ساسي جبيل
ارتبطت آلة القانون بمرافقة آلات التخت الشرقي والفرق الموسيقية الوترية، لكنها مع الفنان فرات قدوري خرجت من سجنها الضيق هذا، لتحلق في آفاق أكثر رحابة وعوالم لم تطرب فيها أنغامها من قبل إلا نادرا، فأخذت أبعادا أخرى كآلة منفردة قائمة بذاتها وقادرة على توفير قدرات تعبيرية خارقة، لأن مداها الصوتي قادر على تغطية كل الطبقات الفنية تقريبا، وقد ساعده في ذلك انفتاحه على الكثير من التجارب الموسيقية سواء في أوروبا حيث أقام لسنين عدة أو في أمريكا اللاتينية، حيث جرب تجربة التمازج بين القانون وأنساق موسيقية مختلفة مثل الجاز والفلامنكو والرومبا والصالصا والبولاريا وغيرها فكان نتاج ذلك أعمالا وألبومات متعددة.
فرات قدوري سليل عائلة فنية عريقة كان لها دور بارز في المجال الفني بالعراق والخليج، إذ كان والده الفنان حسين قدوري صاحب المشروع الفني (العالم طفل) وشقيقه قصي من مشاهير عازفي التشيلو، فتربى على سماع باخ وبيتهوفن وموزارت وروائع الموسيقى العربية والعالمية، فغرد كالطير خارج الشرق الجميل لكنه عاد إليه أخيرا ليستقر بالشارقة ويؤسس أول معهد للموسيقى ويبعث مهرجان الشارقة للموسيقى العالمية الذي أقيمت فعاليات دورته الأولى في يناير الماضي.
في هذا الحوار سألنا الفنان فرات قدوري عن اختياره الإقامة في الشارقة بعد سنوات من الإقامة في أوروبا وأميركا اللاتينية، فقال: كانت الرحلة للاستكشاف والبحث والتجريب، إذ لا بد أن نطلع على مختلف التجارب العالمية المختلفة في الموسيقى، لكن الانسجام الكلي مع هذه العوالم الجديدة لا نعيشه حقيقة، لأننا في العالم العربي نملك المقومات الكافية للفعل الثقافي على ضيق الهامش الذي نعمل فيه ومن خلاله.
وعن أوجه الالتقاء وأوجه الاختلاف بين السائد الموسيقي في الغرب والسائد الموسيقي في عالمنا العربي، يقول: هناك اختلاف كبير جدا، إذ لا يمكن أن نقارن بين مناخين مختلفين كليا، في الغرب هناك جدية كبيرة في تقبل الانتاج الفني في أشكاله المختلفة، المتلقي الغربي ينظر إلى الموسيقى نظرة شمولية من مختلف جوانبها ونواحيها كمفاهيمها وتاريخها وآلياتها، وهو يتقبل الموسيقى الصرفة الآلية أكثر من الموسيقى الغنائية، كما أن له اهتماما خاصا بالموسيقى الكلاسيكية والآلات الصوتية (الخشبية) أو ما يعرف بـ«الأوكستيك» مثل العود والكمنجة والبيانو، علاوة على أن الآلات الإلكترونية والأجهزة الصوتية لا تعني له شيئا، فالمتلقي الغربي لديه ثقافة موسيقية واسعة جدا، وهذا للأسف الشديد ما لا نملكه في العالم العربي.
وفي نفس الإطار نجهل ما تمتلكه الموسيقى العربية ذاتها، فنحن لا نعرف ماذا يعني التخت الشرقي مثلا؟ ولقد فوجئت ذات حفل بأحد المتابعين وهو يقول لي: هذا العود جميل (وهو يقصد القانون)، فالثقافة الموسيقية السائدة عربيا هي الغناء ولا وجود للموسيقى الآلية الصرفة.
وعن مبادراته التأسيسية في الشارقة ومنها إحداث أول معهد للموسيقى بها وبعث أول مهرجان للموسيقى وأول من يقدم حفلات موسيقية بها للعموم، يقول قدوري: تحتفي إمارة الشارقة بثقافات متعددة، وبها مهرجانات شتى في المسرح والتراث والكتاب والفن التشكيلي فلابد من خلق الموسيقى كعامل تكميلي لهذه الفعاليات، وما نقوم به ليس تقديم موسيقى استهلاكية تجارية، بل موسيقى أكاديمية نستطيع من خلالها التأسيس لجيل جديد يبتعد عن صخب التلفزيون ومغريات وسائل الاتصال الحديثة التي أتت تقريبا على كل شيء في حياتنا، إن الغاية من كل ذلك هي تحقيق الاستفادة وتكوين شخصية متوازنة، فالموسيقى تدخل ضمن إطار تربوي يساعد الطفل على كيفية التعاطي مع أقرانه وأترابه في البيت والشارع والمدرسة.
.وهناك تحد يسكنني وهو رد الجميل للشيخة بدور بنت سلطان بن محمد القاسمي، التي أخذت بيدي ودفعتني إلى المبادرة والفعل الثقافي في مجال الموسيقى في الشارقة، وهي التي تهتم بالكثير من المشاريع الفنية والثقافية على اختلاف مجالاتها.
ويتحدث قدوري بشغف عن القدرات التعبيرية لآلة القانون، فيقول: القانون يمتلك مساحة واسعة من الأوتار والسلالم العربية مما يؤهله لعزف جميع المقامات العربية، لذلك سمي بـ(سلطان الطرب)، حيث يحتوي على أكثر من ثلاثة «أوكتاف» ونصف (3 سلالم ونصف) وهذا ما يؤهله لتأدية جميع الطبقات الصوتية لدى أي مغن وهو بذلك يتيح مجالا لأن يؤدي العزف المنفرد دون أن يمل المتلقي مما سيتلقاه من خلاله من أداء عزفي.
ويضيف: حبي للموسيقى العالمية بتنوعها هو ما قربني لأخلط آلة القانون بتجارب وفضاءات موسيقية جديدة على غرار ما قمت به مع الموسيقى الهندية، وموسيقى الجاز، والأوبرا، وموسيقى دول البحر الكاريبي.
فمنذ طفولتي المبكرة امتلكت حبا واسعا وتطلعا دائما للموسيقى العالمية بمختلف أشكالها، (ولا أقصد هنا فقط الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية)، ولعل الفضل في كل ذلك يعود إلى والدي المرحوم حسين قدوري وشقيقي قصي عازف «التشلو»، إذ تربت ذائقتي على آلة التشلو وهي تعزف أعمال «باخ» و«بيتهوفن»، فتربت أذني على هذه الموسيقى، ومن خلال ذلك أردت أن أخترق المجال فاطلعت على أنواع كثيرة من الموسيقى في مناطق مختلفة من العالم، وحاولت دمجها في أعمال فنية كثيرة.
وكانت أول مغامرة قمت بها في هذا المجال في العام 1994 مع جماعة «أكد» ببغداد، حيث خلطت القانون مع القيثار والبيانو والباص كتجربة أولى، ومنذ ذلك الحين انطلقت، فطبقت نفس الشكل مع تطوير أكثر في الأردن ثم بأوروبا، وكانت هذه هي النقلة النوعية الحقيقية في مسيرتي الفنية، لأنني عملت مع فرق «جاز» كثيرة قبل أن أنتقل إلى أمريكا اللاتينية، حيث عشقت هناك موسيقى «الصالصا» و«الرومبا» و«البولاريا»، وكان حبي لكل هذه الألوان سببا في مزاوجتها ببعضها البعض مع ما أملك من ثقافة موسيقية عربية وغربية، وجسمت كل ذلك في حفلات وألبومات متعددة مثل «نداء الروح»، «قانون ما بين النهرين»، «الجنائن المعلقة»، «سيدارة»، «على ضفاف الرافدين» و«لكش»، ولم أجد صعوبة تذكر في الإدماج الفني وذلك لأن القانون كان يتيح لي مدى صوتيا شاسعا يمكن من تغطية كل الطبقات الفنية.
فالجاز موسيقى حرة منفتحة والارتجالات العربية قريبة جدا من هذا الشكل لذلك يستطيع القانون أن يرتجل مع موسيقى «الجاز» أو «الفلامنكو» أو أية موسيقى أخرى.
– الاتحاد