( ثقافات )
صدر للناقد السينمائي السعودي خالد ربيع السيد عن منشورات النادي الأدبي بمدينة الطائف السعودية عمل سردي يحمل اسم الحارة الطائفية القديمة (بقّيلي)، وهو عبارة عن سرديات ، دارت في جزء من الحي، في فترة ما قبل الطفرة الاقتصادية التي حدثت في الثمانينات بالمملكة العربية السعودية.. إنها حكايا تستنطق روح المكان الذي تتشكّل صفات قاطنيه من روح خفية خفيفة الظل، زرعها تلاحم إنساني ووجداني مدهش، تركيبة سكانية فريدة من نوعها جمعت جنسيات مختلفة بثقافاتهم المتعددة لتخلق فسيفساء فريدة يحتوي الكتاب الذي لم يصنفه كاتبه سواء رواية أو مجموعة قصصية وترك غلاف الكتاب دون تحديد، بينما أطلق عليه في أحاديثه الصحافية سرديات متصلة منفصلة.
وكان خالد ربيع أصدر من قبل ثلاثة كتب في النقد السينمائي، وتعد بقيلي أول عمل سردي له.. يقول عن سرديات بقيلي .
بدأت الكتاب في سرديات بقيلي منذ 2005، وخلال تسع سنوات تأرجحت بين الابتعاد عن أجوائها وبين الغوص في أعطافها، وكم راودني شعور وهاجس بعدم نشرها، فقد كنت أخشى، وما زلت، أن تفسر بأنها كتابة ساذجة، ولكن صديقي الكاتب المسرحي فهد ردة، وصديقي الشاعر أحمد كتوعة لطالما تحمسا لنشرها، وإن كنت فعلت ذلك فهو بإيعاز وإيمان من فهد بأنه عمل جميل.
يتكون من تسعة فصول أبطالها صبية (عيال حارة) لا شاغل لهم سوى اللعب، ومن خلال ألعابهم يقف القارئ على تفاصيل غائرة تستنطق المرحلة والحياة وتشابك العلاقات فيما بينهم، ثمة بطل يتكرر في معظم السرديات وكان اسمه عبدالرحمن، غير أنه بسبب لثغة في لسانه وبسبب تهتهة تعتريه أثناء حديثه أطلق عليه عيال الحارة لقب «التشتش»، إذ رأوا أنه «يتشتش» في الكلام مثل شاحنة صهريج نقل الماء، إذ تسمع صوت تششش تششش.
العمل عبارة عن مجموعة صور من حياة صبية في حارة صغيرة خلال مرحلة ما قبل الطفرة وإثناءها أي في السبعينيات الميلادية، وربما امتدت حتى بدايات الثمانينيات، حاولت في هذه الصور أن لا أقول شيئا ذا بال، على الأقل بطريقة مباشرة، وفي الوقت نفسه أردت أن (أصمت) عن خفايا حميمة تنبض في أزقة الحارات وحيوات أناس، ليس لأن الصمت نابع من تابو، ولكن لأن ما كان يكتنف الحياة في ذلك الزمن أبلغ من الكلام الذي يصبح البوح به فجا وشعاراتيا فيفقد عمق دلالاته.
لقد كان عملا مرهقاً، رغم البساطة الشديدة الظاهرة عليه، وكان التحدي هو: كيف ستتخلص من إرثك اللغوي والمعرفي، رغم عدم نقصانهما، لأنك تريد أن تتحدث بلسان أفراد الحارة، الصبية تحديدا، ولأنك تريد أن تلمّح ولا تسهب في وصف التفاصيل ، أن تحفي ولا تَعفي، وأن تنقل ملامح الحياة ووداعتها وبساطتها في تلك الفترة، وأن تترك حيزاً للقارئ ليطلق مخيلته كيفما يشاء .
لهذا كله لا أحبذ تصنيف العمل بالرواية، فهو كتابة سردية متحررة من الشكل والتقنيات الكتابية التي يتبارى النقاد في دراستها وتحليلها، يسردها صوت خفي عليم، هو بالضرورة صوت أحد صبية الحارة، وكأنه غادر الحارة وعاد إليها بعد سنوات طويلة، ليكتشف خبايا ذاكرته فيتلاشى الزمن الماضي ويسطع الحاضر، كأنما كل شيء بُعث من جديد.
تلك التسمية الشعبية العفوية للحارة تحمل دلالات عميقة متأتية من واقع معاش حقيقي يعكس الكثير من الأوجه والعناصر التي شكلته، فعندما يكون أحد أبناء حارة بقيلي في حالة التهام صحن من البليلة، أو عندما يتناول شراب التوت الذي يبيعه الباعة المتجولون، أو عند قضم حبات «اليغمش» أو «المنتو» أو حتى «الدندورمة»، ولا سيما عند تدخين سيجارة، لا يجرؤ على رفض طلب صبي عابر، قاصيا كان أو دانيا، خصوصا من عيال الحارة إذا ما قال له: (بَقّيلي)، يترك له على الفور بقية مما كان يأكل أو يشرب، ويقدمه له بنفس راضية.. «بقيلي» كلمة سحرية تتكرر في اليوم الواحد عشرات المرات، حتى أصبحت الحارة معروفة منذ زمن بحارة «بقّيلي»… للقارئ أن يتخيل أي بيئة تلك وأي محددات اجتماعية واقتصادية شكلته.
عندما سألني أحد الأصدقاء هل هي النستولوجيا فقط التي دفعتك للكتابة؟..قلت جازماً ليست النستولوجيا وحدها التي دفعتني لكتابة “بقيلي” ، إنه التفسخ الذي نعيشه، دعوة مبطنة للعودة الى أخلاقيات وسلوكيات أبناء الحارة.. ذلك التآزر والتواد بين الناس الذي أصبح شبه مفقوداً الآن، هل سيعيده الفن؟
هذا سؤال لا بد أن ينطرح بعد سطوة العولمة والحياة المادية الطاغية التي نعيشها . الاندثار والمحو للمكان والثقافة الأصيلة يوم كانت الحياة بريئة ومتخلصة من كل تركيبات العصر النكوصية، تماما مثل هؤلاء الصبية اللذين يلعبون على سجيتهم في عالم تملؤه المحبة ..النستولوجيا والحنين ليست نقيصة، لأنها تحمل تحريضاً خفياً للأصالة والخلود.. النستولوجيا ليس وقوعا بل ارتقاء ، لأن إنسان العصر المعمي يرفض، بفعل واع أو بدون وعي، أن يتذكر من هو وماذا كان.ـ
مهرجانات عديدة تقام في المملكة وفي الخليج العربي ومحركها الأساس هو الحنين للتراث : مهرجان الجنادرية، وسوق عكاظ، ومهرجان الدوخلة وأخيرا مهرجان رمضاننا كدا.. وعشرات المهرجانات في دول الخليج العربي ، فهل هذا حراك متباكي على الماضي؟ ..أبداً ، أنه حراك لتكريس الهوية المهددة بالانقراض ..كل شعوب الأرض تفعل ذلك بشكل أو بآخر. وكل كتاب الأرض يستعيدون تفاصيل حيواتهم ..إنها ثقافة وجنوح إنساني طبيعي ومطلوب، لهذا لا أنظر أبدا للحنين على أنه نقيصة، وأتعجب من تلك الدعوة التي راح يبثها كتاب الحداثة وما بعد الحداثة بأن الحنين والنستولوجيا نقيصة يجب أن تتخلص منها الشعوب.. عجيب، هم يريدون سلخ الناس من أصولهم حتى يستسلموا ويذعنوا لنداء الاستهلاك والدوران في عجلتهم الاقتصادية. نعم سنستهلك ولن نتخلف، ولكن في المقابل سنتمسك بهويتنا، ولنا أن نكتب ونكتب بكل الأشكال لنرسخ تلك الهوية في نفوس ووجدان الأجيال الصاعدة… “بقيلي” تسير في هذا العمق، إنها صرخة ضد المدنية التي تغفل الإنسان وتجعله حامل بطافات ائتمانية وهمومه المادية طاغية على وجوده الإنساني ، وهي لم تقع في فخ المقارنة، لأن القارئ سيدرك ذلك، وهي أيضاً ليست ضد المعاصرة والتطور… كل ذلك كان يدور في بالي أثناء كتابة بقيلي. ولكني حرصت كل الحرص أن أبتعد كل البعد عن المباشرة أو التلميح حتى، وجعلت أبطالها صبية يلعبون في حارة ..الحارة بمفهومها الأركيولوجي التي تمثل المدنية المتعافية، قبل أن يتوغل خنجر الرأسمالية الغربية في الخاصرة. ,
في بقيلي انصهار اجتماعي مكامل، لا مكان للعنصرية، فهي حارة التوافق والتعايش بين الجنسيات المختلفة. بقيلي المكان : حالة اجتماعية سياسية (جيوبوليتيكي) تصبغ ساكنيها بصفات وشروط وسمات عصية على التفسير أو التحليل، إنه التمازج العرقي في صورة إنسانية نادرة.
الأمر لا يتعلق إذن بحراسة الذاكرة، فليتذكر كل فرد منا ما يشاء، ويحق له ذلك بل يتحتم عليه ذلك، أشقائنا الكويتيون يقولون “اللي ماله أول ماله تالي”، والمصريون يقولون “من فات قديمه تاه”، ونحن في الحجاز نقول ” قديمك نديمك لو الجديد أغناك”.. فكيف لنا أن ننسلخ من ثراثنا. هل ينبغي لنا أن نصبح شعوباً مفتعلة كبعض الشعوب التي غرقت في العولمة، مثل الفلبين على سبيل المثال… بقيلي تأريخ اجتماعي أنثربولوجي ولا بد أن يدون ويدون بكل لغات الفن وأشكاله
إنها دعوة للتأمل أملاً في استعادة المياه التي فقدت مجاريها.