سعيد يقطين*
تضاعف عدد الكتاب الذين ينشرون نصوصا أو يطبعون كتبا، كما تزايد عدد الكاتبات. وإذا كانت آليات ولادة كاتب جديد في الستينيات وحتى الثمانينيات تسمح لكل متتبع بالتعرف على هذا الكاتب وهو يتدرج في عملية الكتابة والنشر، فإن تغير الآليات صار لا يسمح لأي متتبع، مهما كانت جديته في المتابعة، في التعرف على الكتاب والكاتبات الجدد. وإذا كان جزء من هذا الواقع الجديد يعود، إلى تردي وانحدار مستوى الإعلام الثقافي، نجد جزءا آخر منه يعود إلى ظهور الوسائط المتفاعلة، مع بداية الألفية الثالثة، واعتماد العديد من الكتاب الشباب على الشبكات الاجتماعية الرقمية ( RSN) لنشر إبداعاتهم، أو إنشاء مدونات أو منتديات أو مواقع شخصية لتقديم كتاباتهم سواء في مجالات الإبداع أو النقد أو الثقافة.
لا يمكن لأي كان أن يعارض أي تحول، أو ينتقد ظهور آليات جديدة ومغايرة لفرز الكتاب والمبدعين والمثقفين. لكن أي تحول، سواء كان انحدارا أو انفلاتا ثقافيا، لا يصب في مسار تطوير الإبداع والارتقاء به، لا يمكن إلا أن يجعلنا أمام واقع ثقافي يغيب فيه التواصل بين الكتاب أنفسهم. وإذا كان التواصل بين الكتاب مستحيلا، فكيف سيكون مع عموم متلقي هذا الإنتاج؟ يمكن لأي كان أن يزعم أو يدعي أنه كاتب جديد، ورقيا كان أو إلكترونيا أو رقميا، ولكن أن يكون الكاتب بدون قراء، أو متابعين فليس كاتبا. قد يكون لهذا «الكاتب» من يعلق على نصه بالإعجاب، ومهما كان عدد المعجبين، فليس ذلك دليلا على أنه صار كاتبا يلزم قبيلة الأدباء والكتاب أن تحتفي به وتقيم له الولائم.
لا يمكن للكتابة الأدبية، أو لأي عمل ثقافي كيفما كان نوعه، ورقيا أو رقميا، أن يتطور أو يفرض وجوده، ويكون له أثر أو تأثير في واقعنا الثقافي، بدون تواصل بين مختلف الأطراف التي تسهم في تكوينه وتطويره. إن التواصل هو جوهر العملية الإبداعية والثقافية. وتبعا لذلك أرى أن استثمار كل الوسائط التي تستعمل في التواصل، من الشفاهي إلى الطباعي إلى الرقامي، ضروري لتطوير العمل الثقافة. ولا يمكن لأي وسيط، كيفما كانت جدته أو إمكاناته، أن يكون بديلا عن غيره.
إن المشكل الحقيقي، حين يتعلق الأمر بالإبداع والكتابة والثقافة، ليس في واقع الحال، وسائطيا، فقط، ولكنه تواصلي وإبداعي أيضا. ولكي يحصل التواصل الإبداعي لا بد من الانطلاق من التقاليد الأساسية في الإبداع والكتابة، أولا. ولا بد من انتهاج الصرامة والجدية في التعامل النقدي الموضوعي مع الإبداع، ثانيا. ولعل تطوير الإعلام الثقافي، بنوعيه الورقي والإلكتروني، من خلال وعيه بدوره في بلورة عمل ثقافي جاد هو الكفيل باستعادة دور الكتابة والأدب في الحياة والمجتمع.
يمكن لاستغلال الشبكات الاجتماعية الرقمية واستثمارها في الإبداع والثقافة أن يكون مفيدا في الترويج والترويج المضاد، وفي تشكيل الحساسيات والحساسيات المضادة. ولكن في غياب الجدية والنقد الذاتي والموضوعي لا يمكننا إنتاج الأدب الرفيع الذي هو عنوان الإبداع الحقيقي. كما أنه في غياب التفاعل بين النشر الورقي والنشر الإلكتروني، عن طريق كون كل منهما في خدمة الآخر، لا يمكن للتعريف بـ ، أو للتعرف على التجارب المتميزة أن يتحقق، ولا يمكن للتواصل أن يتم بين مختلف الفاعلين في المجال الأدبي والثقافي على الوجه الأكمل والملائم.
إن هناك تكاملا بين الورقي والإلكتروني. ومن الضروري أن يتعزز إعلامنا الثقافي وتتضافر الجهود بين مختلف الفاعلين والناشطين في المجال الثقافي بصفة عامة، ويتعاون الإعلام الورقي مع الإلكتروني لتقريب الإبداع من الجمهور، ليحصل التواصل المنشود، وتكون المساهمة جماعية في تطوير الإبداع والنقد والعمل الثقافي في أبعاده المختلفة. ولعل المدخل الطبيعي والضروري لذلك هو إيماننا أولا بضرورة الانخراط الجماعي في العمل بدون عقدة التفوق أو ادعاء الجدة. وثانيا تجاوز الوعي المبني على حساسيات الإقصاء والإلغاء للآخر. وثالثا، وهذا مهم جدا ممارسة الحوار الجاد بدون عقدة أبوية أو وهم امتلاك البدائل، أو توهم صراع الأجيال.
ولعل المطلوب إلى جانب ذلك هو إدراك الوسائط الجماهيرية بمختلف أنواعها: الجرائد المكتوبة، سواء كانت مستقلة أو حزبية، وكذلك برامج الإذاعة والتلفزيون أن للأدب والثقافة دورا كبيرا في التواصل. وعليه فالمطلوب استعادة صفحات الثقافة والملاحق الثقافية مكانتها على مستوى الحضور، والعمل على تطويرها، والتعامل معها تعاملها مع الرياضة، لا كشيء زائد ناقص؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن البرامج الثقافية والأدبية في الإذاعة والتلفزيون من خلال إقدام الكتاب والمثقفين على الإعداد المحكم لتصورات لبرامج تخدم الإبداع والثقافة. كما يمكن للشبكات الاجتماعية الرقمية أن تقوم بدورها في تعزيز هذا الحضور وتأكيده عن طريق توسيع دائرة الفاعلين والناشطين والمستعملين وعموم الجمهور. بذلك يمكننا المساهمة في تطوير العمل الثقافي لأنه هو رهان تطور المجتمع العربي.
لقد صارت الشبكات الاجتماعية الرقمية واقعا عربيا. لكنها لم تتطور منذ أن بدأنا باستعمالها وسائط للترويج والدعاية، وليس للنقاش الهادئ والرصين، أو للإنتاج الثقافي. ولعل فتح نقاش جاد حول دورها الثقافي، للوقوف على مدى مساهمتها في إنعاش وتجديد تعاملنا مع الثقافة في مختلف صورها وأشكالها هو الكفيل بتطوير التواصل الثقافي العربي. ويمكن أن ينخرط في هذا النقاش المشتغلون بالتربية والاجتماع والنفس والأدب والتنشيط الثقافي. وبدون خطوات عملية في هذا الاتجاه، سيمر الزمن، وسنجد أنفسنا نكرر الكلام ذاته والمطالب عينها حول آليات تطوير إعلامنا الثقافي، وحول تجويد إبداعنا ونقدنا الأدبي والثقافي ليتماشى مع الإمكانات والطاقات التي يزخر بها مجتمعنا وتاريخنا.
٭ كاتب من المغرب
( القدس العربي )