* حازم خالد
“المفارقة” مصطلح غربي لم تعرفه العربية، ولم يدخل دراساتها إلا من وقت قريب عبر الترجمة. والحقيقة أن هذا المصطلح – تحديداً – سبّب جدلاً واسعاً حوله في الغرب، فهو مصطلح غامض وشائك ويثير الالتباس. فإذا كان “ما لا تاريخ له يمكن تعريفه” على حد تعبير نيتشه؛ فإن مسألة إيجاد تعريف محدد لهذا المصطلح المراوغ، العصيَّ على الفهم، يعد مسألة صعبة جداً نظراً لتاريخه الطويل المتشعِّب، فهو أشبه بجسد قطعت أوصاله – دونما اتفاق مسبق – ووزعت بين العديد من اللغويين والفلاسفة والبلاغيين، وآخرين تداولوه بأشكال مختلفة، وطوروه بحيث أصبح له في كل سياق يرد فيه معنى مختلف وجديد.
وقد قسّمت الكاتبة نجاة علي كتابها “المفارقة في قصص يوسف ادريس القصيرة” إلى أربعة فصول هي “مفهوم المفارقة”، و”المفارقة والقارئ الضمني”، و”المفارقة والحدث القصصي”، و”المفارقة والسرد”.
الفصل الأول: مفهوم المفارقة: قسم إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول مفهوم المفارقة في النقد العربي، حيث حاولت الكاتبة أن تبحث عن أصل هذا المصطلح في التراث النقدي، وعرضت لأهم المصطلحات البلاغية التي رأت أنها تتلامس في مفهومها مع المصطلح الغربي.
الجزء الثاني: إشكالية ترجمة المصطلح وإعطاء صورة بانورامية تكشف وضعيته في دراساتنا العربية المحدثة عند الباحثين والمترجمين العرب الذين تناولوه بشكل نظري وتطبيقي.
الجزء الثالث: مفهوم المفارقة في النقد الغربي وهو يبحث في تاريخية المصطلح، من خلال تقديم عرض لأهم معانيه التي وردت في بعض القواميس والمعاجم الإنجليزية، ثم نشأة هذا المصطلح وتطوره تاريخياً، وتناول أهم الدراسات التي تناولته في النقد البلاغي والفلسفي. وتكمن أهمية هذا الجزء في أنه يفسر أسباب صعوبة هذا المصطلح في سياقه الأصلي.
الجزء الرابع: أنماط المفارقة ومستوياتها. وهو يعرض الجانب الإجرائي الذي قامت عليه الدراسة التطبيقية، حيث قدمت عرضاً لمفاهيم المفارقة وطرق بنائها ومستوياتها وأنواعها المختلفة التي قدمها ميوك، ثم تناولت هذا التقديم الخطوات الأربع التي قدمها واين بوث. وتكمن أهمية هذا العرض في كونه يوضح كيفية استخدام هذه المفاهيم نقدياً، وهو ما اعتمدت عليه الدراسة في الجانب التطبيقي.
وفي الفصل الثاني: المفارقة والقارئ الضمني: رصدت الكاتبة طبيعة العلاقة بين النص والقارئ من خلال اللغة، التي تعبر عن وعي الكاتب بالعالم وتعكس علاقته بها، من خلال وسائلها البلاغية المختلفة مثل الاستعارة والكناية والمفارقة اللفظية وغيرها، من تشكيل العالم.
وأثار هذا الفصل قضية مهمة هي؛ صورة القارئ الضمني كما تظهر في قصص يوسف إدريس وعلاقتها بالمفارقة اللفظية، حيث تقوم المفارقة اللفظية على افتراض حضور قارئ ضمني قادر على التميز بين الظاهر والخفي في النص؛ إذ إن قراءة المفارقة وتأويلها في قصص يوسف إدريس يتطلبان من القارئ معرفة عميقة، وإدراكاً للخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية للقصص لكي يتمكن من فك شفراتها.
أما الفصل الثالث فتناول المفارقة والحدث القصصي: وقد قسمت فيه قصص يوسف إدريس إلى مرحلتين تعبيريتين: المرحلة الأولى: المفارقة والحدث الواقعي، حيث تميزت فيها القصص ببساطة التركيب، وبساطة اللغة والحوار، كما أن المفارقات التي بنيت عليها هذه القصص كانت صريحة وتبدو مباشرة، ولا تحتاج إلى خبرة كبيرة من القارئ لاكتشافها.
المرحلة الثانية: المفارقة والحدث الفانتازي. وهي مرحلة في التعبير يغلب عليها طابع التكثيف اللغوي والتحليل الباطني العميق للشخصيات، وتعكس القصص وعياً أكثر ضدية بالعالم بدرجة أكبر من تلك التي بدت في المرحلة الأولى، وتبدو المفارقات في المرحلة الثانية تحتاج من القارئ جهداً وقدرة على فك شفراتها المتراكبة.
أما المفارقة والسرد فكانت موضوعا للفصل الرابع: حيث تناول كيفية استخدام يوسف إدريس للسرد كأداة رئيسية لبلورة رؤيته التي تقوم على المفارقة الساخرة، حيث استطاع أن يتجاوز بأسلوبه الأشكال التقليدية المعروفة في السرد، كما تمكن من توظيف كل العناصر التي تشكل البناء السردي (الحدث – الشخصية – الزمن – المكان) وغيرها.
ويتناول هذا الفصل جانبين مهمين هما: المفارقة والشخصية، حيث استطاع الكاتب من خلال استخدامه تقنية القناع أن يدين بشكل صريح وواضح صورة من صور الذات المتصارعة، مما زاد من حيوية النص. كما أنه تمكن عبر هذه التقنية من أن يمرّر كل ما يريد قوله من آراء. ونجاح تقنية القناع في يوسف إدريس يعتمد على درجة تمثيل القناع للوجه المختفي وراءه.
المفارقة الزمنية وجهة نظر الراوي. وتكشف المفارقات الزمنية داخل القصص مختلف أشكال التنافر بين ترتيب القصة وبين ترتيب الحكاية، وذلك من خلال دراسة الاسترجاعات والاستباقات التي يقوم بها الراوي أو الشخصية.
• جمالية القصة القصيرة
تقول الكاتبة: إن اختياري لدراسة قصص يوسف إدريس القصيرة في الجانب التطبيقي، له عدة أسباب منها: أنني أعتبر أن إدريس كاتب استثنائي – بكل المعايير – في تاريخ القصة العربية، فهو في تصوري الشخصي واحد من الكتّاب المهمين الذين أحدثوا ثورة في تاريخ القصة القصيرة المصرية والعربية، بما أحدثه من خلخلة لكثير من المفاهيم الجمالية؛ بل إنني ما زلت أراه معاصراً ومتجاوزاً بكتابته التي يتأكد حضورها كل يوم من خلال الاحتفاء بترجمة أعماله إلى لغات العالم الكبرى، والاحتفاء به في الدوائر النقدية العالمية.
وعلى الرغم من أن هناك عدداً من الكتّاب قد سبق يوسف إدريس في ريادة فن القصة القصيرة في مصر، من أمثال (طاهر لاشين، وعيسى عبيد وشحاتة عبيد، وحسين فوزي)، فيما أسماه الأستاذ الكبير يحيى حقي “فجر القصة المصرية”؛ فإن كتابة يوسف إدريس تعد طفرة حقيقية بما أحدثته من ثورة جمالية من حيث الشكل والمضمون.
استطاع يوسف إدريس أن يخرج من ثياب التقليدية في الأدب، فقد كان في حالة تمرد دائم على ذاته وعلى قوانين الكتابة، فلم يلتزم بالشكل التقليدي للقصة، الذي التزم به كثيرون حققوا درجات من الشهرة آنذاك من أمثال (محمود البدوي، ومحمد كامل حسين، ومحمود تيمور) الذين رأوا أن القصة لا بد أن تحتوي على مقدمة وعقدة ونهاية وفق الترتيب المنطقي.
ومرد هذه الثورة الجمالية يرجع – في رأيي – إلى طبيعة الوعي الضدي بالعالم الذي امتلكه يوسف إدريس، ولعل أبرز سمات هذا الوعي هو أنه ينقسم على نفسه باستمرار، مما يعني أنه يظل وعياً متوتراً، يضع نفسه والعالم موضع التساؤل الدائم. هذا الوعي الضدي الذي امتلكه يوسف إدريس هو بالضرورة قرين نوع من المفارقة، حيث العالم مجموعة من المتناقضات المتصارعة.
وقد قامت الكاتبة – نظراً لغزارة إنتاج يوسف إدريس القصصي، إذ تزيد مجموعات قصصه القصيرة على عشر مجموعات – بوضع تصنيف للأشكال الأساسية للمفارقة ومستوياتها في قصصه، ثم اختيار نماذج من هذه القصص القصيرة تكون ممثلة بشكل واضح لهده الأشكال والمستويات.
وقد لاحظت خلال تحليل هذه النماذج، أن السرد فيها ينبني على المفارقة الساخرة، التي تكشف عن نظرة إدريس إلى العالم، التي ترى أن التناقضات هي جوهر الوجود الإنساني، واعتمدت الدراسة على قصص إدريس القصيرة التي تصلح لأن تكون مادة تطبيقية لمفهوم المفارقة.
واعتمدت الكاتبة بصورة رئيسية على منهج تحليلي، يحلل النص ويبحث عن الرؤية التي تخلقها بنيته، مستفيداً من المناهج الأخرى كالسيميوطيقا أو علم العلامات والهرمنيوطيقا والسرديات.
يذكر أن كتاب “المفارقة في قصص يوسف ادريس” للكاتبة نجاة علي صدر ضمن مطبوعات المجلس الاعلى للثقافة بالقاهرة . ويقع الكتاب في نحو 225 صفحة من القطع المتوسط.
________
(خدمة وكالة الصحافة العربية)