‮”‬فلتفعلي ذلك‮” ‬أجابتني،‮ ‬بينما كانت تمد يدها لتلمس يدي برفق‮. ‬يدها كانت جافة ومجعدة،‮ ‬خشنة جراء عملها،‮ ‬وثمة قذارة كانت تسكن أسفل أظافرها‮. ‬علي الرغم من ذلك،‮ ‬كانت يدها دافئة ومريحة،‮ ‬شبيهة بذلك الدفء الذي تمنحه شمعات عيد الميلاد الصغيرة التي ذكرتها من قبل‮. “‬سأتفقد أماكن أخري‮ ‬فمن الممكن أن أعثر علي تلك الفتاة،‮ ‬وإن وجدتها سأخبرها بأن تتوجه لهنا مباشرةَ‮”.‬
‮”‬شكراً‮” ‬قلت لها‮.‬
‮”‬ليست هناك مشكلة‮ .. ‬سلام‮”.‬
وضعت حافظتها أسفل ذراعها،‮ ‬واستدارت لترحل‮. ‬أثناء خروجها من الباب الدوار،‮ ‬لاحظت أن خيوط جيبتها علي وشك أن تنحل من الخلف‮. ‬حاولت أن أوقفها،‮ ‬لكنني تأخرت‮. ‬اختفت وسط الحشود بالميدان،‮ ‬وعدت وحيدة مجدداً‮.‬
كان طفلاً‮ ‬ذكياً‮. ‬كان بإمكانه قراءة كتاب الكوميكس المفضل من البداية وحتي النهاية بصوت عالٍ‮ ‬بدون‮ ‬خطأ واحد‮. ‬كان يستخدم أصواتاً‮ ‬مختلفة لكل شخصية‮: ‬الخنزير الصغير،‮ ‬الأمير،‮ ‬الإنسان الآلي،‮ ‬الرجل العجوز‮. ‬كان أعسر،‮ ‬بجبهة عريضة وشامة علي شحمة أذنه‮. ‬وعندما كنت أنشغل بتحضير العشاء،‮ ‬كان يسألني أسئلة‮ ‬غالباً‮ ‬لم أكن أعرف أجوبتها‮. ‬من اخترع الحروف الصينية؟ لمَ‮ ‬يكبر الناس؟ ما هو الهواء؟ أين نذهب حين نموت؟
بعد رحيله،‮ ‬بدأت بجمع قصاصات الجرائد عن الأطفال الذين يموتون في ظل ظروف مأساوية‮. ‬كل يوم كنت أذهب للمكتبة وأجمع المقالات من كل المجلات والجرائد،‮ ‬ومن ثم أنسخها‮.‬
فتاة في الحادية عشرة من اغتُصبت ودُفنت في‮ ‬غابة‮. ‬فتي في التاسعة اختطفه منحرف ووجدوه لاحقاً‮ ‬في صندوق للنبيذ وقد تأذي كاحلاه‮. ‬طفل في العاشرة‮ ‬يقوم بجولة في مصنع الحديد ينزلق من علي الممر لينصهر فوراً‮. ‬كنت أقرأ تلك المقالات بصوت عالٍ،‮ ‬ألقيها كقصائد شعر‮. ‬
كيف لم ألحظ ذلك من قبل؟ نهضت قليلاً‮ ‬من علي مقعدي ونظرت خلف المنضدة‮. ‬الباب خلف منضدة دفع النقود كان نصف مفتوح،‮ ‬وكان بإمكاني رؤية داخل المطبخ‮. ‬امرأة شابة كانت تقف هناك وأدارت وجهها‮. ‬كنت علي وشك أن أناديها،‮ ‬ولكنني أوقفت نفسي‮. ‬كانت تتحدث لشخص ما علي الهاتف،‮ ‬وكانت تبكي‮.‬
لم أستطع سماع أي شئ،‮ ‬لكنني استطعت رؤية ارتعاش كتفيها‮. ‬كانت قد جمعت شعرها بإهمال تحت قبعة بيضاء‮. ‬وعلي الرغم من بقع الكريمة والشيكولاتة،‮ ‬بدت جيتما نظيفة‮. ‬جسدها الصغير بدا كجسد فتاة صغيرة‮.‬
عدت لمقعدي ونظرت للميدان‮. ‬بائع البالونات كان لازال‮ ‬يصنع الحيوانات للأطفال‮. ‬الحمام كان متناثراً‮ ‬هنا وهناك،‮ ‬والمرأة كانت لا تزال تحيك علي المقعد‮. ‬بدا وكأن شيئاً‮ ‬لم يتغير،‮ ‬باستثناء ظل برج الساعة أصبح أطول وأنحف‮.‬
المطبخ بدا مرتباً‮ ‬وأنيقاً‮ ‬كالمتجر‮. ‬أطباق،‮ ‬سكاكين،‮ ‬خلاطات،‮ ‬أكياس المعجنات،‮ ‬مناخل،‮ ‬كل ما قد تحتاجه لعمل اليوم كان موجوداً‮ ‬حيث يجب أن يكون‮. ‬مناشف الأطباق كانت جافة ونظيفة،‮ ‬الأرض خالية من البقع‮. ‬وفي وسطها وقفت الفتاة،‮ ‬بحزن يتناسب مع نظافة المطبخ‮. ‬لم أسمع شيئاً،‮ ‬ولا كلمة،‮ ‬ولا صوت‮. ‬تأرجح شعرها قليلاً‮ ‬مع تنهيداتها‮. ‬كانت تنظر لأسفل باتجاه المنضدة،‮ ‬وقد مال جسدها علي الفرن‮. ‬يدها اليمني تمسك بمنديل‮. ‬لم أستطع رؤية التعبير علي وجهها،‮ ‬لكن حزنها كان ظاهراً‮ ‬من فكها المحكم،‮ ‬شحوب عنقها،‮ ‬قبضتها المتوترة علي الهاتف‮ ‬
سبب بكائها لم يهمني‮. ‬ربما لم يكن هناك سبب علي الإطلاق‮. ‬دموعها كانت تتحلي بذلك النقاء‮.‬
الباب الذي لا ينفتح مهما دفعته بقوة،‮ ‬مهما ضربته،‮ ‬الصرخات التي لم يسمعها أحد،‮ ‬الظلام الجوع،‮ ‬الألم،‮ ‬الاختناق ببطء،‮ ‬طرأ بعقلي في أحد الأيام أنه علي أن أختبر نفس المعاناة التي مر بها‮. ‬
أولاً‮ ‬أطفأت ثلاجتنا وأفرغتها‮: ‬سلطة البطاطس من ليلة البارحة،‮ ‬لحم الخنزير،‮ ‬البيض،‮ ‬المحشي،‮ ‬الخيار،‮ ‬السبانخ الذابلة،‮ ‬الزبادي،‮ ‬بعض زجاجات البيرة،‮ ‬أفرغتها من كل شئ‮. ‬تساقط الكاتشب،‮ ‬انكسر البيض،‮ ‬ذاب الآيس كريم‮. ‬ولكن الثلاجة كانت فارغة الآن،‮ ‬أخذت نفساً‮ ‬عميقاً،‮ ‬كورت جسدي،‮ ‬وببطء بدأت في الدخول‮. ‬
بمجرد أن انغلق الباب،‮ ‬اختفي كل الضوء‮. ‬لم أعد أستطيع معرفة ما إن كانت عيناي مفتوحتين أو مغمضتين،‮ ‬لاحظت أن ذلك ليس له أهمية هنا‮. ‬حوائط الثلاجة كانت لا تزال باردة‮. ‬من أين يأتي الموت؟
‮”‬ماذا تظنين نفسك فاعلة؟‮” ‬سأل زوجي بعد أن كاد يقتلع باب الثلاجة أثناء فتحه‮.‬
‮”‬أنا ذاهبة إليه‮”‬،‮ ‬حاولت أن أبعد يده المرتعشة لأغلق الباب مرة أخري‮.‬
‮”‬هذا يكفي‮” ‬أخبرني،‮ ‬وأخرجني من الثلاجة‮. ‬صفعني،‮ ‬وبعدها تركني‮.‬
ما من شخص واحد في الميدان يعرف أن هناك امرأة تبكي في مطبخ المخبز‮. ‬كنت أنا الشاهد الوحيد‮.‬
‮ ‬الظهيرة المتسللة عبر النافذة بدأت بالخفوت مع بدء الشمس في الاختفاء خلف سطح مبني البلدية‮. ‬الرجل في الميدان مع حيواناته البالونية الشهيرة كان يقدم عروضه لعدد أقل من الأطفال الآن‮. ‬تجمع بعض الأشخاص حول برج الساعة ليلتقطوا الصور لعرض الإنسان الآلي عندما تدق الخامسة‮.‬
كنت أعرف أن كل ما‮ ‬ينبغي علي فعله هو مناداة الفتاة،‮ ‬ومن ثم أستطيع شراء ما أرغب‮ ‬لأرحل،‮ ‬ولكنني امتنعت‮. ‬جيبتها المغرقة بالنشاء كانت كبيرة بعض الشئ،‮ ‬ما زاد من صغرها وضعفها‮. ‬لاحظت العرق علي رقبتها،‮ ‬أكمامها المجعدة وأصابعها الطويلة،‮ ‬وتخيلت كيف يكون شكلها عندما تعمل‮. ‬تخيلتها وهي تخرج الكعكات الإسفنجية الساخنة من الفرن،‮ ‬وتزينها بالكريمة،‮ ‬وتضع كل حبة فراولة بعناية متناهية‮. ‬كنت متأكدة من أنها تصنع أفضل كعكة فراولة في العالم‮.‬
بعد عدة سنوات من وفاة ابني،‮ ‬وعندما بدأت بالعيش بمفردي،‮ ‬تلقيت مكالمة تليفونية‮ ‬غريبة‮. ‬الصوت كان‮ ‬غير مألوف ولكنه بدا صوتاً‮ ‬شاباً‮. ‬بدا متوتراً‮ ‬بعض الشئ،‮ ‬ولكنه تكلم بأدب وهو يذكر اسم ابني‮. ‬
‮”‬ماذا؟‮” ‬لهثت قائلة،‮ ‬وتجمدت لدقيقة من الزمن‮.‬
‮”‬أهو بالمنزل؟‮” ‬سألني‮.‬
‮”‬لا،‮ ‬ليس بالمنزل‮”‬،‮ ‬كان ما تمكنت من قوله‮.‬
‮”‬طيب‮. ‬فقط أردت محادثته من أجل لم الشمل لصفنا بالمدرسة المتوسطة‮. ‬أتعرفين متي سيعود؟‮”‬
أخبرته بأنه لم يكن بالمنزل،‮ ‬بأنه يعيش بالخارج ليدرس‮. ‬
‮”‬أه،‮ ‬هذا مؤسف حقاً‮” ‬قال‮. “‬كنت أتطلع لرؤيته‮”‬،‮ ‬وقد بدا محبطاً‮ ‬فعلاً‮.‬
‮”‬أكنتم صديقين؟‮”‬
‮”‬نعم‮. ‬كنا في نادي المسرح معاً‮. ‬كان هو الرئيس وكنت أنا نائب الرئيس‮.”‬
‮”‬نادي المسرح؟‮”‬
‮”‬فزنا بمنافسة المدينة وتأهلنا للمسابقة الوطنية‮. ‬أتذكرين،‮ ‬قمنا بتأدية رجل اللهب‮. ‬وقد لعب هو دور فان جوخ،‮ ‬وأنا لعبت دور أخيه ثيو‮. ‬كان علي الدوام هو البطل،‮ ‬رجل مولع بالنساء،‮ ‬وكنت أنا صديقه المقرب‮. ‬ليس علي المسرح فحسب بل في الواقع كذلك‮. ‬كان هو مركز الاهتمام دوماً‮.”‬
لسبب ما لم يزعجني أنه يتحدث عن شخص آخر‮. ‬ولم أحاول التصحيح له‮. ‬كان ابني يقرأ كتب الكوميكس بشكل جيد جداً‮ ‬وكان من المرجح أن ينال الدور الرئيسي في مسرحية يوم ما‮. ‬
‮”‬أمازال يمثل؟‮”‬
‮”‬نعم‮ “‬
‮”‬حقاً؟ اعتقدت ذلك‮. ‬أيمكنك إخباره بأنني اتصلت به؟‮”‬
‮”‬بالطبع،‮ ‬سأفعل‮.”‬
بعد أن أغلق الخط،‮ ‬أمسكت السماعة بالقرب من أذني لفترة من الوقت،‮ ‬أستمع لهمهمة التليفون‮. ‬لم أسمعه مرة أخري‮.‬
بدأ جرس برج الساعة في الرنين‮. ‬ارتفع سرب من الحمام للسماء‮. ‬وبرنين الجرس الخامس،‮ ‬فتح باب أسفل الساعة ليخرج منه مهرجان راقص صغير من الدمي المتحركة،‮ ‬بعض الجنود،‮ ‬دجاجة،‮ ‬وهيكل عظمي‮. ‬كانت الساعة قديمة جداً،‮ ‬والتماثيل تغير لونها بعض الشئ‮. ‬رأس الدجاجة كانت تتأرجح وكأنها علي وشك الصراخ؛ الهيكل العظمي يرقص‮. ‬ومن ثم ظهر ملاك،‮ ‬يرفرف بأجنحته الذهبية‮.‬
قامت الفتاة في المطبخ بوضع السماعة في مكانها‮. ‬كنت أمسك بأنفاسي‮. ‬نظرت إلي الهاتف لبعض الوقت،‮ ‬وبعدها تنهدت تنهيدة عميقة وجففت دموعها بالمنديل‮.‬
كررت لنفسي ما سأقوله عندما تظهر في ضوء المتجر المتلاشي‮: “‬كعكتان بالفراولة،‮ ‬من فضلك‮.”‬
____
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *