“أوسكارات” بوليوود حب وغناء وجريمة وطبقات منبوذة


ندى الأزهري – نيودلهي

في الهند ثمة جوائز سنوية للسينما المحلية، تمنح للأفلام بعد اختيارها من جانب لجان مختصة، ومن ثم تتاح للجمهور مجاناً فرصة مشاهدة الأفلام الفائزة في مسارح سينمائية عدة بنيودلهي في ظروف عرض ممتازة. لكن، يتوجب على محبي السينما، وهم كثيرون في الهند، حيازة الوقت الكافي لذلك… فأقصر فيلم لا تقل مدته عن الساعتين! وإذا عرفنا أن ثلاثين فيلماً روائيّاً فازت في الدورة الواحدة والستين للفيلم القومي وعرضت خلال أربعة أيام، فإن حسبة بسيطة تبين أن على الناقد والهاوي ليشاهد الحد الأدنى من الأفلام في أي مهرجان، قضاء ما لا يقل عن عشر ساعات في الصالة المعتمة يومياً، المعتمة إنما المضاءة بأجواء تلك الأفلام وبألوانها الزاهية مع استثناءات نادرة.

وتمنح الجوائز عادة للفيلم المحلي الآتي من شتى أنحاء شبه القارة الهندية، حيث ثمة جائزة لأفضل فيلم هندي وأخرى لأفضل فيلم ماراتي أو تاميل أو… فالفيلم الهندي ليس هندياً فقط، ومن الأفضل القول فيلم من الهند عوضاً عن فيلم هندي، فهذا الأخير يعني هنا فيلماً باللغة الهندية، وتلك ليست الوحيدة. لغات الهند تتجاوز المئتين لكن المتعارف عليها رسمياً، بعد الهندية والإنكليزية، تزيد عن العشر بثلاث. وتخصص الحكومة المركزية جائزة سنوية لأفضل فيلم ناطق بإحدى هذه اللغات.

أيضاً فيما عدا الجوائز المكرّسة لأفضل فيلم روائي وغير روائي، ولأفضل إخراج وتمثيل… ثمة جائزة من نوع خاص لا تمنح، ربما، إلا في بلد كالهند. جائزة لأحسن غناء بالبلاي باك، وأخرى لفن التعبير الجسدي (الكوريغراف) الأكثر اكتمالاً.

تبين الأفلام الفائزة هذا العام أن معظم الجوائز ذهب لتلك الناطقة باللغة الهندية والمنتجة في مومباي حيث الإنتاج السينمائي الأضخم. بالتالي فجوائز مثل أفضل ممثلة وممثل وأفضل إخراج وأفضل فيلم والكوريغراف والإنتاج، لا بد من أن تذهب لفيلم ناطق بالهندية، كذلك الفيلم الأكثر شعبية هو «هندي» بالضرورة، فالجمهور أغرق بهذه الأفلام واعتادها وهو يعشقها.

بطلة مصرية لفيلم هندي!


ضمن جوائز الدورة الحالية للأفلام المنتجة في 2013، اكتسح «باغ ميلكا باغ» أي «اركض ميلكا اركض» (3 ساعات و8 دقائق) للمخرج راكش أمبرا كاشمهرا، مشاعر الجمهور الهندي فمنحه جائزته. كيف لا والفيلم يمس الشعور القومي، العالي هنا، من خلال تطرقه إلى قصة حقيقية عن رياضي شهير من السيخ أضاع فرصته الأخيرة ليصبح بطلاً أولمبياً. يحاول الفيلم أن يتحرى أسباب هذه «الكارثة» الوطنية التي أدت إلى ضياع انتصار كان مؤكداً. فتش عن المرأة في مثل هذه الأحوال وعن سهرة ماجنة سبقت البطولة…! البطل، في أداء لافت، يحاول استرداد نفسه في بطولات أخرى، إنما غير عالمية. فما ضاع قد ضاع. لكن حبّ الجمهور الهندي هو هنا لحسن الحظ ليعيد له شيئاً من أمجاده. المخرج الذي قاد الفيلم بإيقاع سريع على رغم طوله، معتاد على الفوز، فيلمه الأول سبق أن حصد أربع جوائز وطنية وكان ممثلاً للهند في الأوسكار عام 2007 كما في البافتا في فئة أفضل فيلم أجنبي.
كان سماع اللغة العربية في فيلم هندي فائز بجائزة أفضل فيلم، مفاجأة لدرجة أن ثواني مــــرت قبل التأكد من أن ما يتردد في الصالة هو العربية وليس الهندية أو التاميــــلية أو الماراتية أو البنغالية أو حتى الإنكلــــيزية… كانت عايدة الكاشف، ابنة المخرج الراحل رضوان الكاشف، هي بطلة الجزء الأول من «سفينة ثيسيوس» لأناند غاندي.
المخرج المهتم بالفلسفة والخيال العلمي يرسم في فيلمه تصورات في عالم متخم بالتعقيد والتناقضات لمسائل مثل الذكاء الفطري، والمعتقدات الغيبية، والأخلاق. في الفيلم مصورة عمياء (عايدة الكاشف التي نالت مناصفة جائزة أفضل ممثلة مساعدة) تشعر بفقدانها حاستها الفنية الفطرية بعد عملية جراحية لاسترداد بصرها، وحكيم راهب من طائفة «الجايين» يواجه محنة الخيار بين المبادئ والموت، وشاب يعمل في البورصة يحتار أمام قضية أخلاقية تتعلق بسرقة الكلى… يتابع الفيلم خطى أبطاله، كل واحد على حدة ويرصد تحولاتهم وتساؤلاتهم حول معاني الهوية والعدالة والجمال والموت.
فيلم هندي آخر بات يمثل توجهاً واضحاً في السينما الهندية المعاصرة، سينما العنف والجريمة. «مس لوفلي» للمخرج آشيم أهلواليا الذي درس السينما في نيويورك، عرض في مهرجان «كان» 2012 في تظاهرة نظرة ما، كما تنقل بين مهرجانات عدة وسُمّي مخرجه كواحد من أفضل صانعي الأفلام الصاعدين في الهند، ونال جائزة التحكيم الخاصة هنا. الفيلم يأخذنا إلى مومباي الثمانينات وبالتحديد إلى عالم الجريمة فيها والعالم السري لتصوير أفلام الجنس وتوزيعها. فيلم عن دمار العلاقات الإنسانية في أجواء غريبة وأسلوب للسرد يسير متناغماً مع سرد بصري اعتمد أمكنة مغلقة وأضواء كئيبة. البطل نواز الدين صديقي يثبت هنا مرة أخرى عمق أدائه وتجسيده المذهل لشخصية رقيقة تبحث عن العاطفة في عالم من الوحوش. يقودنا حديث الحب المستحيل في هذا العالم إلى أفلام أخرى غير «هندية».

الحبّ أيضاً وأيضاً

ثمة فضول لمشاهدة أفضل فيلم آت من مقاطعة البنغال (شرق الهند) التي قدمت على مدى عقود مخرجين كباراً اتخذوا في أسلوبهم الفني منحًى مخالفاً تماماً لأفلام بوليوود (الراحل ساتيا جيت راي كان أشهرهم عالمياً). في «باكيتا بياكــــتيغاتو» للمخرج براديبتو بهاتّاتشاريا الذي دخل عالم السينما مـــــنذ عقـــد، بحث عن الحب في زمننا الأسود! الفيلم يبدو كوثائقي في بدايته حيث مخرج شاب يستقصي آراء الناس في الحب، هو لم يقع بعد في براثنه ويشعر بنقص ما فيبدأ بالبحث عنه. تقوده أبحاثه إلى قرية غامضة موجودة على حدود الواقع والخيال، أي واحد يصلها لن يخرج منها إلا والسهام قد نالته… عملية البحث عن القرية والوصول إليها ثم إضاعتها لا تخلو من أجواء سحرية، لكنها (أي العملية) دامت طويلاً وداخلتها فانتازيا وخلط مستمر بين الحقيقة والوهم. فيلم لا يمت بصلة إلى ما وصلنا من السينما البنغالية. التجديد مطلوب لكن، شرط الإقناع!
جاء أفضل فيلم اجتماعي وأفضل غناء بلاي باك بلغة ماراتي (من مقاطعة مهاراشترا غرب الهند وعاصمتها مومباي) شريط ممتع ومفعم بحس الفكاهة وعميق الدلالات في رصده لتحولات الشخصيات البسيطة: «توهيا دارما كونتشا» لساتيش مانوار عن عائلة قروية هندية تائهة ضمن سعيها للبقاء بين قوانين لا تجد نفسها معنية بها، وإغراءات دينية تبعدها عن محيطها وثقافتها التقليدية. فحين يُسجن المعيل لتجوله، كما اعتادت أجيال قبله، في محمية طبيعية للنمور ممنوع التجول فيها، تتحول زوجته بعد فقدانها الأمل بالبقاء، من الهندوسية إلى المسيحية لما يقدمه المبشرون من خدمات. بأسلوب طريف يبيّن المخرج اكتشاف دين جديد وتفاعل البسطاء مع النظم الجديدة في حياتهم.
من الأفلام اللافتة للانتباه بلغة ماراتي أيضاً، فيلم نال صاحبه جائزة العمل الأول، «فاندري» (الخنزير) للمخرج نغراج مانجولز. وهو عمل جديد عن موضوع تم تناوله في الكثير من الأفلام الهندية، موضوع التراتب الطبقي الذي لا يزال معششاً في مجالات الحياة اليومية كافة، على رغم القوانين الرسمية التي تقف في صف المنبوذين اجتماعياً والطبقات الدنيا. قصة من صميم الواقع عن مراهق يحب زميلته الأعلى اجتماعياً منه في المدرسة، ما يمنعه من البوح. بعنف الشباب يحاول التمرد على الواقع والركض خلف أحلامه ولكن الحقيقة أقسى بكثير من أن يتمكن من تغييرها. حتى والده يقف ضده في محاولاته للخلاص ويذكره باستمرار بأنه من طبقة دنيا لن يستطيع تجاوزها. قصة عادية لكن الإخراج المتميز والمناظر الطبيعية وأداء الشاب (جائزة التمثيل) وكل الممثلين كل هذا جعل من الفيلم عملاً لافتاً، على الأقل من وجهة نظري! فقد فوجئت بجاري في الصالة يقول: «هذا فيلم صنع لمهرجان كان أو للبندقية… كل شيء مدروس فيه لمهرجانات كتلك، إنه للعين الغربية».
هل أصبح بصري غربياً؟!


* الحياة 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *