*رفعت أبو عساف
لا راحة أو محطات توانٍ وجمود، في مسيرة العطاء والدراسة والتأليف، لدى باحث مجد كالدكتور علي إبراهيم النملة، فشغله الشاغل المعرفة كونها مفتاح الأمان الثقافي والاجتماعي العام. وهكذا فإنه لا ينفك يجد الطريق أمامه طويلة تستلزم تكثيف العمل، لأن الاحتياجات كثيرة وملحة.
وليس مستغرباً مع هذا التوجه، أن نتبين أن باحثاً سعودياً لم تفلح السياسة في جذبه واستقطابه حتى النهاية، ينكب على توصيف ماهية أزماتنا الثقافية، بتجرد وموضوعية، عبر مسارب ودروب تحليل ونبش يعرج معها على تفكيك مكون »ثقافة العيب« التي تحكمنا، بجانب جملة موضوعات ومسائل وعناوين مجتمعية أخرى.
وذلك حتى شرع، أخيراً، خاصة في السنوات الخمس الماضية، يطيل المكوث ويوسع منهجه في الاستقراء والنبش ضمن عوالم الاستشراق، راصدا اتجاهاته، ومصوباً ما اعترى الأحكام حوله، ومفصلا في المغالطات بشأنه.
إذ يؤكد في حواره مع »بيان الكتب« ضرورة أن نعيد النظر في تصورنا حول إسهام المستشرقين في حفظ تراثنا، موضحا أنه علينا الاعتراف بفضلهم في صون غالبية وثائقنا التاريخية وكتبنا من الاندثار، فإلى الحوار التالي:
نوافذ استشراق
تركز اهتمامك، خاصة في السنوات الأخيرة، على البحث في الاستشراق وفي جذوره والأحكام في خصوصه ما خلفية هذا التوجه؟
لا خلاف أن الاستشراق حركة مهمة في تاريخ وواقع الفكر العالمي. فلافت أن مجموعة علماء من الغرب، انكبت منذ قرون عديدة، على التعاطي مع علوم العرب والمسلمين، لرصد مكون تراثهم وأخلاقهم وعاداتهم وآدابهم وسلوكياتهم، دراسة وتحقيقا وترجمة وحفظاً ونقداً، وبطبيعة الحال، فإن تكهنات وآراء كثيرة أطلقت حول دوافع هذه الفئة.
فمنهم من وجد أن غاياتها استعمارية، وآخرون رؤوا فيها نافذة تنصير لمجتمعاتنا أو لأغراض التجارة، وغيرها الكثير. ولكن المؤكد والثابت علميا، اننا لا يجب أن ننظر الى المستشرقين والاستشراق من زاوية واحدة. وبذا علينا »نقد الاستشراق برؤى جذرية«، لا تخفي ما قدمه رواده من فائدة وخدمة لحضارتنا.
لذلك ما يعنيني أنا حاليا، كشف فضل نخبة من هؤلاء في حفظ تراثنا. ذلك خاصة كوني درست في ألمانيا، بلد المستشرقين المفكرين الذين اغنوا الحضارة العربية والإسلامية بحفظ وثائقها وتراثها، من دون أية توجهات ونزعات استعمارية.
مفاهيم ومغالطات
هل تعني أن الاستشراق، وعلى خلاف ما ذهب اليه إدوارد سعيد، نعمة لا نقمة؟
عجيب ما يعتري فكرنا ومفاهيمنا من مغالطات وظلم تاريخي في هذا الخصوص، فما بالنا نكيل كل تلك الاتهامات لمجموعة علماء سخرت وقتها وجهدها وإمكاناتها لحفظ موروثنا وصيانته من الزوال، في زمن كنا فيه نغرق في الجهل وتتناوشنا الحروب والويلات، ومن ثم حققته وكشفت مكنونه فردته الينا، بعد أن هدأت الفتنة في ربوعنا وعقب أن علمنا قيمة تلك المفردات التراثية من مخطوطات وتحف وغيرها. أليس من واجبنا، شرعاً حتى، ان ننصف فنشكر هؤلاء.
للأسف، جرفتنا رؤية أحادية غالينا معها في مهاجمة الاستشراق، ثم جذبتنا طروحات من قبيل ما ذهب إليه المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد، بأن الاستشراق عامة، هو كما الأميركي الإمبريالي النزعة، كان لخدمة أهداف استعمارية. انها رؤية مبتورة وهدامة. أنا لست أقول هنا ان الاستشراق بكامله إيجابي، وإنما علينا ان ننصف فنسمي كلا من مضامينه بشكل علمي صائب وغير مدفوع بنظرة ورأي مسبقين.
لا للتعميم
أليس هناك من عوامل أو أسباب ربما كانت السبب في موقفنا هذا من الاستشراق، لا بحكم وتأثير آراء إداورد سعيد فقط؟
نعم. هذا صحيح. لكننا معنيون بالتصحيح. ورفض التعميم. وعلينا أن لا ننتقص من قدر جهود جبارة في المجال، كمثل ما فعله المفكر الألماني هلموت ريتر (1892-1971)، الذي أنشأ مكتبة إسلامية في تركيا. وكان مشرفا على معهد الآثار الألماني في إسطنبول طوال ثلاثين عاماً، إذ أسس مشروع المكتبة في 1931.
واصدرها المعهد الألماني في بيروت، وضمت اصداراته ثمانية وأربعين مجلدا، اشترك في تحقيقها عدد من المستشرقين وعلماء العرب والإسلام. وأذكر هنا كتاب »الوافي بالوفيات« لصلاح الدين أبو الصفا خليل بن ايبك بن عبدالله الصفدي، والذي مثل المجموعة السادسة من نشرات المكتبة.
وطبعا حديثي هنا لا يمنعني من ذكر بعض الأسباب التي اشرت اليها انها اسهمت في نبذ الاستشراق، بفعل تغيب الموضوعية والحيادية، في مضمون جملة مؤلفات أخيرة برزت بشكل خاص، كان من بين دوافعها وسماتها والشروط التي وجهتها: اتجاهات متنوعة ضمن الثورة في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، وضع الإسلام في مواجهة الغرب كبديل عن العدو الشيوعي، السعي الى احتواء الاسلام بعد تصويره واهله على أنه موطن الإرهاب والأصولية.
خلاصات
أرّخت في كتابك الأخير، لظهور الاستشراق وخلفيات انبثاق الآراء حوله ومنبتها، فعلى ماذا اعتمدت وما الخلاصة التي وصلت اليها؟
عدت في بحثي في هذا الاتجاه، الى شتى المراجع، لمؤلفين عرب وأجانب، وحرصت على دراسة مؤلفات لأصحاب وجهات نظر متباينة في هذا الشأن. إذاً، ما ذكرته في الكتاب، محقق وموثوق، فهو ثمرة ابحاث مضنية سمتها الدقة والموضوعية.
واستنتجت، طبقا لمعطيات الأبحاث التي كانت بين يدي، ان هناك احد عشر رأيا حول نشأة الاستشراق، منها ما يراه بدأ منذ عهد الرسول الكريم محمد »عليه الصلاة والسلام«. وهناك دارسون يعيدون نشأة الاستشراق الى ما يزيد على ألف سنة.
والثابت ان موقف المفكرين العرب من الاستشراق كان متعدداً. فمنهم من عده حركة استعمارية. وتوجد فئة ناصرته.
وذهب آخرون، »وهم من الفئة الثالثة«، الى ضرورة التمييز بين البنّاء والهدام فيه. لكن، وبصورة عامة، انطلق الموقف من الاستشراق ورجالاته، في البدء، محدداً ومحكوماً بالانبهار العاطفي والإعجاب من قبل مفكري العربية، بمجموعة باحثين تدرس الإسلام والآداب العربية.. وتحقق وتحفظ تراثنا ومخطوطاتنا الموجودة في مكتبات الغرب.
ذلك رغم أن أفرادها ليسوا مسلمين أو عرباً. ومن ثم اخذت تتبين لبعض المفكرين العرب الميول نحو خدمة أغراض احتلالية أو تنصيرية أو سياسية أو استخباراتية لدى شريحة من المستشرقين. وحينها تكوّن الموقف المناهض للاستشراق. وشرعت تظهر المواقف، بين مؤيد ومعارض ووسطي.
ومن أبرز المعارضين كان: أحمد فارس الشدياق، الأمير شكيب أرسلان، مالك بن نبي، عمر فروخ. وأما المنبهرون والمؤيدون، فمنهم: زكي مبارك، يوسف أسعد داغر، محمد أركون، صادق جلال العظم. وبالنسبة لمن هم من الموقف الوسط، فأبرز من يمثلهم: محمد كرد علي، محمد جواد، مصطفى السباعي، سامي الصقار، رضوان السيد.
بطاقة
د. علي إبراهيم النملة. باحث سعودي، تولى مهام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في السعودية سابقاً، ثم تفرغ للأبحاث والعمل الأكاديمي، وهو حاصل على الدكتوراه في المعلومات والمكتبات.
شغل العديد من المسؤوليات، منها: عضو مجلس الشورى السعودي. لديه مؤلفات عديدة، منها: الاستشراق في الأدبيات العربية: عرض للنظرات وحصر وراقي للمكتوب، تأمُّلات في طريق الدعوة: جولات في الزمان والمكان والتحديات، التنصير في الأدبيات العربية.
الأمن المعرفي.. ضمانة الحاضر وبوابة المستقبل
يرصد الباحث السعودي، د. علي إبراهيم النملة، في كتابه »الاستشراق بين منحيين: النقد الجذري أو الإدانة«، قيمة حركة الاستشراق، الفريدة من نوعها في تاريخ الفكر، شارحا مواقف علماء الاسلام ومفكري العربية وبعض المستشرقين، حول نقد الاستشراق من حيث اسهاماته في خدمة التراث العربي والإسلامي وآداب المسلمين وسياساتهم ومجتمعاتهم وفنونهم، اذ ادى هذا التفاوت في المواقف، الى الخروج برؤية أقرب الى الموضوعية، من حيث النقد الجذري للاستشراق، عوضا عن الإدانة.
أسباب
يتوسع الباحث السعودي في ذكر دور المفكرين الألمان في حركة الاستشراق. ونجده في عموم ما يذهب اليه في الصدد، يشدد على أن الموضوعية وضعف وجود الرغبات والتوجهات الاستعمارية، عاملان أسهما في كون الاستشراق الألماني ركز على المضمون والقيمة والنهج العلمي في تعاطيه مع مخطوطاتنا ووثائقنا، وهو ما تترجم خيرا وجدوى خالصة بالنسبة لنا ولتراثنا، طبعا مع استثناءات قليلة.
ظنون واتهامات
ويوضح النملة، أن النقاد المسلمين والعرب، ومعهم بعض المستشرقين، طالما نظروا إلى الاستشراق على كونه روحاً لواحدة من الغايات التالية: التنصير، الاحتلال، السياسة، التهويد.
ولكنه في المقابل، ينبه إلى خطورة استمرار تسيد هذا الرأي، وبروز تيارات عريضة تناصره، داعيا إلى أن نهتم بدراسة الاستشراق وفق منحى أكاديمي وقياسي تجريدي خال من الأحكام العفوية، فللاستشراق، كما يؤكد، فوائد جمة، أثرى معها ثقافتنا، واطلعنا على موروثنا الأدبي والفكري. فربطنا أكثر بهويتنا.
مبادرة ضرورية
ويخلص الباحث السعودي في كتابه، الى أن العرب والمسلمين، معنيون أكثر من المستشرقين وغيرهم، بدراسة واستكشاف تراثهم من خلال الدراسة والتحليل والعمق في البحث. وبذا عليهم المبادرة لتولي المسؤولية كاملة، في انتاج كل ما يتصل بتاريخهم ومجتمعاتهم وثقافتهم، من معرفة.
وان لا يعتمدوا، كل الاعتماد، او جله، على الآخر ـ الغربي، خاصة، في انتاج هذه المعرفة. لأنهم عند ذلك يغامرون، ان لم يكونوا يقامرون، بأمنهم واستقرارهم ومستقبلهم، والأمن الحقيقي هو الأمن المعرفي الذي يكفل المعرفة التي يحتاجها الشرقيون لفهم ماضيهم، واستيعاب حاضرهم، وبناء مستقبلهم.
_________
*البيان