تصريفُ “المُشْـتَهى” في لُـغة “قـلم حمرة”



*سعيدة تاقي

( ثقافات )

هو سؤال لغوي بسيط. لا علاقة له تحديداً بالدرس اللساني. لكن قد يلزم أن ننفـتح عليه بوعي أكثر، لعلّنا نستفيد بما جادت به الدراسات الثقافية في مقاربة النَّـوْع التي أنَّـثَـتِ العالَم قليلاً.
هو سؤال ألحّ علي كثيرا هذه الأيام، و أنا أتابع حلقات المسلسل السّاحر “قلم حمرة”، لكاتبته يم مشهدي و مخرجه حاتم علي. قد أعود لاحقا إلى المسلسل بقراءة نقدية شاملة، حين تستوفي حلقاته منتهاها. لكن السؤال يظل فاتحاً لـشهـيَّة التأمل.
سبق لذلك السؤال أن حاصرني، قبل ثلاث سنوات حين كنت بصدد كتابة روايتي الأولى إيلافــ”هم”، التي عرفت طريقها مؤخَّراً إلى سوق التداول الرمزي مغربياً و عربياً. و لقد حسمتُ إجابتي حينها، و كتبتُ نص الرواية في ضوء رؤيتي السردية الخاصة.. غير أنني أثناء تسريدي لفصول الرواية، لم يكن السؤال نفسه، بالنسبة إلي مجرد سؤال لغوي بسيط.
يقول سؤالي الشهير: لماذا قد تتفِّـق السّاردة و البطلة على افتراض صيغة الفِـعل بالمُـذكّر، بينما لسانُ ضميرَيهِما معاً مؤنَّث؟
تبدو صيغة السؤال معقّدة، بما يدفع عن السؤال أي شبهة بساطة.
لِـنَصُـغْ السؤال بشكل تشخيصي أكثر من السابق..
لماذا تسرد الكاتبة على لسان بطلتها مثلاً، قولَها: “أنْ تتحرَّر من الرغبة يعني ببساطة أن تموت.” (الحلقة الثانية من “قلم حمرة”)، بدل أن تسرد على لسانها المضمونَ ذاته بعبارة: “أنْ تتحرَّري من الرغبة يعني ببساطة أن تموتي”.
أو أن تقول البطلة في انسياب سردي يوجّه الأحداث و يؤطِّـرها على سبيل التمثيل: “أينما ذهبتَ و كيفما سألتَ يقولون لكَ أنتَ مخيَّر.. لكن ماذا يعني أن يكون ثمن خياركَ مرتفِعاً كثيراً، و يجوز أن يكون الثمن حياتكَ؟.. هل سيسمّى حينها خياراً متاحاً، أم سيكون حينها أمامكَ طريق واحد، أنتَ شبه مجبَـر على المشي فيه؟..” (الحلقة العشرون من المسلسل) بدل أن تتحدث البطلة/الساردة بضمير يعود على أنوثتها السجينة داخل أسْر المعتقل و أسر المجتمع و أسر متاهة الحياة و حدود اللغة الضيقة.
قد تبادرين، أو قد يبادر إلى الرد، ما الفرق بين الصيغتين، و المضمون واحد؟
سأعيد بدوري طرح سؤال الرد ذاته “ما الفرق بين الصيغتين، و المضمون واحد؟”. لكن، عن استحقاق الصيغة الأولى للتداول دوماً دون استغراب، و امتناع شيوع الصيغة الثانية، رغم أن شرط التأنيث لغوياً حاضر.
ذكرتُ لَـكُـنَّ/(ــمْ) في البدء، أنّ السؤال سؤال لغوي بسيط.
لكن لنفكَّ شفرات تلك البساطة قليلاً.
أشرتُ سلفاً إلى أن المحفِّز الجديد لسؤالي القديم، هو انسياب السرد في المسلسل، على لسان البطلة/الساردة بتصريف لغوي ذُكوري يعيد إلى الواجهة عند المُشاهدة مَكر اللغة، التي تسيِّج كل القضايا ضمن حدودها، بوعي سابق في الوجود، حتى عن الوعي بتلك القضايا المطروحة. فاللغة بالتأكيد ليست بريئة تماماً و هي تبني العالَم، أو و هي تشيِّـدُ الرؤى.
الكاتبة المبدعة يم مشهدي و هي تحرِّر نص “قلم حمرة” على لسان شخصية وَرْد الكاتبة داخل المسلسل ( الدور الذي تؤدِّيه بإبداع مُلفِت الممثلة سلافة معمار )، تغوص عميقاً في القضايا الراهنة للمأساة السورية بتشعّباتها الإنسانية. و تغوص كذلك عميقاً في مأساة الوجود الأنثوي.. و حين أقول المأساة أحيل على مفهوم التراجيديا الأرسطي، الذي يقتضي مكونات عديدة. من أهمها: المحـاكاة و الفـعل و الأشـخاص الفـاعلين و التـطهير (الكاطارسيس) بالشفقة أو الخوف و اللغة المزودة بألوان التزيين و اللحن و الطول المعلوم.
و حين أقول الوجود الأنثوي، أحيل على فِعل الكينونة في العالَم، ذلك الفِعل المحكوم باشتراطات اجتماعية و ثقافية و فـكرية… موازية لأن تكون الأنثى أنـثى داخل مجتمع اختار أن يكون ذكورياً، ويريدُ أنْ يظلّ كذلك..
الكاتبة يم مشهدي و هي تحكي العالَم من منظور وَرد الكاتبة المعتقَـلة (المعتـقـل السياسي/ و سجـن المنظومة الاجتماعية)، تصوغ جُـمـلها المفـيدة درامياً في فِـعْل حـفر واقع الرّتابة و تكسير روابط الجمود و تقويض ملامح الاستكانة. لكنها تصوغ تلك الجُمل، التي ترِد على لسان البطلة في سرد متدفِّق، بمنطق ضميرٍ مذكَّـر غالِب، لا يترك مساحة اللغة حرَّةً لتنسجَ ورْد جُـمَلها الفاعِلة بأنوثةٍ، حقُّها أن تسيطِر ضمن مجال ما تحكيه، و ما تعيشه. فلقد كان من الممكن أن يسود ضميرُها المؤنث أثناء الحكي، الذي تمارسه من داخل المعتقل، تحريراً للمسلسل الذي تواصل عبره إرادة الحياة. فشخصية ورد الكاتبة هي المسيِّرة لفضاء الحكي و لتوالي الأحداث ضمن المسلسل الداخلي، في سياق رفضها للاستسلام لفكرة الانهيار داخل السجن..
هكذا تنسى الكاتبة الأولى ( المبدعة يم مشهدي) فتنسى الكاتبة الثانية ( شخصية ورد) تصريفَ ذلك “المشتهى” الذي أدهشنا في الحلقة الأولى من المسلسل، و شدّ أحلامَ تلقِّينا إلى إبداع قد يكتُبُ الحُمرة بلونٍ مغاير.
قد يكون تصريفُ “المشتهى” تأنـيثاً في اللغة صعباً، بحكم أنّ اللغة فِكرٌ ناجِزٌ و سائد، لا يتيحُ إمكانَ تغييره، دون الوعي باستبداده، ما دام يُعيد إنـتاج الضـوابط التي أنتجـتْه في البدء، على مستوى الحـياة و المجتمع و الثقافة… و بحكم أن العمل الدرامي لا يكتمل وجودُه، دون التكامل الذي يقدمه نص يم مشهدي و إخراج حاتم علي و كامل الفريق الفني و التقني المتكاثف من أجل إنجاح المسلسل، و الحشود المتلقِّية بشغف لحلقات العمل.
لكن أليس “المشتهى” هو اختراقٌ للواقِع بإعادة المَشْهَد من جديد؟
سعيدة تاقي كاتبة و ناقدة من المغرب.
ـــــــــــــــــ
ـ مسلسل “قلم حمرة” لكاتبته يم مشهدي و مخرجه حاتم علي.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *