خوان ميرو..العاشق للطبيعة والفضاء السرمدي بروح طفولية



*أبو بكر العيادي

موقع هام في تاريخ الفن المعاصر، حيث كان في أعماله ميل إلى اللاوعي والروح الطفولية والتعلق بكاتالونيا مسقط رأسه. تأثر في بداياته بالحركات السائدة في ذلك الوقت كالتوحشية والتكعيبية والانطباعية، قبل أن يطوّر تجربته نحو رسم مسطح يحمل بصمته الخاصة.

لم تكن لميرو رغبة في الدراسات التجارية التي غصبه عليها أبواه، لذلك سرعان ما انقطع عنها والتحق بمدرسة الفنون الجميلة ببرشلونة.
اكتشف جمال الطبيعة في ضيعة عائلية بمنترواغ ديل كامب كان زارها أول مرة عام 1911 طلبا للنقاهة، بعد إصابته بمرض السلّ، وأحس ساعتها أنه سيكون رساما، مخالفا رغبة أبويه.
تلك الحرية في تحديد مصيره بنفسه طبعت مسيرة التقى خلالها بكبار فناني عصره، فقد ظل محافظا على استقلاليته حتى عندما انخرط في المغامرة السريالية.
تناول ميرو ثيمات كثيرة منذ مشهدياته الأولى في العقد الثاني من القرن الماضي إلى أعماله المتأخرة التي يتجلى فيها الحلم وتسكنها العلامات والرموز، ولكنه كان أميل إلى الطبيعة والمرأة وسرمدية الفضاء.
حتى مطلع العشرينات، كانت لوحاته تصويرية شديدة التأثر بفناني عصره كبول غوغان وفنسان فان غوخ وهنري ماتيس وبول سيزان. غير أن انطلاقته الحق كانت عقب لقائه بفرنسيس بيكابيا الذي أطلعه على بحوث مجموعة دادا.
تلك الحركة التي تقوم فلسفتها على إزاحة كل عقد أو إرغام له صبغة أيديولوجية أو سياسية أو جمالية، وقد زوده بنصائح من أجـــل “تجــاوز الفعل التشكيلي لبلوغ الشعر”.
عندما انتقل إلى باريس عام 1919، تعرف على أندريه ماسون وماكس جاكوب وأنطوان أرطو وميشيل ليريسثم وإيف تانغي وجاك بريفير، وكلهم من الشخصيات الفنية والأدبية القوية ذات الخيال الخصب التي ستفتح أمامه أبواب الحلم على مصراعيه.
وشيئا فشيئا مضى يخط طريقه ويعمق مجراه بأسلوب خاص، بدأه بلوحة “الضيعة” عام 1921 -التي باعها لكاتب أميركي شاب لم يعرف بعدُ المجد والشهرة وهو إرنست همنغواي- تمثل في العناية بالتفاصيل سواء في رسم الأشجار أو الحيوانات أو الأشياء، ما عدّه النقاد قاعدة لأعماله اللاحقة.
وهي أعمال تعكس تعلقه بالأرض الكاتالونية التي شهدت طفولته، وانبهاره بالطبيعة انبهارا رافقه حتى موته.
في تلك الفترة مر ميرو بأزمة هوية في التعبير. كان يريد إعادة صياغة الواقع، والتخلص من التصويرية ليدخل مرحلة تبسيط الخط والأشكال، في خضم الأعمال التي تستدعي التفكيك والتأويل.
وكانت عفويته المطلقة ذروة ما بلغته السريــالية وبصمته الخاصة في الوقت نفسه.
تجلى ذلك في “كرنفال أرلوكان” التي قدمت عام 1925 في معرض جماعي شارك فيه بيكاسو وبول كلي وماكس أرنست ودي شيريكو ومان راي ومثلت بداية الاعتراف بفنه.
ما تطوّر في الأعوام اللاحقة هو الكيفية التي تمثل بها العالم الحميم والسمو به، يتجلى ذلك في تبسيطه ذلك العالم وتركيبه الأشكال إلى الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تبلغه، لخلق توليفات محملة برموز تقارب التجريد دون أن تنخرط فيه. ولا شك أن لقاءه بفناني الحركة السريالية وتوقيعه بيانها كان لهما دور في هذا التطور.
في هذه المرحلة، أطلق ميرو العنان للأحلام والرؤى والتخيلات والهلوسات، يرسمها على الورق أو القماشة وفق تصوّره الفني الجديد، حيث صار الوجه مجرّد خطوط، والأجسام أضحت أطيافا تتموّج في الفضاء.
وأنجز أعمالا بدا فيها كأنه يلهو بالفضاء واللون، مصرّا على تدمير شروط الفن التقليدية. لوحات زال فيها الرسم المنظوري، وتراقصت الأشكال وتكسرت وتمطت، مثلما ذابت أوهام الواقع في ابتكارات خطوطية متناسقة حينا ومتنافرة حينا آخر. أي أنه أضاف إلى حرية الفكر حرية جمالية.
ولا يعني ذلك أن ميرو كان بعيدا عمّا يجري في عصره، منعزلا في مرسمه لا يشغل فكره غير المسائل الفنية.


بالعكس، كان يتابع أحداث العالم بعين فطنة، ويعبر عن موقفه بشجاعة، كما هو الشأن عند اندلاع الحرب الأهلية في بلده إسبانيا، حيث أنجز عام 1937 لافتة لمساندة الجمهوريين ضدّ قوات فرانكو بعنوان “ساعدوا إسبانيا”، استعملت كطابع بريدي، وعرض لوحة “الحاصد” في جناح بلاده بالمعرض العالمي الذي أقيم في العام نفسه بباريس، إلى جانب “غرنيكا” لبيكاسو، أو أثناء الحرب العالمية.

في نهاية الثلاثينات، اححتل الفضاء بعمقه وغموضه وألغازه حيزا جديدا في أعمال ميرو، إثر لقائه بجورج براك وألكسندر كالدر في فرنشفيل سور مير، التي لجأ إليها بعض الفنانين هربا من الحرب.

هناك كان ميرو يقضي الساعات يتأمل القبة الكحلية ونجومها. ولم يمض وقت طويل حتى أنجز سلسلة سماها “كوكبة نجوم” استهلها عام 1939 وضمت ثلاثا وعشرين لوحة كانت بمثابة “رؤى كونية”، وهي رسوم خرائطية لسماء خيالية ترصع صفحتها النجوم والمجرات والأقمار.

سوف تسم رؤيته الفنية قبل أن يرتدّ عنها بعد أكثر من عشرين عاما ليقدم تصورا مضادا لتلك اللوحات الصغيرة، المعقدة، المشحونة بالموتيفات، المثقلة بالخطوط المتشابكة، فيرسم ثلاثيته التي سماها “أزرق 1، 2، 3”، حيث الفراغ شامل، والسماء لا يشوب صفـــــاءها غير بضعــة خطوط أو نقاط مهملة. وكأنها دعوة إلى السكينة والهدوء والتأمل، وطريقة أخرى لمحاورة الفضاء السرمدي. وقد لخص ذلك بقوله: “ما أبحث عنه هو الحركة الثابتة، شيء يعادل بلاغة الصمت”.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *