بكالوريوس «أبو ساعة»


* عبد الحليم أبو دقر

( ثقافات ) 

” أن تحصّـل البكالوريوس متأخراً أفضل مليون مرة من أن لا تحصّله أبداً “
“أبو ساعة”
انشطرت حياة ” أبو ساعة ” بعد حصوله على شهادة البكالوريوس إلى شطرين لا ثالث لهما ، ما قبل البكالوريوس، وما بعد البكالوريوس . ظل ” أبو ساعة ” لفترة طويلة غير مصدق أنه نال البكالوريوس ، إلا أنه في لحظات يوسوس له عقله أنه واهم ، وأنه مدّع ٍ ، وأنه لم ينل البكالوريوس ، ولن يناله في يوم من الأيام . يترك ” أبو ساعة ” محلاته ويعود إلى الدار ، ينظر في الكرتونة المعلقة على الجدار والتي تقول بمنتهى الصراحة والوضوح من داخل الإطار الخشبي الغالي الثمن ، ومن تحت الزجاج اللامع النظيف أن ” أبو ساعة ” نال البكالوريوس .يظل ” أبو ساعة ” ممسكاً بتلك الكرتونة لساعات طويلة ، يردد من وقت لآخر : والله صحيح معي بكالوريوس والله .. 
كانت زوجة ” أبو ساعة ” تقول له : كم مرة قلت لك بكالوريوسك لا تبروزه ، لا تخنقه بالزجاج ، ولم ترد علي .. وبعد أن بروزته قلت لك علقه عندك بالشغل ، وعندما ترجع إلى الدار أرجعه معك يبيت عندنا . يقول لها ” أبو ساعة ” : في الشغل أخاف عليه ، هنا في الدار آمن له .. ويصمت .. لن يقول ” أبو ساعة ” لزوجته : إن كل الدار مزروعة بكاميرات المراقبة، وإن هناك أكثر من كاميرا مسلطة مباشرة على البكالوريوس. 
خطرت لـ ” أبو ساعة ” فكرة ، وقرر تنفيذها فوراً ، أنزل البكالوريوس عن الجدار ، ولفه بمنشفة زرقاء مستوردة ، وغادر الدار دون أن يلتفت لنداءات زوجته عليه : لا تخرج فيه ، مصيبة إذا ضيعته .. رجعه .. رجعه. 
قصد ” أبو ساعة ” مصوراً مشهوراً ، طلب منه أن يعمل له صورة مصغرة من البكالوريوس بحجم الهوية ، وأن يستخدم كل ما لديه من أجهزة وقدرات كي يشبه بكالوريوسه الهوية في كل شيء ، وأن ( يجلتنه ) له وبدأ ” أبو ساعة ” يظهر البكالوريوس الصغير بمناسبة ، ومن دون مناسبة ، ويبتدع الطرق التي تجعله يخرجه أمام الجميع ، وفي كل الأماكن ، حتى أنه في الأيام الأخيرة صار يقدمه للجهات الرسمية على أنه هويته ، وعندما ينظرون فيه باستغراب ويعيدونه إليه ، يضرب بكفه على جبينه قائلاً : آه هذا البكالوريوس .. آسف بالغلط . وإذا سنحت لـ ” أبو ساعة ” الفرصة يخطب : هذه شهادتي البكالوريوس ، صغرت حجمها حتى لا أغتر ، وأنا أنصح الآن جميع حملة البكالوريوس في هذا البلد أن يحذوا حذوي ، ويقزّموا بكالوريساتهم، ويخطب في أكثر من مكان عن ضرورة البكالوريوس لكل المواطنين ، ويتخيل أنه يجري مقابلات مع الفضائيات طول الليل ، يتحدث فيها عن إصراره على حمل البكالوريوس ، مهما بلغ ثقله عليه .
كان ” أبو ساعة ” لا يكل ولا يمل ، يتدافع بحيوية من مكان إلى آخر، أينما توجد عريضة يجمعون عليها التواقيع يوقع عليها ، مدوناً بجانب اسمه بكالوريوس ، يتبرع إلى جمعيات ثقافية ، وجمعيات إجتماعية، وجمعيات رياضية ، حتى يقدموه على أنه حامل البكالوريوس. 
زار ” أبو ساعة ” أمه في الحارة الشعبية القديمة التي غادرها منذ زمن طويل وطلب منها أن تقيم حفلة كبيرة تدعو إليها كل أهل الحارة والحارات التي حولها ، وتقول لهم : إن ” أبو ساعة ” بالإضافة إلى كل الأموال التي جمعها ، فقد حصّل البكالوريوس، وأنه مؤهل الآن لأن يكون من التجار الشطار الجدد ، حتى أنه سيتزعمهم في وقت قريب . ردت أمه : صعبة، طويلة، لا طعم لها مثل كل الطعام الذي تجبرني على أكله 
حاول أن يسهل الأمور على أمه ، ظلت ترفع حاجبيها معلنة الرفض ، أدرك أن أمه تريده أن يرفع عنها الحصار ، ويسمح بعودة الدجاج البياض إلى مائدتها 
فقال لها ” أبو ساعة ” : إذا كنت رفضت فك الحصار قبل البكالوريوس ، كيف أفكه الآن ؟! ونحن في مرحلة ما بعد البكالوريوس ، طلبك ( over ) أعذريني .. 
رغم حالة النشوة غير المسبوقة التي كان فيها ” أبو ساعة ” إلا أنه لم يقدر على منع نفسه من الحزن على كل الأشخاص الذين حالت ظروفهم الحياتية الصعبة دون تحصيلهم البكالوريوس . يسأل ” أبو ساعة ” نفسه : كيف أساعدهم ؟ ثم يقول : على الأقل أفتح جامعة ، جامعتين، ثلاث جامعات تهتم بتسهيل أمور حملهم للبكالوريوس . ينهال على زوجته بالأسئلة ، كيف كنت عائشاً قبل أن أحمل البكالوريوس ؟! كيف كنت قادراً على المشي ؟! كيف كنت آكل ؟! كيف كنت أشرب ؟! وهل الواحد يكون بني آدم قبل أن يحمل البكالوريوس ؟!!!! ثم قال لها : أنا ظلمتك .. كنت معقداً ، كنت غبياً ، كنت مريضاً نفسياً ، كنت بشعاً ، بصراحة كنت حماراً ، أخاف أن تحملي البكالوريوس قبلي ، وما أقدر أنا أحمله ، يكون ثقيلاً علي ، وهذه أول مرة أعترف لك فيها أنك كنت تأتينني في المنام ، تقولين لي : أنت عصبك قوي ، أنت رياضي ، احمل البكالوريوس قبل أن يجيئك أحدهم ، جيبه فارغ ، لكنه مطقم ، ملمع ، معطر ، مع أنه ميت من الجوع، يسألك : ما هو تحصيلك العلمي ؟! أخرج ” أبو ساعة ” مبلغاً كبيراً من المال ، وقدمه لزوجته : هذا القسط الأول، من الصبح سجلي في الجامعة 
فانهارت زوجته في البكاء ، تقول له وهي تتنهنه : كان هذا شرطي الوحيد حتى أوافق أتزوجك . ثم قامت ، توضأت ، صلت ، أغفت ، رأت فيما يراه النائم أن ( بطابوف ) صديق زوجها منذ الطفولة ، وابن حارته ، والذي يشبه من بعيد الطابة ، والمقيم حالياً في دولة الإمارات ، وهو الممثل الشرعي والوحيد للجامعة التي حصل منها ” أبو ساعة ” على البكالوريوس ، رأته يُحشى من قبل رجال الشرطة في فوهة مدفع ، ويُقذف خارج الحدود ، اهتاجت زوجة ” أبو ساعة ” وسيطرت عليها نوبات من الضحك الهستيري وهي تحاول أن تسرد على ” أبو ساعة ” ما رأته في منامها . انهارت أعصاب ” أبو ساعة ” وأوشكت عيناه على مغادرة محجريهما وهو يهتز هزات عنيفة . تغضن وجهه ، وانتفخ ، واسود ، وأطلق فمه الزبد ، واصطكت أسنانه ، وصرخ : مؤامرة .. تآمر عليّ ( بطابوف )، الحقير، ابن حرام .. أرادت زوجة ” أبو ساعة ” أن تعيد قسط الجامعة ، لكنه لم يأبه بها، فوضعته على الطاولة. كان ” أبو ساعة ” يخبط رأسه بالجدار ، ويصيح : باع ( بطابوف ) أسئلة إمتحانات ، باع ( بطابوف) الإجابات، باع ( بطابوف ) الأساتذة ، باع المقاعد ، باع الجامعة ، لم يسمع مني ( بطابوف )، قلت له : اشتغل على الخفيف ، ضربة على الحافر ، وضربة على النافر .. حرمني ( بطابوف ) من الدراسة، كنت أسافر إلى دبي قبل الامتحانات بأسبوعين حتى ألحق أحضر حالي ، ألاقيه ينتظرني في المطار ومعه … ، يأخذني إلى … ، أدخل إلى قاعات الامتحانات وأنا … ، أرجع إلى عمان وأنا … ، تمر أيام وأنا … . كان نفسي أمسك لو كتاباً واحداً، أفتحه، أقرأ فيه لو سطراً واحداً ، كان نفسي أعرف أسماء المواد التي حصلت فيها على تفوق. ظلت زوجة ” أبو ساعة ” تقول له : مالك، كله حلم .. توقع البلاء قبل حدوثه كفر. يرد عليها ” أبو ساعة ” : قريباً سيقرع ( بطابوف ) جرس هذا الباب. 
والتقط ” ابو ساعة ” بكالوريوسه ذا الإطار الخشبي الثمين والزجاج اللامع النظيف عن الأرض، وعلقه من جديد على الحائط وهو يهتف : والله كل العالم لن تقدر على سحبه مني ، لن أعيش دقيقة واحدة من دونه ، روحي فداء له ، وقبل أن يعيد جملته الأخيرة ، كان ( بطابوف )يقرع جرس داره .
______
*قاص من الأردن

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *