مارسيل خليفة: أنا ابن حي العربة في عمشيت ولا أزال أبحث عن الحرية



حوار : رلى معوض




هدوؤه جنون مبطّن، وشغف لا يعرف الكلل. إنه مارسيل خليفة العاشق الأبدي لكل ما هو حب وجمال وحرية؛ المكتفي بموسيقاه واللاهي بـ”شهوة الاسئلة”. التقته “النهار” على هامش تمريناته لأمسية العودة الجبيلية فكان معه هذا الحديث.

■ أنتَ في صخب الموسيقى والمهرجانات، فكيف توفق بينها وبين عزلتك كفنان؟


– صرت ميالاً اليوم الى العزلة، غير انها في العمق اتصال بجوهر الحياة وليس بظواهرها السطحية الطارئة والعابرة التي تستنفد طاقة الإنسان. عمومية الشخص وحضوره العام ليسا دليلا على مساهمته وفاعليته الحقيقية في الحياة، وخصوصا ان حياتنا باتت مصادرة بما لا يحصى من السلطات التي تهندس قتل الطاقات الفنية. من هنا أقول إن العزلة هي حرية الشخص من كل السلطات وتجلياتها واوهامها في المجتمع والحياة. لا اطلب من العالم شيئاً، ربما لأني لا احتاج الى شيء منه، ولأني صرت مكتفيا بالموسيقى. لا شيء يغريني. اتحصن بعزلتي قويا بالحب. في داخلي أنغام من الكتابة الموسيقية ما يكفي ربما لأعيش عمرا ثانيا. لكن تحاصرني دوما متطلبات الحياة بصورة قاتلة. لا احد يقدّر حاجة الانسان الى نفسه بعيدا من التفاصيل. لا احد يصدّق ان الوقت لم يعد كافيا.

■ ما هي مقاربتك للحرية في ظل السائد اليوم؟


– لا استسلم لليقين او لليقين السائد، لان الشك وقلق الأسئلة يجعلان الانسان قادرا على التحول المستمر الى فعل حي في الحياة، وربما بعدها. احب شهوة الأسئلة. لا أحب الأجوبة المستقرة المنجزة من جاهزية الماضي. ليس ثمة مقدسات تضع الانسان في مستوى التابع دائماً. القلق والشك يضعانني في موقع “اليأس الجميل” لأن مشاريع الأمل المهيمنة في واقعنا هي الخلاص الناجز، و”اليأس الجميل” هو اكثر فاعلية من الاشخاص المروجين لأمل ميؤوس منه. لا احب الاطمئنان الأبله، لهذا أعطي حريتي معنى أبعد من الحرية السياسية او الشخصية للإنسان. ألهو والعب واعبث بما لديّ من نواتات، لكن حاجتي كإنسان الى الآخر كانت دائماً متفاقمة، وخصوصا اليوم، مع ان إيقاع العصر يحول دون اتصال الناس بعضهم بالبعض الآخر. ثمة وسائط من شأنها ان تجمعنا ولكن في هذه الوسائط لا احرم نفسي من حوار حميم ومباشر مع الآخر، ولا أفرط في الصداقة الانسانية التي تجعلني أتفادى الجحيم التي نعيش فيها. اذهب الى جنة الآخرين لنؤسسها معاً بالحب والبوح وتبادل الحوار في الأعماق الحرة.

■ اليس في خواطرك نوع من نوستالجيا؟ كيف تتخلص من عزلتك واليأس؟


– تخلصت من كل ذلك بالكتابة الموسيقية. أكتب فأبني جنتي زهرة زهرة، وردة وردة، بمعزل عن السلطات من حولي. وكلما تمكنت من استدراج المستمعين الى هذه الجنة كعشاق وأرواح شاردة، تيسر لي بعض الاطمئنان بأن في الحياة متسعاً من الوقت للاتصال بمن يبحث عن ذاته في ذوات اخرى او بمن يفتح الروح على الأرواح الاخرى. كلما استطعت ذلك من تجربتي السابقة تيسر لي الشعور بقليل من الثقة لكي اذهب نحو تجربة جديدة. الموسيقى شريكة حياتي اعيشها وانهمك بها في كل لحظة. هي حلمي الجميل الذي يمنح حياتي معنى خاصا ولذة نادرة. الموسيقى همي الوحيد، وهي هاجسي الذي لا ينازعه هاجس آخر سوى الحب. لقد عشت تجارب صعبة ومريرة وكانت الموسيقى تحميني وتمنحني قوة الامل والصمود. لذلك لم اهزم داخليا. صحيح اننا هزمنا في السياسة لكن الموسيقى هي التي حمتني من الانهيار والهزيمة الداخلية.

■ بصفتك فناناً ملتزماً القضايا الانسانية، ما هي مقاربتك للافكار الإيديولوجية؟


– لم اخضع للايديولوجيا بالمعنى التقديسي، وكان ذلك مبكرا ولسبب فني. كنت ارفض منذ “وعود من العاصفة” ان يكون للإيديولوجيا اي تدخل في حرية مخيلتي، على رغم ان لها دورا في تجربتي العامة كممارسة يومية. لم احب التنظير الإيديولوجي. كنت أسهر دوما على صوغ روحي، وكنت حرا اكثر بالمعنى العميق للحرية، وغالبا ما كنت خارج السلطات مهما بطشت او تجرأت او بالغت في العنف. كنت قويا بنقطة الضعف، ولم تقو اي قوة على تحطيمي او التغلب على روحي الداخلية. لا شيء يعادل الحرية، ولا شيء يضاهي الصدق. المهم ان يكون الانسان متماسكاً في داخل روحه فلا يستطيع ان يطاله احد. الآن أقف في جبيل من دون اي تغيير في شهوة الحرية. بالطبع كانت فترة الهجرة القسرية صعبة وعميقة، لكنني أعدت تكوين كياني الإنساني والروحي والمعرفي، مما دعاني إلى ان اعرف قضايا كثيرة مهمة مثل الحرية والصدق والعدالة والأخلاق والفكر والفن في أفق رحب ومطلق.
منذ البداية لم تكن أعمالي تميل الى الكتابة الفورية لأني اعتقد ان الإبداع يأتي في مرحلة لاحقة، لانه ليس وسيلة إعلامية إخبارية ولست من المؤمنين بأن للموسيقى والأغنية وظيفة تحريضية. هناك آليات وأدوات تعبير مختلفة لإبداء الموقف والاستنكار وتصليب الذات. ربما يكون لدى البعض السليقة والقدرة على التفاعل المباشر، ولكن لا بد من تأكيد ضرورة عدم تجيير الإبداع او توظيفه بشكل إعلاني. سأكون قلقا جداً اذا كتبت موسيقى او أغنية تلبية لانفعال، من دون ان يتوفر ما أكتبه على الشروط التي تقنعني فنياً.

■ انت يساري، كيف ترى إلى اليسار اليوم، انت العائد مرارا الى مدينتك جبيل؟


– اليسار قدر مثل شهوة الأسئلة والنقد وإعادة الخلق. كل خيار اذهب اليه كمبدع او كمؤلف او كفنان. إنه يسار الحياة والعالم والكون. لا ارى فكرة اليسار باعتبارها توصيفا إيديولوجيا او سياسيا، بل اشعر بأنها موقف حضاري وإنساني في الحياة والكون. ربما ليس ثمة يسار يمكن ان يكون اجمل من يسارنا الذي كان متصلا بأبعد التجارب في العالم. لقد ذهبت بالقدر الكافي إلى الحلم والحماسة والصدق، ولم أكن اشعر بالهزيمة، مع اننا لم نصل ولا مرة الى المحطة.
بعد كل هذه التجربة اجد نفسي ابن حي العربة في عمشيت واحتفظ بأجمل لحظات فيه مع أناس وأصدقاء لم يكفّوا عن ان يكونوا أقران روحي.
أتساءل لماذا أنا هنا؟ ابحث عن حرية لا اجدها حتى هنا! أين هو الإشراق؟ منذ سنوات وانا أصرخ “تصبحون على وطن”. لا شيء جميلاً عندنا. كل ما نفعله يجب ان نُدخل الإيمان فيه لتغيير العالم نحو الجمال. الاذاريون جميعهم “كذابون” يتاجرون بلحمنا الحي وتاريخنا الطائفي الأسود. يأكل بعضنا البعض. سمسرة وعمالة وبنوك وتهريج. اكتب الموسيقى واغنّي لاجتياز الحقارة والخيبات. يتاجرون بدمائنا وبالوعد الجميل المزروع في مستقبلنا. في الحقيقة لم يكن لنا وطن في يوم من الأيام منذ الاستقلال حتى الساعة.

-النهار

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *