منير السعيداني
( ثقافات )
مسّت الحركة الاجتماعية الجارية في تونس منذ منتصف ديسمبر 2010 مجالات الحياة الاجتماعية كلّها تقريبا وإن كان تأثيرها فيها متفاوتًا. ولكن وبفعل التسيييس المفرط للمناقشات، حتى “العلمية” منها، فإن الكثير من تلك المجالات ظل خافيا عن الملاحظة أو لَمْ يَمسسهُ منها إلا ما هو سطحيّ وانتقائيّ. وفي محاولةٍ منا لتجاوز ذلك، كنا في ثنايا ما نشرنا مؤخّرا أشرنا إلى أن من بين علامات التغير الاجتماعي الحادث في تونس راهنا ما يمكن وضع الرّوحي منه تحت عنوان حَرَكَةٍ منْ جَيَشَانِ التّقديس ونزع التقديس وإعادة إضفائه . وفي مناسبات أخرى تداولنا فيها الأمر في ندوات أو محاضرات لدى مراكز وجمعيات ومنظمات مختلفة، اعتبرنا أن أجلى ما كان من ذلك هو ما اعترى المشهد الديني الإسلامي من تحولات .
لا يكون الخوض في بعض تفاصيل ذلك من دون مخاطر، ولذلك فإن أقصى درجات الحذر المنهجي مطلوبة. وعليه نتناول بعض مكونات المشهد الديني الإسلامي انطلاقا من فرضية واحدة مفادها أنه حقل تعاد صياغته عبر إعادة تعيين المواقع فيه ومراجعة ما يستثمر فيه من رؤوس أموال من حيث البنية والحجم وإعادة تحديد مصالحه الجارية وإعادة رسم رهاناته. إن من شأن فرضية شمول الحقل الديني بإعادة الهيكلة هذه أن تسمح ببناء تفكير يتدرج من رسم السمات الكبرى للسياق العام الذي يندرج فيه ذلك إلى العمل على تحديد اتجاه العلاقات بين الحقل الديني وبقية الحقول الاجتماعية وخاصة منها السياسي والثقافي والاقتصادي.
أولا: في السياق العام:
لم تمض أشهر على سقوط رأس السلطة في جانفي 2011 حتى اكتشف “المجتمع التونسي” أن غطاءً كثيفا قد انكشف عن مشهد ديني إسلامي لم يعد من الممكن اختزاله في آذان يبث على شاشة التليفزيون وبعضا مما يصوّره المثل التونسي القديم “صلاة القيّاد جمعة وأعياد”. فمنذ تطبيق الأمر العلي المؤرخ في 31 ماي 1956 كان الشأن الديني الرسمي في تونس من مشمولات الدولة ضمن مصلحة للشعائر الدينية برئاسة الحكومة (أمر عليّ في 27-09-1956) تولت تنظيم الوعظ والإرشاد العموميين الرسميين وتوجيههما وتأطير الإفتاء وتنظيم إقامة الشعائر ثمّ تحوّل (أمر مؤرّخ في 05-10 1967) إلى مشمولات إدارة ضمن كتابة الدولة للرّئاسة ثمّ تحت إشراف ديوان الوزير الأوّل (أمر 11-04-1970) ثمّ (06-05-1986) ضمن وزارة الشّؤون الدّاخلية، ثمّ الوزارة الأولى ثانيةً في أواخر سنة 1987. ثمّ وفي الفترة (1989-1992) صار الشّأن الدّيني الرّسمي مُنَظّمًا ضمن كتابة دولة للشّؤون الدّينية إلى حين إحداث وزارةٍ للشؤون الدّينية سنة 1992.
ولا يزال الموقع الرسمي للوزارة يشير إلى أن مهامها مضبوطة وفقًا للأمر عدد 597 لسنة 1994( 22-03- 1994) ومنها تطبيق سياسة الدّولة في المجال الدّيني… بما ييسّر إقامة الشّعائر الدّينية ويصون القِيَم الرّوحيّة ويَدْرَأُ أخطار الإنغلاق… ويحفظ مقوّمات الشّخصيّة الحضاريّة التونسيّة… والعناية بالقرآن الكريم والتشجيع على حفظه وترتيله وتدبّر مَعَانِيهِ… والمشاركة في دعم البحث العلمي في مجالات العلوم الإسلاميّة… والعناية ببيوت الله وسائر المعالم الدّينيّة…والإشراف على إطارات التفقّد والإرشاد الدّيني والمكلّفين بالإِمَامَة والمُؤدِّبين… وتنظيم مواسم الحجّ والعُمرة… والنّهوض بالإِعلام الدّيني وتطويره… ومتابعة نشاط الجمعيّات القرآنيّة ونشاط رابطتها… وتأطير التّونسيين بالخارج من الوِجْهة الدّينية حفاظا على هويّتهم من عوامل الطّمس… وتأكيدا لسياسة “تأميم” الشّأن الدّيني هذه استقرّ التّحالف الحاكم بعد انتخابات 23-10-2011 على الحفاظ على الحقيبة الوزاريّة ضمن تركيبة الحكومة وعلى إسنادها إلى شخصيّة ذات تكوين جامعي ودعوي قريبة من التيار السلفي (نور الدين الخادمي، رئيس جمعية العلوم الشرعية، وإمام جامع الفتح بتونس العاصمة). وتدلّ بعض الأرقام المتواترة وإِنْ لَمْ تَكُنْ مؤكّدة على اتساع ما تشرف عليه الوزارة وتنوع مكوناته: خمسة إلى ستة آلاف (5000-6000) جامع يسيرها ما يقارب سبعة عشر ألف (17.000) إطار مَسْجِدِي، إضافة إلى ما يناهز ثلاثة آلاف (3000) موظف آخر. جهويا تعمل مصالح الشؤون الدينة داخل الولاية تحت إشراف معتمد للشؤون الدينية أي تحت الإشراف الإداري لوزارة الداخلية.
ومن بين أبرز ما يمكن استنتاجه من تواتر التصريحات الصحفية ومن بينها ما كان للوزير ذاته حول أوضاع المساجد أن سمات الإِمَامَةِ المَسْجِدِيَّةِ بصدد التحوّل الحادّ والسّريع وكثيف التسييس. فقد أكّدت تلك التصريحات أن ما يقارب عُشُر المساجد استقر تحت سيطرة إمامات مسجدية “افتكت” عنوة مواقعها بحيث لم يكن بد للوزارة من أن تقبل بالحال وتطبّع الأمر الواقع بأن طالبتهم بتسوية وضعياتهم عبْر طَلَبِ تَثْبِيتٍ لم يستجب له عُشُر المعنيين بالأمر تقريبا . في هذا السّياق، تَقَاسَمَت أطوارَ الفعل وردّ الفعل في ما اصْطُلِحَ على تسميته بمعركة المساجد تلك تياراتٌ دينية وفقهية ومذهبية تبادلت مواقع السيطرة والتوجيه في عشرات المواقع على طول البلاد وعَرْضها. عبر المآلات مُتَوَاتِرَةِ الإِبْرَامِ والنَّقْضِ تلك، توزّعت مواقع التدافع الفقهي والمذهبي هذه على إمامات مسجدية شابة في غالبها وغير تقليدية التكوين بالنسبة إلى سياق التعليم الديني والفقهي في تونس كما توزّعت، فيما يهم تونس العاصمة مثلا، على الأحياء الراقية (المنار، المَنَازِه) وذات الكثافة الميسورة أو متوسّطة الحال (الخضراء، الغزالة) وذات الساكنة الشعبية والفقيرة (دوار هيشر، التضامن،…). ولكن الأمر لا يقتصر على تونس العاصمة إذ وحسب الواعظ الديني بولاية صفاقس يوجد بالولاية “418 جامعا و88 مسجدا منها ما هو معروف بسيطرة التيار السلفي عليه (جامع العذار، طريق منزل شاكر…) وأخرى يؤمّ الصّلوات فيها أئمة نصّبوا أنفسهم أو نصّبهم المصلّون” وفيهم من لا يتعامل مع الإدارة بل لم يتقدم لها بملف في الغرض أصلا . ويشير ذلك إلى أن تثبيت الوزارة للإمامات المسجدية التي “صعّدتها” “جموع المصلين الذين اعتادوا ارتياد المساجد المعنية” حسب التعبير الرسمي، لم يكن في صورته العامة إلاّ استيفاءًا لشروط إدارية شكلية شملت فيما شملت نهضويين وسلفيين وتجمعيين قدامى حسب التقسيم السياسي وسنة وشيعة… حسب التقسيم المذهبي… . ومن بين التحولات الطارئة على جسم الإمامة المسجدية بوصفها فئة اجتماعية مهنية تكوين إطارات منها لنقابة على نمط النقابات العمالية منضوية في الاتحاد العام التونسي للشغل. وسرعان ما بدا أن هذه النقابة واقعة في قلب الصراع الذي يشق الجسم المهني الاجتماعي بحيث ظهرت فيها ولاءات وانحيازات ذات طبيعة مهنية تجاه سلطة الإشراف وسياسية تجاه وضع البلاد العام وفقهية هي في الحقيقة صدى للصراع الفقهي والمذهبي العام الذي يشق البلاد . ومن بين إفرازات الصراعات المذهبية هذه بعيدة تَبَلْوُرُ استراتيجيّة تنشيطية-إحيائية لتقاليد في العلم الشرعي والفتوى والتدريس بَنَتْ، على حدّ اعتبار مناصريها، خصوصيّةً تونسيّة ذات عمق تاريخيّ شُوِّشَ عليْها إداريا وسياسيا، حكما ومعارضة إسلامية ممثلة في الاتجاه الإسلامي- النهضة رئيسا، وفقهيا… وتعتمد هذه الاستراتيجية رئيسا على وصل ما انقطع من حبل كبار شخصيات الزيتونية في القول وفي الفعل وتوظيف ثقلهم العلمي والاعتباري .
كان كل ذلك منبئا بتغير وضعيات الأئمّة المسجديين وأدوارهم وملامحهم ومكاناتهم. وبالفعل فقد كانت المعركة التي نشبت بين الاتحاد العام التونسي للشغل و”رابطات حماية الثورة” والحكومة على أثر اعتداء الرابطات على المقر المركزي للاتحاد وعلى مسؤوليه ومناضليه في ساحة محمد علي الحامي يوم 04-12-201 مناسبة مُثْلَى لمُعَايَنَةِ ذلك “على الطّبيعة”. فبالتوزاي مع إصدار “الجمعية التونسية لأئمة المساجد” و”الجمعية التونسية للعلوم الشرعية” و”جمعية المصطفى” و”الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- فرع تونس” و”جمعية الخطابة والعلوم الشرعية” و”وحدة فقهاء تونس بجامعة الزيتونة” ما عَنْوَنُوهُ “بيانا في الحكم الشرعي للإضراب المُزْمَعِ القيام به بتاريخ 13-12-2012 ” اعتبرت فيها الإضراب “من الفساد في الأرض ولا يجوز شرعا الدعوة إليه أو الرضا به أو المشاركة فيه” ، أفتى الشيخان القريبان من بعض أجنحة السلفيين ومتبادلي المساندة النقدية بينهما وبين النهضة، بشير بن حسن (رئيس الرابطة التونسية للعلماء والدعاة) وحسين العبيدي (إمام جامع الزيتونة) بتحريم الإضراب، فيما أكدت وزارة الشؤون الدينية أن من حق الأئمة تناول كل المواضيع حتى السياسية منها في خُطَبِهم الوعظيّة ودعوة الناس إلى ما يرون وأنهم أحرار في ذلك . ومن ناحية أخرى، أشارت معطيات أضافية إلى أن أئمة صفاقس ودعاتها اضطلعوا بدور أساس في تنظيم مسيرة شهدتها المدينة يوم 08-12-2012 ورجّحت مصادر أنها ضمّت ما يزيد عن 70.000 مشارك فضلا عن استنجاد النهضة بالجمعيات التي تساندها في عملها على كسر الإضراب بما بلغ نحو 250 جمعية أمْضَت بيانا في الغرض . وردّا على ذلك أصدرت إطارات المساجد والجوامع الممثلة في نقابات بيانا أعربت فيه عن أسفها “لظهور بعض منتسبي ومدّعي الإمامة في مظاهرة صفاقس الداعمة للسلطة” مدافعة عن الاتحاد العام التونسي للشغل لأن “النقابات تحمينا… لكنها لا تحمي الذين نصّبوا أنفسهم واستوْلوْا على المنابر” فيما أكّد أحد إطارات النقابة أن “170 مسجدا بكامل الجمهورية تمّ الاستيلاء عليه من قبل أئمّة غير منصّبين من وزارة الشؤون الدينية بَدْءًا بجامع الزيتونة…” .
يشير ذلك إلى أنّ السياسات الدينية في تونس ما بعد 14 جانفي غير مقتصرة على ما هو رسميّ منها. وبالفعل، فإنّ النّظر في المَشْهَدِ الدّينيّ “من تحت” يُنْبِئ عن وجود توجّه نحو تحديد موقع “جديد” للدين الإسلامي من المجتمعيْن السّياسي والمدني ومن الحياة العامّة في مُستوياتها المختلفة وأَوْجُهِها المتباينة. ومن بين دلائل ذلك مطالبةُ منظّمات وجمعيات وروابط غير حكومية بدسترة عدد من الهيئات الدينية . راوحت الاقتراحات المُجَسِّدة لذلك بين إحداث هيئة عليا للقرّاء والمجوّدين وتفعيل هيئة عليا للعمل الخيري وإحداث مجلس إسلامي أعلى ومجلس أعلى للإفتاء، وإعادة بعث هيئة الأوقاف والأحباس. ولكن اقتراحات أخرى اتجهت نحو نوع من التأطير الديني لبعض مظاهر الحياة العامة ومن ذلك تجريم كلّ اعتداء على المقدّسات الدينية والفصل بين النشاط الديني والنشاط السياسي بصورة تضمن حياد دور العبادة والمساجد والفصل بين الدين والسياسة …
يمتد هذا “الضغط من تحت” إلى ما هو خارج الأطر السياسية الرسمية القائمة على أساس التنظيم المؤقت للسلط العمومية لِيَمَسّ أُطُرًا حزبية وجمعياتية عدّة. حيث دعا رئيس “الجمعية الوسطية للتوعية والإصلاح” مثلا، وهي جمعية غير حكومية “للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، إلى إباحة تعدد الزوجات في تونس . أما بعض التجسيدات الأخرى ففيها حركات من التظاهر والاعتصام وإقامة التظاهرات الدعوية من أجل العمل على الوصول إلى نفس الأهداف التي أعلنتها الجمعيات التي أشرنا إليها مثلا .
خارج المجال الجمعياتي تأسّست عدة أحزاب سلفية على غرار حزب جبهة الإصلاح وحزب الأصالة وحزب الرحمة … ولكن التيار السلفي، ومع الاختلافات داخله ، يشرف على عمل جمعياتي تنشط فيه عشرات الجمعيات في الوعظ والعمل الخيري، وأغلبها منخرط في الجبهة التونسية للجمعيات الإسلامية التي يديرها الشيخ مختار الجبالي . من ناحية أخرى، وعلى المستوى الافتراضي، تتعدد مواقع الجماعات التي تبث مواد تعليمية ودعوية على الفايسبوك واليوتيوب وكذا المواقع الإخبارية التي تبث الأشرطة المصوّرة والخطب والدروس والأناشيد… في سياق ظهور أشكال جديدة للنشاط الدعوي والفقهي والإفتائي تدعى له شخصيات مشرقية ومغربية وخليجية معروفة ، فيما يعتبر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع تونس من أهم دعائمه .
ثانيا: علاقات الحقل الديني بالحقول الأخرى
تدل مختلف هذه المظاهر على أن تغيّر المشهد الديني ليس عفويا أو خارجا عن التوجيه. إنه تندرج في عمل منظم واستراتيجي المدى تقوم به تيارات عَقَدِيّة وعقدية سياسية لا في اتجاه إعادة صياغة المشهد فحسب بل في اتجاه إعادة هيكلة الحقل بأكمله وهو ما يتمّ على أساسيْن اثنيْن هما التَّوْسِيعُ من جهة والتَّنْوِيعُ من جهة أخرى.
ولكنّ ذلك لا يتمّ من دون تغيير لقواعد التعامل في الحقل تَتَبَايَن دَرَجَاتُه حدّةً وعنفًا واتّساعًا في حركة مزدوجة من التشابك والاشتباك. بهذا المعنى يبدو الحقل الديني منفتحا على السياسي في مستوييْن أوّلهما ينعقد حول رهانات غير دينية بما أنها تتمثل في احتلال أكثر ما أمكن من المواقع وثانيهما استغلال المواقع المكتسبة في تحسين ميزان قوى الصّراع. ولا يتم ذلك من دون تنازع بين الحقلين يدور حوّل أحقية توجيه السّياسات الدّينية، وهو ما يمكن أن نلاحظ فيه مستويين.
في المستوى الأول تتكافح استراتيجيتان قُصْوَيَان يتمثّل خطّ الفصل بيْنهما في إجابة سالبة أو موجبة عن سؤال أحقية عَقْدِ ارتباطٍ بين الديني والسياسي. تمثّل الإجابة الموجبة مظلة لتيّار عام من الرؤى والمواقف والممارسات والمواقع يمكن أن نُسَمِّيَهُ التيّار السّياسي الدّيني فيما يتبنّى الإجابة السالبة تيّار عام من الرؤى والمواقف والممارسات والمواقع يمكن أن نسميّه التيّار السّياسي المدني. تتكافح الاستراتيجيتان في منطق إقصائي متبادل. تنطلق استراتيجية التيار السياسي الديني الإقصائية من اعتبار السّياسات الدينية الرسمية التي سادت في تونس منذ إنشاء الدولة ما بعد الاستعمارية (1956) قَوْسًا طارئًا في كيْفيّة صياغة علاقة الحقل الديني بالحقل السياسي. ومهما كان من أمر استفحال ما يسمّيه التيّار “التيّار الفرَنْكُفُوني المتغرِّب” واستظلاله بسياسات التحديث القسرية والفوقية المدولنة التي اتبعتها الدولة في طوريها البورقيبي والبنعلي، فإن إسكاته ممكن على طريق استئناف “مسيرة التّوحيد ونُصْرَة الشّريعة”. يُمكن وضع ذلك تحت عنوان استراتيجية “التَّخْرِيس والاستئْناف” التي تقابلها من الأقصى إلى الأقصى استراتيجية “التّرسيخ والاستثناء”. يتّبع هذه الاستراتيجية التيّار السياسيّ المدني الذي يعتبر أنّ مسار التّحديث الذي مضت فيه الدولة حقق من المكاسب ما لا يجعل صبغته الكليانية وغير الديمقراطية المدولنة تحجب منافعه المجتمعية العامة. ويستوجب ذلك عَمَلاً على ترسيخ تلك المكاسب واستثناء قوى “الردّة” المجتمعية من هذا المسار بمعنى منعها من الإضرار به.
يمكن بطبيعة الحال تصوير تقارع الاستراتيجيتين على أنّه مواجهة شموليات متماثلة في عمقها الاجتماعي وأن اختلفت شكلا ولكن الصورة أعقد بكثير، ذلك أن مستوى ثانيا في الصّراع يدور حول أحقية توجيه السياسات الدينية. في هذا المستوى تتواجه استراتيجيتان فرعيتان داخل استراتيجية التيّار السّياسي الدّيني. يمكن وضع الاستراتيجية الفرعية الأولى تحت عنوان تديين المدينة في مقابل استراتيجية فرعية ثانية يمكن وضعها تحت عنوان تمدين الدّين. لا يخفى أن الاستراتيجية الثانية هي جوهر السّلوك السّياسي كما يعلن عنه رسميا حزب النهضة مثلا مَعْضوُدًا بتنظيرات تراوح ما بين كتابات الشيخ راشد الغنوشي واجتهادات أبي يعرب المرزوقي الفيلسوف المستشار وموافقات أنشطة مراكز من قبيل مركز دراسات الإسلام والديمقراطية (مداد) أو ما تطرحه “رابطة تونس للثقافة والتعدد” وإن كان من موقع مختلف يحاول أن يرث مكاسب ما عرف باليسار الإسلامي ممثلا في تجربة منتدى الجاحظ مثلا . ولكن بعض الأصوات التي تصدر من المحيط الدعوي لحزب النهضة تدلّ على أن المعركة الفكرية ضد التيار السلفي لا تقل أهمية عن المعركة التي “يجب” أن تخاض بالتّوازي ضد التيار العلماني . ردّا على ذلك تنعقد الاستراتيجية المقابلة تحت لواء الشعار التعبوي العام “تونس أرض دعوة” .
يتقابل في هذه المواجهة رأسا مال مختلفان بُنْيَةً وحَجْمًا. رأس مال اتجاه تمدين الدّين فَهْمٌ للإسلام ينعت نفسه بأنّه “مقاصدي”، في حين يتمثّل رأس مال اتجاه تديين المدينة في تجديد عهد الإسلام ونشره باعتماد نقاوة طهورية لا تطلب “إلا أن يُخَلّى بيْنها وبيْن النّاس” إلخ… تتواجه الإستراتيجيتان على قاعدة الاشتراك في الاعتقاد بوجود خطر على الإسلام ولكنهما تتقابلان في كيفية الرد عليه : يجيب اتجاه تديين المدينة على الاستنزاف الإيديولوجي الذي يمارسه ضده التيار السياسي المدني بالقول بتأصيل الديمقراطية والحداثة في تجربة المسلمين الاجتماعية والسياسية وبترشيد اتجاه تديين المدينة اعتقادا وقوْلا وممارسةً . أما الآخرون فيجيبون بالنّبْذ التّكْفيري للتيّار السّياسي المَدَني من جهة وبالعمل على إقامة الحجّة على “لا إسلامية” طرح النهضة عبر نوع من التَّعْزِير العَقَدِي . وفي هذا السّياق يبدو تأسيس الأحزاب والجمعيات وحتى النقابات السّلفية جُزْءًا من التّكتيك الجِهَادِيّ الجَدِيد الذي يقتنص مناخ انفتاح إمكانيات العمل في بلد ضعفت فيه قبضة السلطة ومالت فيه أَزِمَّةُ أمور الحكم جزئيًا إلى إسلاميين (وهو مثال متكرّر في ليبيا ومالي والمغرب ومصر، دون التغاضي عن الاختلافات) لتأسيس قوّة سياسية قطرية تنسّق، في انتظار حالات أفضل، مع مكونات الطيْف السّياسي الإسلامي حسب قاعدة الأقرب فالقريب فالصّديق وصولا إلى غَيْر المُعَادِي .
ولأنّ استراتيجية تديين المدينة تمسّ بالكثير من مظاهر الحياة الاجتماعيّة العامّة فإنّ فاعلي الحقل الدّينيَّ و”الجدد” منهم خاصة باتوا ينازعون بشدة أكبر أحقّية تحديد شكل علاقة الدين بالمجتمع. يتجسّد بعض ذلك في ترويج ممارسات مظهرية عمومية (ألبسة، زينة، متمّمات، موضة، عطور، …) وتصرّف معيّن في الفضاء الاجتماعي العام (صلاة العيد في الساحات العامة وعلى الشواطئ وفي الملاعب الرياضية، نصب الخيمات الدعوية في الشوارع، انتصاب دعوي-تجاري في فضاءات لاشكلية مثل بطاح الأسواق الأسبوعية، مهاجمة المواخير والحانات، و”معالجة” بيع الخمور واستهلاكها في الفضاءات العامة والخاصة بطرق عنيفة وغير عنيفة ،إعادة تنظيم استغلال الفضاءات العامة مثل المطاعم الجامعيّة على قاعدة الفصل بين الجنسين…). يبدو المظهر الأبرز لفضاءات الممارسات الاجتماعية المشتركة في صياغاتها الجديدة ذا منحى سلوكي كما يوجد أبرز ما يعاد تشكيله منها على مشارف الحقل الديني مثلما يلاحظ في تخوم المساجد وخاصة أيام الجمعة. ومن بين ما شمله ذلك “الهجوم” على مقام سيّدي يعقوب في بني زليتن قرب مطماطة، وغلْق مقرّ زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني بمنزل بوزلفة (20 سبتمبر 2012)، والاعتداء على مقر سيدي بوحديبة في الفحص (10 أكتوبر 2012) وعلى زاوية السيدة المنوبية (16 أكتوبر 2012) وما يشتبه في تماثله مع ذلك من احتراق مقام سيد بوسعيد (جانفي 2013).
يضع النزاع بين الحقلين على المحكّ قدرةَ الحقل الديني على تجسيد معاييره الجديدة وقِيَمِهِ الناشئة في سيمياء معيش متديّن يتجاوز مجرد طبع آثار جزئية متناثرة في السلوك العمومي إلى ابتداع للثقافة عينها قوامه مَسْرَحَةٌ جديدة لمجمل الحياة الاجتماعية زمانًا ومكانًا . تتعدد الرساميل الرمزية الموظفة في نزاعات التيار السياسي الديني الداخلية هذه. قبل اندلاع الحركات الاجتماعية في الأقطار العربية، والتي تحول البعض منها إلى ثَوْرَاتِ تَغْيِيرٍ سياسيٍّ، كان ذلك التيار يوظّف من الرّساميل الرّمزية ثلاثةً أوّلها رأس مال المظلومية السياسية، وثانيها رأس مال الموقف الاعتراضي ـ الاحتجاجي وثالثها الرأسمال الأخلاقي ـ الديني الذي يحمله، في نظر الجمهور، بوصفه قوّة متديّنة تقيّة وصادقة، ونظيفة السلوك تجاه حقوق الناس .
اليوم، ليْستْ تَخْفَى المكوّنات الماديّة لما يَجْري من إعادة هيكلة الحقل الديني من مواقعَ ورؤوسِ أموالٍ ومصالحَ ورهاناتٍ. في حوار مع آمال العامري رئيس أول جمعية للمالية الإسلامية بتونس جاء أنّ تأسيسها تمّ في 28 فبراير 2011 بوصفها “أوّل جمعيّة اقتصاديّة تحمل الفكر الإسلامي للمجتمع التونسي في مجال المالية” فيما اعتبرت المتحدثة في استرجاعها لتاريخ محاولات ذلك، أن أهمّ ما في تجربة بنك الزيتونة الإسلامي التي بدأها محمد صخر الماطري “هو اجتذابه أموالًا تونسية وثقت في النظام الإسلامي” وهي تجربة جمعت “مجموعة من المستثمرين المعروفين بقربهم من العائلة الحاكمة سابقًا،… وانطلق مصرف الزيتونة في تقديم خدماته للعموم في ماي 2010 برأسمال قدره 35 مليون دينار… ليصل في شهر أكتوبر 2010 إلى حدود 70 مليون دينار”. ليست استراتيجية أسلمة التصرف المالي المسمّاة “صيْرفة إسلامية” هذه قُطْريّة بل لها امتدادات عربية يدعمها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالفتوى والدعاية والتحريض حيث دعا رئيسه يوسف القرضاوي ما أسماه لتهيئة البيئة التشريعية أمام البنوك الإسلامية المطالبة بدعم اقتصادات “دول الربيع العربي” . لا يبدو التوجه الاقتصادي الاستراتيجي لحركة النهضة الماسكة بزمام التحالف الحاكم بعيدا حيث أعلن نائب وزير الاستثمار لجريدة سعودية ” حزب النهضة منفتح تماما على الاقتصاد الحر بنسبة 100% ولكن الآن أضفنا وأدمجنا آليات الاقتصاد الإسلامى التى لم يكن لها أى فرصة فى عهد بن على وأنا من داعمى آليات الاقتصاد الإسلامى مثل الصكوك والبنوك الإسلامية…” . ومن الآثار التي يمكن أن تعتبر تطبيقا لهذه التوجيهات اعتماد قانون المالية لميزانية الدولة التونسية لسنة 2013، في فصله العاشر، الذي سمح بإصدار صكوك إسلامية داخلية وخارجية يمكن أن تبلغ 1000 مليون دينار لفائدة الدولة والمنشآت والمؤسسات العمومية و الجماعات المحلية ومؤسسات القطاع الخاص ويشمل إصدارات كل هذه الأطراف. و الصكوك المقصودة صكوك استصناع وإجارة ومزارعة ومغارسة ومساقاة وقرض حسن .
ومن ضمن المكوّنات الجديدة للاقتصاد الإسلامي ما يمكن أن نسمِّيَهُ “سوق الأعمال الخيرية”. فمن ضمن برامج “جمعية زهرة الأمل” الخيرية برنامج “كفالة يتيم” الذي حدّدت قيمته السنوية لليتيم الواحد ب 800 د قُسِّمت كالآتي :50 د شهريا ومنحة قيمتها 100 د لكل من عيد الفطر والعودة المدرسية، ويمكن للكافل دفع المبلغ سنويا أو على دفعات شهرية، على امتداد سنة قابلة للتجديد. ليس هذا هو المثال الوحيد إذ ينشر “موقع الإسلام في تونس” إعلانات عن جمعيات خيرية وتنموية لها برامج متنوعة ومنها الأسواق الخيرية . كما أنشأت جمعيات أخرى صفحاتٍ لها على الفايسبوك ومنها جمعية “تونس الخيرية” بفروعها في قفصة وقابس وقبلي وسوسة … وهي تتلقّى تبرّعات من الجالية التونسية بقطر . وقد نشرت الجمعية يوم 15-12-2012 خبرا على الصفحة ورد فيه أنّها أتمّت بنجاح اختتام مشروع توزيع 10.000 حقيبة مدرسية في 217 مدرسة ريفية بأربعة عشر (14) ولاية في حملة حملت شعار “أطفالنا … مستقبلنا” . كما أورد موقع إلكتروني خبرا حول مساهمة منظّمة الإغاثة الإسلامية في تونس في إدارة بعض مكونات مخيّم الشوشة للاجئين الليبيين بتونس يستفاد منه خلافها مع بعض من استخدمتهم حول تعويضات عن إنهاء الخدمة بمقابل “تمتع بها 136 عاملا من 155 عامل طبخ” حسب تصريح المدير…
لا يكون من المبالغة القول في هذا السّياق أن سوقا حقيقية للخيرات الاستهلاكية “الإسلامية” تشكّلت لتيسير تبادل الكتب والمحامل الإلكترونية والمطبوعات والمصنّفات والأشرطة المصوّرة للخُطَب والدّروس والأناشيد والمحتويات الدعوية… ليس يتم ذلك في المكتبات التي غيّر البعض منها “القلم” الذي كان يشتغل فيه ولا في محلات المنتجات الإلكترونية ومعالجتها فحسب بل وكذلك في المدارس والروضات القرآنية والمدارس الإسلامية الخاصة والحملات الدعوية المنظّمة والنّدوات والمؤتمرات المختلفة… ويتصل الكثير من ذلك بشؤون طباعة الإعلانات والدعوات والنقل والاتصال لفائدة لأنصار والمرتادين والدارسين وسائر الجمهور والدعاة…
يقوم القول بنشأة قطاعات اقتصادية “إسلامية” الطابع إذًا على وجود مؤسسات إنتاجية وشبكات داخلية وخارجية للتوزيع والترويج بالتوازي مع وجود مؤسّسات خدمية (تعليم، تمريض، نقل، اتصال…) يمكن أن تخصّص تدريجيا البعض من أعمالها للأعضاء فالأنصار فالأتباع، والبعض الآخر للنساء منهم… كما يبدو “الاقتصاد الإسلامي” الناشئ متساوقا مع وجهات اقتصادية جديدة منها “تركيا الإسلامية” و”الخليج الإسلامي” وقطر… بما يفترضه ذلك من وكالات جديدة في مجالات السياحة والنقل وصولا إلى سوق الأعمال الخيرية. ومن دون خشية خطر المبالغة يمكن القول أنه يمكن لبعض الشبكات التي تيسّرُ إقامَتها وسائطُ الاتّصال الجديدة وتراخي أيادي السلطات العاجزة أو المخْتَرَقَةِ أن تتكفل بما يمكن تسميته سُوقًا “للجهاد”.
إن مدار هذا التغير في الحقل الاقتصادي منظورا إليه من زاوية ما نحن فيه هو بناء قواعد جديدة للتداخل بين الحقلين الديني والاقتصادي. وفي هذا السياق تتم صباغة العلاقة الجديدة بين الحقلين في اتجاهين متوازيين: محاولة رجال ونساء أعمال اختراق مجالات الاستثمار التي كانت قبلُ واقعة تحت هيمنة حكومية وعائلية فاسدة وغير تنافسية من جهة، ومن دهة أخرى مواصلة البعض الآخر الاستفادة من مواقعه الراسخة مع تبديل الولاء السياسي نحو وجهة إسلامية. وعلى ذلك تكمن النقطة النزاعية في صياغة الرّبط بين القيم الماديّة والقيم الروحيّة.
وفي نفس سياق مراوحة اشتغاله بين القيم المادية والقيم الروحية يشهد الحقل الديني تماسا عالي التوتر مع الحقل الثقافي. فبعد أن تمّ في مارس 2011 الاعتداء على فنانين في احتفال فني في الشارع كانت مهاجمة مهاجمة قاعة السينما «أفريكارت» بعد عرض نادية الفاني شريطها «لا ربي ..لا سيدي» (جوان 2011) ثم كانت حادثة قناة «نسمة» على إثر عرض شريط فيلم كرتوني إيراني (أكتوبر 2011) ومهاجمة قاعة العبدلية (جوان 2012) . تندرج بعض مظاهر ذلك في استراتيجيا تديين المدينة لأن إعادة صياغة الحقل الديني تستوجب بالضرورة إعادة تحديد موقع الفنّ من المجتمع. تنشأ عن ذلك بالضرورة تعارضات مع ما في الحقل الفنّي من اتّجاهات ومواقع ومصالح ورؤى واستراتيجيات. ولكن ذلك يشير خاصّة إلى ما هو أعمق حيث يتنازع الحقل الديني مع الحقل الثقافي والإبداعي منه خاصة أحقّية إنتاج القيم الروحية-الرمزية وترويجها.
يجد الحقل الثقافي نفسه بفعل ذلك في حال صراع مع قيم إبداعية جديدة في مستوى الإنتاج ومع قيم تذوّقية جديدة في مستوى الاستقبال بما أن شروطهما الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والدينية… بصدد التغيّر. وبالفعل ففي يوم 06-08-2012 أعلن مسؤول مهرجان قبلاط مثلا إلغاء بقية العروض وخاصة بعد منع عرض مسرحية هزلية في منزل بورقيبة قبل ذلك بأيام، وفي 07-08-2012 منعت فرقة محراب الإيرانية من العرض في مهرجان الموسيقى الدينية والصوفية بالقيروان كما مُنع استكمال تظاهرات مهرجان سجنان “لعدم تناسبه مع أجواء رمضان” (25 جويلية 2012) .
خاتمة
منذ منتهى سنة 2010، وعلى مرّ سنتي 2011 و2012، تعقّدت أكثر فأكثر نزاعات الحقل الديني الداخلية وتشابكت مع توتر علاقاته مع الحقول الاجتماعية الآخرى ذات المساس الأعمق به. على أساس ما رصدنا من ملامحه، بدا الحقل ذا خصائص خمس كبرى أولها أنه في حالة إعادة هيكلة، وثانيها أنّه متعدد الأقطاب وثالثها أنه منفتح على احتمالات عدة ورابعها أنه مُفْرَط التسييس وخامسها أنه ضعيف المناعة الخارجية. وعلى هذا، فهو يبدو لنا حقلا عالي السيولة متعدد المخاطر وكثير مناطق اللاّيقين. ولذلك يمكن لإعادة بناء الحقل الديني والمشهد الإسلامي في القلب منه أن تظل بالغة التأثر بمناخ التشابك والتنوع في ما يسمّى الصحوة الإسلامية بحيث تنفتح على مآلات هي أقرب إلى الترميق منها إلى الغلبة الحاسمة. يظهر في طيات ذلك نوع من فردنة الإسلام وتعويمه في اليومي وقابليته للاختراق اقتصاديا (تبرجز إسلاميين وتأسلم برجوازيين) واجتماعيا (أسلمة المظهر العام للحياة من دون المساس بأسس الاقتصاد الليبرالي المُعَوْلَم) وسياسيا (تشظّي الطّيْف السياسي الإسلامي) وعَقَدِيّا (تكاثر المدارس الفكرية) ومذهبيا (سنة، شيعة، أباضية)…
ليس من مَخْرَج من كل هذا التّشابك إلا فعل الزمن ذاته وتدافع الاستراتيجيات داخل الحقل وخارجه. ربما كان من الممكن، فحسب، حسم النزاعات حسب منطق محلي (حسب نظرية الكوارث أو الحوادث الخارقة لروني توم René THOM ) إِذَا ما أمكنت العودة بالمسجد إلى مركزيّة صُنْعِهِ للمشهد الديني الإسلامي وإلى مركزيّة مُرتاديه في رسم سياسات تدبّرية له تضع لها أهدافا خارج منطق التقابل بين تديين المدينة وتمدين الدين.
* باحث وأكاديمي من تونس