*ميخائيل زوشنكو/ ترجمة: أشرف عبد الحميد
كان إيفان يعيش في حي شعبي في بلدة (بيتروجراد)، وسط مجموعة من زملائه الفقراء. اجتهد إيفان في عمل أي شيء يدرّ عليه القليل من المال. فهو ناسخ لوحات، وكاتب لأرقام المنازل، وأيّة لافتات لتوضيح معالم الطريق.
وبالمناسبة كان يمكنه أن يربح الكثير باجتهاده، فهو ذو موهبة كبيرة، ولكن، عانده سوء حظه، فكان يمرض كثيراً.
ويالعجب حياته، شديدة البؤس والفقر، ولم يستطع تغييرها للأفضل! وزاد الطين بلّة إعالته لزوجته «موتيا»، كثيرة الشكوى والتذمُّر.
تزوَّجها، وهي لا تمتلك أية مهارات تعينه على معيشتهما، ولكنها- للأسف- لا تعرف معنى (رفيقة الحياة)؛ فهي لا تعمل أي شيء، فيما عدا إعدادها طعام الغداء، وأحياناً تغلي الماء لإعداد الشاي. ولاتساعد زوجها البائس، الذي لا تسمح حالته الصحية بربح المزيد من المال.
وبدلاً من إشفاقها على زوجها، فنّان اللوحات، وحامل القلب الرقيق، كالت له كل يوم السباب واللوم، بصرخات عالية على هذه الحياة البائسة.
طالبته بإلحاح، أن يجني لها المزيد من المال، فهي تريد الذهاب إلى السينما، وتناول مختلف الأطعمة. حاول الربح الأكثر تلبيةً لرغباتها، ولكن، لم تَجُد عليه الحياة بأكثر مما يربح.
وياللبؤس! لقد استمرّت زوجته في نعته بأسوأ الأوصاف. وحالته المرضيّة جعلته واقعاً تحت فكّيها.
وحقيقة، فهي معه منذ ثمانية عشر عاماً، وكانت تحدث المشاحنات بينهما، ولكن لم تصل إلى حدّ الفضائح الكبيرة، أو محاولة أحدهما قتل الآخر.
ولم يحدث هذا، لأن الزوجة تعلم أن زوجها يهتمّ بها. وكذلك لأنها تعلم أن الزوج إذا رحل، أو طلَّقها لا تعرف أحداً يعتني بها. وفي الوقت نفسه تعلم أن عبدها الأمين لن يفعل أي شيء، وسيبقى المعذّب أبداً في خدمتها، تستطيع إرغامه على العمل من أجلها على مدار اليوم.
وأما هي فولدت قبل الثورة بزمن بعيد، فاهمة واجباتها الزوجية، إنها تحيا بلا أية أعباء، فالزوج كادح من أجل لقمة العيش، أما هي فحياتها ما بين تناول البرتقال (الفاكهة الأغلى في روسيا)، والذهاب إلى المسرح.
ودائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ حدث ما لم يتوقَّعه أحد، فقد مرض زوجها إيفان. وسبق مرضه ضعف جسده الشديد. ولم يكن مرضه في عدم قدرته على الحركة، ولكن نفسه أصابتها العلة، حتى إنه اشتاق إلى حياة أخرى بعد الموت.
وكان يرى في أحلامه القوارب والزهور والقصور، وغيرها من المشاهد الجميلة. كما تغيَّرت حالته إلى حالمٍ يخيّم عليه الهدوء، مستنكراً الصخب والضوضاء لدى الجيران. وأراد أن يبقى الجميع هادئين. وفجأة، بدأت تظهر على وجهه علامات قرب انتهاء الأجل. فبدأ يرفض مختلف الأطعمة، حتى إنه رفض وجبة الأسماك، وهي التي كانت مفضَّلة لديه. وهاهو يرقد مريضاً، يوم الثلاثاء والأربعاء، وتجالسه زوجته موتيا، التي فاجأته بسؤالها الغريب: آه! قل لي، لماذا ترقد؟! محتمل أنك تتمارض عمداً. ومحتمل أنك لا تريد العمل، ولا تريد الربح.
استمرَّت في لومه، بينما لاذ هو بالصمت، مفكِّراً في نفسه: دعها في ثرثرتها كما تشاء. فكل ثرثرتها عندي متساوية، وأشعر أنني سأموت قريباً.
وحقيقة، فحرارته مرتفعة طوال النهار، يبقى راقداً، ضعيفاً مثل طفل مسكين، أما ليلاً فإنه ملاقٍ العذاب على فراشه. أما المحيطون به، فقد تخطّفتهم الأفكار السيئة.
قال لهم: أتشوَّق قبل موتي، إلى جولة في أحضان الطبيعة، وخاصة أنني لم أر شيئاً جميلاً خلال حياتي.
ظلت حالته كما هي، متخيِّلاً أنه سيموت بعد يومين.
اقتربت زوجته موتيا من فراشه، متسائلة بصوت خبيث: آه، هل ستموت؟
قال زوجها : نعم، عذراً، سأموت، وأغيِّر لك مجرى حياتك. وللأسف، سأنجو من سجنك.
قالت : حسناً، سنرى، لا أصدقك أيها اللئيم. سأستدعي لك الطبيب. فَلْيَرَك الطبيب أيها الأحمق، وعندها سنعرف هل تُحتَضَر، أم تتمارض فقط؟ وحتى هذه اللحظة، أنت لا تزال تحت قبضتي. ومن الأفضل، وأنت معي، ألا تحلم بذلك.
استدعت له طبيباً محلّيّاً من مشفى قريب، حيث فحصه قائلاً لزوجته: عنده تيفوئيد، أو التهاب في الرئتين. وستسوء حالته أكثر هنا. ومن المحتمل أن يموت فوراً.
رحل الطبيب بعد أن نطق بهذا التشخيص. وعندها اقتربت الزوجة من زوجها قائلة: هل يعني هذا أنك ستموت حقاً؟ لن أتركك تموت. ترقد وتفكِّر- أيها اللئيم- أن كل ما تريده سيتحقَّق. صدِّقني- أيها اللئيم- لن أدعك تموت.
قال زوجها إيفان: كلماتك غريبة للغاية. الطبيب أعطاني تصريحاً بالموت. ولن تستطيعي تأخير الموت. والآن اتركيني وشأني.
قالت زوجته: لا أعترف بالطبّ وأهله. ولن أتركك تموت. هآ….أنت أيها اللئيم الغني قررت الموت؟ ومن أين لك المال أيها اللئيم حتى تموت؟ وهل معك تكاليف تجهيز الميت والجنازة؟ إنها تكلِّف مالاً كثيراً، أليس كذلك؟
جاءت الجارة الطيبة أنيسيا، وكانت قد سمعت في طريقها هذا الحديث، فقالت عارضة مساعدتها: أنا سأجهِّزك بعد وفاتك ياإيفان. لا تقلق، فلن أكلِّفكم أي أموال. هذا عمل خير. أرجو الثواب عليه من الله.
قالت الزوجة: حسناً، ستقوم الجارة بتجهيزك، وماذا عن التابوت، والعربة التي تنقل الميت، وأجر الكاهن؟ هل سأبيع كل ما تحتويه خزانة ملابسك من أجل هذه التكاليف؟ سحقاً على كل شيء. لن أتركك تموت. لِتجْنِ لي بعض المال، وبعد ذلك فلتمت، ولو مرتين.
قال زوجها إيفان: وكيف هذا ياموتيا؟ يالها من كلمات غريبة!
قالت موتيا: هكذا قلت. لن أتركك، وسترى. اعمل أولاً. وادَّخر لي ما ستربحه خلال شهرين، ثم مت حينها كما تشاء.
قال زوجها إيفان: ومن يمكنه إعطائي المال؟
قالت موتيا: خذ ممن تريد. هذا لا يعنيني. فقط اعلم، أيها الأحمق، أنني لن أتركك تموت.
رقد إيفان حتى المساء، يعاني سكرات الموت، أنفاسه متقطِّعة. ومع ذلك ارتدى ملابسه في المساء، وخرج -متأوِّها-ً إلى الطريق. وفي طريقه قابل موظّف البلدية «إيجنات».
قال إيجنات: حمداً لله على سلامتك.
قال إيفان: تخيل يا إيجنات، زوجتي لا تتركني أموت. تطلب مني أن أجني لها دخل شهرين. من أين أستطيع كسب المال؟
قال إيجنات: أستطيع إعطائك عشرين قرشاً، أما الباقي فتستطيع طلبه من غيري.
رفض إيفان العشرين قرشاً، شاكراً الرجل، ومكملاً طريقه، ثم جلس مستريحاً على أحد الصخور، مستريحاً بسكون وهدوء تامَّيْن. مفكِّراً في أمره: من سيعطيه العملات النقدية في جلسته هذه؟ متأمِّلاً نفسه: رجل مريض، ضعيف الجسم للغاية. تنهد إيفان مفكّراً: أستمرّ في جلستي هذه، ويمكنني أن أخلع قبّعتي، لعل الرحماء يلقون لي بعض العملات.
ومع مرور الوقت، أعطاه بعض الناس قليلاً من العملات.
عاد إيفان إلى بيته ليلاً، مغطّى بقطع من الثلج، راقداً على الفور في فراشه، وفي يده ما جاد به الزمان من العملات.
أرادت زوجته موتيا عدّ هذه العملات، ولكنه لم يعطها لها، وظلّ قابضاً عليها بكلتا يديه: لا تلمسيها، مازالت عملات قليلة.
وفي اليوم التالي، نهض إيفان مرة ثانية. خارجاً إلى الطريق، متأوِّهاً للمرة الثانية، ثم عاد إلى بيته ليلاً ، حاملاً ما رُزِق من العملات. أحصى ما حصل عليه، ثم نام.
وفي اليوم الثالث كَرَّر ما فعله في اليومين السابقين. تكرَّرت أيام تسوُّله، حتى أصبح معافىً تمام العافية، وذهبت عن وجهه علامات البؤس والمرض، فامتنع المارّة عن إعطائه النقود، فامتنع بدوره عن التسوُّل.
عاد إيفان إلى حرفته مرة ثانية. وهكذا لم يمت، ولم تسمح له زوجته موتيا بالموت.
قال الطبيب المحلّي مبتسماً، وهي يروي لنا هذه القصة: وهذا ما فعلته الزوجة بزوجها. مستطرداً: عاش إيفان، والطب لا يعلم تفسيراً لمثل هذه الحالات، ولا تعلمها الزوجة أيضاً.
والتفسير العلمي المحتمل، هو أن إيفان، عندما خرج من بيته مهموماً، محطّم النفس، حدث له ما لم يكن ينتظره، إذ استردَّ عافيته خارج هذا البيت، على العكس من المتوقَّع حدوثه، عند خروج مريض في جوٍّ بارد.
وفي خلال أيام، تحسَّنت حالته المعنوية بدرجة كبيرة، حتى إنه أنهى كتابة لوحة كبيرة لمحلّ بيع لحوم.
وأما الزوجة الجشعة، عاشقة المال، فكان لجشعها أكبر الفضل في الإبقاء على حياة زوجها الغالية.
وبالطبع، نادراً ما يحدث هذا في الحياة. وغالباً ما يحدث العكس، ويتسبَّب الطمع في أن يفقد الإنسان كل ما يملكه.
______
*الدوحة