كرة القدم في الظل والشمس.. الجنون والأضواء والتاريخ!



*عهد فاضل
عندما انتهى “إدواردو غاليانو”، في صيف 1995، من كتابه الشهير “كرة القدم بين الظل والشمس”، في مونتيفيديو، عاصمة بلاده الأوروغواي، كان قد تخلص من الحيرة التي وقع فيها طويلاً، بخصوص تاريخ وخصوصية كرة القدم. فغاليانو، من جهة، كاتب وباحث وصحافي، لم يكن له أي باع في لعب كرة القدم، ومن جهة فهو يحمل روح القارة اللاتينية التي تتعلق بتلك اللعبة تعلقًا جنونيًّا أشار إليه في كتابه عندما قال ساخرًا: “كنتُ ألعب جيدًا، كنت رائعًا، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي، أما في النهار: فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب بلادي”. إلا أن “غاليانو”، وبعد أن اتخذ قراره الصعب، بمنح تلك اللعبة ما تستحقه من تغطية تاريخية تجسد عادات وتقاليد الشعوب وجذورها الضاربة في تلك اللعبة، ينتهي إلى القول إنه ألَّف كتابه تكريمًا: “لكرة القدم واحتفاءً بأضوائها”.

لو فزتم ستموتون !

وعلى الرغم من أن “غاليانو” لم يؤلف كتابًا متخصصًا بكرة القدم، من الناحية الفنية، إلا أنه ألَّف كتابًا يحيط بتلك اللعبة من جوانب مختلفة، أهمها السياق السياسي العام الذي ولدت فيه المونديالات التي غطاها من أول الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى منتصف التسعينيات. وهكذا لم يغفل المؤلف ارتباط تلك اللعبة، سواء بالسلطات المتعاقبة، أو بالجنرالات والجيوش، الذين كانوا يعتبرون خسارة المباراة خسارة في الحرب، فيشير في هذا السياق إلى فاجعة لا سابق لها في تاريخ الرياضة، حيث قام الجيش الألماني النازي، بإعدام كامل الفريق الأوكراني؛ لأن الأخير تفوَّق على الفريق النازي، بعد أن حذَّره النازيون بقولهم: “لو فزتم ستموتون”!

وبغض النظر عن التاريخ المصنف الذي ألم به “غاليانو”، لجهة تنظيم المونديالات وتاريخها والطرائف التي علقت بها، وأهم الأسماء الرياضية التي أفرزها كل مونديال، فإن كتاب “غاليانو”، الذي قام بنقله إلى العربية المترجم المتمكّن صالح علماني، قدم عرضًا تاريخيًّا لصناعة واستعمال تلك المسماة “كرة”، وكذلك قدم موجزا ممتعا عبارة عن تعريفاته الخاصة بطاقم الفريق والحكام وطرائف المشجعين. فيذكر أن كرة الصينيين القدماء كانت مصنوعة من الجلد ومحشوة بالقنب. أما المصريون أيام الفراعنة فصنعوها من القش أو من قشور الحبوب. إلا أن الإغريق والرومان كانت لهم طريقة خاصة بصناعة كرة القدم، التي انتهت عندهم عبارة عن مثانة جاموس منفوخة ومخيطة.

ويشير “غاليانو” في سياق تاريخية صناعة كرة القدم، إلى الأمريكي الشمالي “تشارلز غوديير”، كصاحب إنجاز الكرة المطاطية القابلة للنفخ بمنفاخ، إلا أن هناك ثلاثيًا شهيرًا، وجميعهم أرجنتينيون، “توسوليني وبالبونسي، وبولو”، فهم من اخترعوا الإطار الداخلي للكرة ومزودة بصمام. ويعلق “غاليانو” أهمية بالغة على هذا الاختراع بقوله: “منذ مونديال 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى الذي كان يتسببه الرباط المستخدم سابقًا في ربط الكرة”.

جنون اسمه كرة القدم!

في إشارة إلى مدى تأثير كرة القدم بالجماهير، ينقل “غاليانو” أنه في عام 1994 أطلق اسم اللاعب الشهير “روماريو”، على كل الأطفال الذين ولدوا في هذا العام! تيمنًا باللاعب الساحر الذي أمتع أبناء جلدته بأهدافه وخداعه للخصم، ولم يتوقف الأمر عن حد التيمن بالاسم، بل وصل حد بيع عشب الإستاد الذي شهد مبارياته “في قطع صغيرة مثل البيتزا، بعشرين دولارًا للقطعة”! وكذلك، ومن ثقافة مختلفة، قاريًّا واجتماعيًّا، فينقل عن البريطانيين قولهم: “كرة القدم ليست قضية حياة أو موت، هي أكبر من ذلك بكثير”! وفي هذا السياق، يخصص “غاليانو” قسمًا للمتعصبين لكرة القدم، سواء التعصب للأندية، أو التعصب للفريق الأول لبلادهم، فيصف المتعصب بأنه: “هو المشجع في مستشفى المجانين”. فالمتعصب المتوتر والهائج: “ينظر إلى المباراة وهو في حالة الصّرع تلك”! والمتعصب لا تتحقق لديه المتعة كونه فاز على خصمه، وإنما: “في هزيمته للفريق الآخر”.. ومن هذا التعصب، تأتي النظرة الدونية إلى حكم المباراة: “فعمله يتلخص في جعل الآخرين يكرهونه، الجميع يكرهونه، ويصفرون له على الدوام، ولا يصفقون له أبدًا”.
وفي نفس ساخر توزع على مجمل تفاصيل الكتاب، يضيف “غاليانو” أوصافًا تتعلق بحركة الحكم في الملعب، فهو: “لا أحد يركض أكثر منه، مقصوم الظهر كالحصان. منذ بداية كل مباراة وحتى نهايتها يتعرق الحكم بغزارة، فهو مضطر إلى ملاحقة الكرة التي تذهب وتجيء بين أقدام الآخرين”.. ونظرًا إلى الوضعية الصعبة التي تتحكم بالحكم لجهة إصداره أحكامًا تودي بفريق وتنصر فريقًا، “فالمهزومون يخسرون بسببه، والفائزون يربحون رغمًا عنه”. وهكذا يكمل “غاليانو” مشوار سخريته باعتبار أن اللون الأسود الذي كان يرتديه الحكام هو حداد على أنفسهم!

شيخ في الثلاثين من عمره!

يتأثر “غاليانو”، في الأساس، من نظرته السياسية اليسارية إلى العالم، ومنها نظرته إلى كرة القدم، فيصف اللاعب بأنه قابل للبيع والشراء والاستئجار. وأن اللاعب “يخضع لانضباط عسكري صارم، ويخضع لقصف المسكّنات وتسلل الكورتزون”. ونظرًا إلى أن جميع المهن الأخرى في العالم، تسمح لمزاولها بالاستمرار في عمله حتى يبلغ الشيب رأسه، فإن كرة القدم تحرم اللاعب من هذه المزاولة؛ لأن عمر الشيخوخة لديه يبدأ وهو في الثلاثين من عمره. إلا أن هذا التوصيف لا ينطبق على حارس المرمى، فهو “محكوم عليه بمشاهدته المباراة من بعيد. ينتظر وحيدًا إعدامه بالرصاص بين العوارض الثلاث”.

كما ينقل “غاليانو”، أنه في التاريخ القديم لتلك اللعبة، وبسبب طول وضخامة مساحة الملعب، وقتذاك، فإن حارس المرمى وبعض المدافعين، كانوا ينتظرون قرب العوارض يدخنون السيجار والحشيشة، ويسلون أنفسهم بتفاصيل من خارج المباراة ذاتها! ويضيف مكملاً سخريته في وصف اللاعبين، بأن حارس كرة القدم “هو الأول في دفع الثمن، حتى لو لم يكـن مـذنبًا؛

فعندما يقترف أي لاعب خطأً يستوجب ضربة جزاء، يتحمل هو العقوبة: يتركونه هناك وحيدًا أمام جلاّده”..

كتاب “غاليانو”، ورغم أن صدوره كان في تسعينات القرن الماضي، إلا أنه لا يزال يحتفظ بألقه وأهميته التاريخية بالنسبة لهذه الرياضة، سواء لجهة التاريخ، أو لمحتواها الاجتماعي وأهميتها التي لم يكن يراها المثقفون -على حد قوله- تستحقها. وهو بتأليفه لهذا الكتاب، جامعًا ما بين لغة الباحث، ولغة الكاتب التي تظهر فيها سخرية شفافة- قد أتم مهمته التي أفصح عنها بأنها لتقديم احترام لتلك اللعبة، ولجمهورها، الذي -ولا شك- سيبادله ذلك الاحترام بمثله؛ لأمانته وطرافته ودقته التاريخية التي أحاطت باللعبة، من أيام الفراعنة إلى نهايات القرن العشرين.
______
*مجلة المجلة

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *