صور من ذاكرة رمضان / نصوص


*ناصر الريماوي

(1)- المسحّراتي:

في مدينة الزرقاء، “حي الحاووز” تحديدا ، استقرّ ذلك “المسحّراتي” في ذهني ولفترة تخطّت سنوات الصبا، كركن شرعي لا يكتمل صوم الفرد أو الجماعة إلا به ، كان بالنسبة لي كائنا رمضانيا، ينبثق صوته الرخيم من مكان بعيد، يتردد عميقا وموحشا في الشوارع والأزقة، يعبر النوافذ والفسحات السماوية ويصل ضعيفا، ينطلق بطبلتهِ وصوتهِ من أكثر الزوايا حلكة في قاع المدينة، ينبتُ كفكرة مستجابة من كثرة الدعاء ومن صلاة التراويح الأولى التي تسبق الصوم، لم يكن يعرفه أحد، كثيرا ما حاولت الترصد لأرى ملامحه وهو يمرُّ من تحت النافذة، ولكنني ومع اقتراب صوته كنت أتراجع خشية أن تلحق بي لعنة ما، أنظر فقط حين يبتعد صوته وقبل أن يختفي وراء عطفة الزقاق المترب مخلفا زوبعة من غبار، في الصباح يأخذنا العطش إلى الظلّ و إلى مصاطب البيوت الباردة، إلى حكايا الأمهات حتى يميل النهار نحو برودة المغيب …، بالنسبة لي كان يمضي الوقت وأنا أطالع وجوه الغرباء ممن يعبرون الحارة، أقارن اصواتهم بصوت المسحراتي، حتى يخيب أملي لأعود ملتصقا بقناعتي أكثر : “هو كائن اسطوري، رمضاني … يظهر مع الفجر، يوقظ الناس بهتافه وصوته ثم يعود إلى تلك الزاوية القاتمة التي خرج منها، ومع العيد يتلاشى “. 
بعد سنوات، إنحصر ظني بثلاثة من الغرباء، ببائع العنبر، وهو يهتف بنا : العنبر يا أولاد … ثم ينحني ليمنح كلاً منّا قطعة حلوى ويمضي، وبائع علكة البُطم الذي كان يضع ديكا حيا في سلّة خلف ظهره، وبائع “الفريسكا” الملثّم، ثلاثتهم يتخلون عن البيع نهارا في رمضان، ومن المحتمل أن يكون ذلك “المسحراتي” أحدهم…
في أماكن أخرى، مثل ( دمشق ) بين “حي الدويلعة” و “مخيم جرمانا” ، كان للمسحراتي قبضة قوية ينهال بها على أبواب الصفيح، ليوقظ الناس كلهم بضربة واحدة، رأيتُ وجههُ منذ الليلة الأولى، وصادفته نهارا يبيع عصير “التمر هندي” على عربة متنقلة بين الدويلعة والمخيّم.
في مدن أخرى كحلب وحمص كنتُ أراه في كل مرّة… واتحدث إليه أغلب الأحيان.
حتى هذا اليوم ما زلت أحاول رسم ملامح “المسحّراتي” الأول الذي كان يوقظ حيّنا، في مدينة الزرقاء، بصوته الرخيم وهتافه الذي لا يتبدل، يجتاحني الفضول ويدفعني بقوة نحو ذلك الزمن الغابر، ونحو طبيعة ذلك المسحراتي تحديدا، تبدأ فورة الأسئلة في داخلي حول ملامحه بمعزل عن غيابه الآن، وبمعزل عن سطوع هالة البرامج التلفزيونية على مدار الساعة والهواتف الذكية، وأصوات الآذان في المنبهات الالكترونية …. ما أنا على ثقة منه اليوم، بأن صوته الموحش – ذلك المسحراتي- ظل هو الأجمل بين جميع الأصوات التي اعتدت عليها في حياتي.
(2) – مدفع رمضان:
قبل دقائق من موعد الأفطار كنّا نتلاقى هناك، نفترش الرمل صغارا وكبارا، نجلس عند الحافة الشاهقة لتلّة “قصر شبيب” والمشرفة على الوادي شديد الانحدار لمجرى ” السّيل” في مدينة الزرقاء، والذي يخترق في طريقه بساتين وحواكير خضراء، كثيفة على الجانبين، كان اهتمامنا الأول ينصّب على سفح التلّة الجرداء المقابلة لنا تماما، وأظنها بالتحديد منطقة “الجبل الأبيض”، نحاول أن نحدد موقع ذلك المدفع بدقة أكثر، بعيوننا المجردة، نبحث في طبيعته، وطبيعة الرجل الذي يتطوع لاشعال الفتيل كل يوم، ينقضي الوقت بين تلك الأسئلة والاجابات المرتجلة عليها، وكلما اختنق المدى بعتمة المغيب أكثر، كنّا نوغل في الصمت حتى يستوي السكون في ترقب لاشعال الفتيل ومن ثم تردد الصدى وتلقي القذيفة في تزامن عفوي متوافق مع اندياح اصوات المآذن لمساجد المدينة بأكلمها، مسجد الشيشان، مسجد العرب ومسجد عمر بن الخطاب … 
رمضان الفائت عصرا – بعد ثلاثين على نزوحنا عن تلك التلّة – كنتُ أجوب منطقة “الجبل الأبيض” المزدحمة بالبيوت والناس، في مدينة الزرقاء، وتحديدا عند ذلك السفح حيث يفترض بمدفع الافطار القديم أن يكون، سألت أحدهم وكان شابا، عن مكان ذلك المدفع، مطّ شفتيه ثم قال مستهجنا : مدفع …؟! أعوذ بالله منذ متى كان هذا؟
كنتُ أعرف الاجابة سلفا ولكني أحببتُ أن أحكّ ذاكرتي بجسد آخر غير جسدي، ولم أفلح، حاولت انعاش ذاكرتي بعد ذلك اليوم باصطياد أحد ما …، من رعيلنا الأول ليؤكد لي بأنني لم أكن واهما، وبأن مدفع الافطار كان يوما ما هناك، على ذلك السفح، وكنّا ننتظر اشتعال الفتيل معا، نشهق جميعا باشارة نحو وميض النار ونحن نهتف: الآن سيصل الصوت…! حيث كان يصل متأخرا لثوان. 
صوت القذيفة الخلّبية يعلو بينما ترتفع أصوات المآذن، تتداخل بين أصوات الدعاة في الجوار، ثم تتلاشى وصخب نزوحنا الجماعي عن تلك التلّة نحو البيوت…
(3) – أكتوبر – 73
صورة باهتة قديمة من ذكرى ضبابية … تقفز إلى حاضري، “راديو” ضخم هو الأحدث، عام 1973، بإبرة فضيّة ومسطرة مستطيلة مرقمة، توليف دقيق وصامت في البحث عن صوت بيان عسكري، حالة من القلق تكسو ملامح والدي، جارنا المقدسي الذي يقطن الزرقاء منذ النزحة… ينده من خلال الفسحة السماوية لحوش بيتنا القديم: خير يا حاج … بشّر؟ والدي يشير له بأن ينتظر… دون أن يلتفت نحوه. بيانات ترافقها مارشات عسكرية وموسيقى حماسية، وأنا لا أفهم، والدتي تهمس لي: “أسكت… حرب على اليهود، سوريا ومصر هجموا على اليهود”. 
استغرب أين تلك الحرب، ولم الناس هنا بكل هذا الاهتمام والقلق ما دامت الحرب بعيدة عن مكاننا…!؟
فقط والدي: “سكوووت…. خلينا نسمع، وبعدين؟”
يحين موعد الإفطار ويطير الراديو إلى جارنا المقدسي، والدي يتغضن جبينه ويتمتم، أمي وحدها من تفهم عليه، ندرك هذا وهي تشاطره الصمت.
ذكرى ضبابية عن حرب لم تنته حتى اليوم، اشتعلت في رمضان ولم يبق منها سوى الايقاع الحماسي و”المارش” العسكري … لكن والدي لم يعد يستمع لبيانات عسكرية بعد ذلك، جارنا المقدسي طوّح بذلك المذياع بعيداً من سطح بيته وهو يبكي… في كل رمضان يستعيد ذكرى ذلك المذياع ويبكي.
(4) – بوّابة المخيّم
بوّابة مخيّم الزرقاء، وسوق الخضار الكبير الذي لم يكن هنا…!
لعشرين عاما متتالية ووليمة الافطار في كل عام تأخذنا بين حاراته الحنونة مرورا بالمساء
والسحور وحتى صبيحة اليوم التالي، كان آخرها عام 2004.
في المخيم، لم يحدث وأن زرتُ بيتا أو مكانا هناك ثم استطعتُ العودة إليه دون أن أتوه، تختلط الطريق في ذهني بعد يوم واحد فقط، لأضيع. بادرني بعد أن التقطَ قامتي الكئيبة وهي تتسول الظلّ أمام شوادر السوق الصغير …. بأن للمخيم ذاكرة حيّة تحرسه وتحميه، ذاكرة مستقلة تماما عن وعي المدينة المحاذيه بذلك القلق وتلك الفوضى.
قلتُ له : لهذا السبب أتوه في كل مرّة إذن…!
فالدروب الضيقة تودّعنا بابتسامة المنتمي لتلك الذاكرة، ما أن تُشيّعنا نحو بوابته، حتى تطوي أسهم اللافتات الارشادية وتعيد تشكيل الاتجاهات على نسق المتاهة…!
يضحك عاليا بعد وصولنا ونحن نقف أمام سور بيته المنخفض المثقل بعريشة العنب، وهو يؤكد، بأن هذا أمر مبالغ فيه، بل هو خال من الصحة … فالشوارع والبيوت وحتى الأزقة تتطور وتنمو نموا مطردا وطبيعيا، وأما نحن (القُساة) فنغيب لدهر عن زيارة المخيم وأهله، هذا كل شيء.
رمضان الفائت، وبعد غياب عشر سنوات، وبلا دعوة، كنتُ محاطا ببسطات الخضار، أحتمي بمظلّات السوق الكبير، بوابته تفضي نحو ذاكرة لم تزل خضراء يانعة، ودون تفكير وجدتني أعبر بلا تردد أخترق الحارات الضيقة ، القديمة، أذرع الطرقات على غير هدى، المحيّر أن الطريق لم تختلط ككل مرّة، بدت وكأنها مرسومة باحساس نقي لم يفارقها يوما، وأنا أقف أمام ذلك البيت، وقد تغيرت من حوله الدنيا بينما ظلّ هو على حاله، كان مهجورا وبلا سور، ومحاطا بسياج معدني من الناحية الأمامية، ولم يكن ثمة دالية، البيوت الملاصقة تبدّلت من حوله كثيرا، كذلك الأرصفة، النواصي القريبة مبلطة، ومزودة بأحواض لزراعة أشجار الزينة، اللافتات الاعلانية البارزة تعترض الطريق وتنتشر بعشوائية على جباه المحال التجارية الصغيرة، عدتُ من حيث أتيت وفي نيتي العودة إليه كل عام، وكنتُ أتساءل… من منّا أكثر قسوة، أنا أم صديقي الذي غاب تماما ولم يعد يعنيه ذلك المكان؟
(5) – توت شامي 
أتذكر ذلك الرمضان البعيد في حي البرامكة وسط العاصمة السورية “دمشق”، حيث كنّا طلابا في الجامعة نحتال على الوقت كل يوم، ليمضي بنا نحو المغيب. أذكر تماما كيف كنّا نقصد أسواق الخضار المسقوفة في الحارات الشامية القديمة سيرا على الأقدام، نمشي نحو “باب الجابية” أو “مدحت باشا” ، تستقبلنا الرائحة الطازجة وأصوات الباعة ونحن نعبر بين بسطات الأطعمة والعصائر، أكياس التمر الهندي، وقوارير التوت الشامي، حزم البقدونس، ومتطلبات السلطة الخضراء والتبولة، عجينة القطايف العصافيري وغيرها. 
كانت أرفف الدكاكين الصغيرة تموج ايضا بالسلع وبعض التوابل لتسهم بدورها في نثر عبق أرخبيل الرائحة الرمضانية المميزة… يمضي بنا الوقت ونحن نصغي لهتاف الباعة والقصابين، وهي تعترض الطريق اثناء سيرنا المتمهل في غنائيات شعبية جميلة، ننقل ابصارنا بين الوجوه والسلع، لم يكن يهمنا أن نشتري شيئا بقدر ما كان يغرينا المسير، والمشهد الرمضاني، وتغرينا الرغبة في الاندماج معه، ومع مكوناته التي ترسم لوحة بصرية تفيض بعطر التقاليد العتيقة، قبل أن يعلو صوت المؤذن في الجامع الأموي لنرجع إما بحزمة خضراء لغرض التبولة، أو قارورة توت شامي … هي آخر همّنا.
(6) – الحكواتي
منذ عشرين عاما، وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان، أنهى حكواتي مقهى “النوفرة” في الضاحية الدمشقية القديمة، سرد حكاية الظاهر بيبرس على أسماع الحاضرين، كان عمرها في وعيهم بمقدار سهرة قصيرة تنتهي مع آخر رشفة من قدح الشاي المهيل، الجدران في حي “القيمرية” وحدها من حفظ الحكاية، إلى اليوم وهي تردد صداها بذلك الحماس في صوت الراوي، حتى بعد غمامة النسيان الثقيلة، ورحيل الصوت عنها.
_________
*قاص من الأردن/صحيفة الرأي – الملحق الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *