تجدد النقد الأرسطوطاليسي



*سمية الحاج

على الرغم من أن أرسطوطاليس – المعلّم الأول – (384-322 ق.م) لم يُرد من كتابه «فن الشعر» إنشاء مدرسة نقدية، بقدر ما كان يسعى إلى تدوين ملاحظات على الأدب الإغريقي، إلّا أن تلك الملاحظات أصبحت أساساً متيناً للنظرية الأدبية فيما بعد. 
وهذا ما دفع بعض النقاد إلى إعادة إحياء النقد الأرسطوطاليسي؛ لمرونة تطبيقه على الأدب، أما أبرز هؤلاء النقاد، فقد كانوا من مدرسة شيكاغو، أو ما عرف باسم الأرسطوطاليسية الحديثة Neo- Aristotalianism والتي ازدهرت بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ولم تنشأ هذه المدرسة، إلا لاعتقاد روّادها بعالمية النظرية الأرسطوطاليسية، وأهمية المصطلحات التي قّدمها صاحبها للأدب، كالمحاكاة Mimesis، والتطهير Catharsis ، علاوةً على أن أرسطوطاليس كان طلائعياً في تقديم نقد مبنيٍ على الجنس الأدبي Genre Criticism ، الذي برز كنوعٍ نقدي في القرن العشرين، حيثُ ركز أرسطوطاليس على المسرحية التراجيدية. 
لم يزعم أرسطوطاليس أنه ناقدٌ أدبي، ومع هذا يُعتبرُ كِتابه الذي جمعه أتباعه «المشّاؤون- «Peripatetic من مجموعة ملاحظاته، أطروحةً نقديةً مبكرة، لهذا عُرَف النقد الأرسطوطاليسي بمنهج «ما قبل النقد» Pre-critical Approach. إذ أدرك نقاد مدرسة شيكاغو أنه من الصعب تحاشي منهج أرسطوطاليس في أي نقدٍ أدبي؛ لذا كان إحياء منهجه مبنياً على الحاجة إلى نقدٍ شامل، يشكل انسجاماً بين الكاتب، والنص، والقارئ أو الجمهور، وذاك كردّة فعل على النقد التقليدي أولاً؛ الذي يركز على الكاتب، والنقد البنيوي والشكلاني ثانياً، الذي يصب جل اهتمامه على النص فحسب. 
وبالرغم من أن بريق مدرسة شيكاغو انطفأ في ستينات القرن العشرين، إلا أنه مهّد الطريق للنقد الحداثي، وما بعد الحداثي، الذي يُعير اهتماماً للقرّاء، فيخلق بالتالي معانٍ متعددة لا تنشأ فقط تزامناً مع النص، بل تحمل في طياتها دلالات متأخرة، ومكنونات مؤجلة، قد تُشكّل وعياً مختلفاً مع مرور الزمان، واختلاف المكان، وهذا ما يعرّفه جاك دريدا Jacque Derrida بِـ Différance ، وهو مصطلح ذو أهمية بالغة في النقد ما بعد الحداثي.
يزعم نقاد المدرسة الأرسطوطاليسية الحديثة عدم إمكانية الإحاطة بالعمل الأدبي دون الرجوع إلى أرسطوطاليس، وليس بالضرورة أن يكون هذا الرجوع مباشراً. 
يكون القارئ أرسطوطاليسياً حين يُميز بين جنس أدبي وآخر، وعندما يتساءل إن كان ويلي لومان بطل مسرحية آرثر ميلر بطلاً تراجيدياً، ويؤكد في الوقت ذاته تراجيدية أهاب بطل رواية هيرمان ملفيل موبي ديك ، أو عندما يُركز القارئ على الحبكة أكثر من الشخصيات والبيان اللغوي، أو عندما يؤمن بدور الأدب في محاكاة الواقع. (غرين 261).
وهذا يعني دوراً تفاعلياً للقارئ الذي يبدأ بوضع توقعاته عن النص من خلال الجنس الأدبي، فحين يشرع القارئ في قراءة مسرحية تراجيدية إغريقية مثلاً، فهو يعلم يقيناً أن البطل سيَقضي في النهاية، فذاك هو العرف في التراجيديا الإغريقية، ولكن هذه المعرفة لا تُفسد متعة القراءة، لأن انسجام الحبكة واتساقها هو ما يصيب القارئ بالشوق للوصول إلى نهاية العمل. قد لا ينطبق هذا تماماً على أدب ما بعد- بعد الحداثة Post- Postmodernism الذي بدأ بعد تسعينات القرن العشرين، لأن أهمية الجنس الأدبي قد تلاشت لصالح النص Text ، فتداخلت الأجناس الأدبية بفضل الرواية التي استطاعت امتصاص باقي الأجناس لمرونتها. ومع ذلك، يبقى منهج أرسطوطاليس صالحاً لما أعطاه من امتيازات للنص الأدبي الذي اعتبره كياناً متناسقاً وصنعةً متينة. فعند قراءة رواية النداء للسلعة رقم 49 لتوماس بنتشون 1966، مثلاً، وهي رواية ما بعد حداثية، يغوص القارئ في مجموعة الأنماط، والرموز، لمحاولة تشكيل المعنى الغائب في الرواية نفسها، وتنتهي الرواية نهاية مفتوحةً لا تلبي فضول القارئ الذي ينتظر كشف سر السلعة في المزاد العلني في المشهد الأخير من الرواية، ولكن النهاية لا تُبدّد ذاك الغموض. 
متعة قراءة الرواية إذاً لا تكمن في حدث النهاية فحسب سواءً في التراجيديا الإغريقية أو في الرواية ما بعد الحداثية، بل تكمن في التآلف الذي تُنتجه لغة النص، فيتفاعل القارئ، وينشأ من هذا التفاعل ما وصفه أرسطوطاليس بالتطهير Catharsis، وهي حالة القبول التي تكتنف القارئ بعد الانتهاء من القراءة؛ فيشعر قارئ مسرحية شكسبير مكبث مثلاً بالرضى بعد انتهاء المسرحية بالرغم من موت البطل وزوجته، كما يشعر قارئ مسرحية ساميويل بيكيت في انتظار غودو بنفس الشعور بالرغم من عبثية انتظار فلاديمير واستراغون، فالنهاية وحدها لا تُشكل روح العمل الأدبي، بل تحيا هذه الروح في نسج الحبكة وفك النسيج بطريقة متناسقة محاكية الواقع. 
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح المحاكاة Mimesis عند أرسطوطاليس هو مصطلح معقد لا يعني مجرد انعكاسٍ للعالم الخارجي كما زعم أفلاطون، ولا نسخة مطابقة replica عن الواقع كما اعتقد الواقعيون في القرن التاسع عشر. يقول بوتولسكي أن «المحاكاة عند أرسطوطاليس لا تسعى إلى إنتاج جديد للعالم كما هو، بل تُكافئُ طريقتنا الطبيعية في معرفة العالم» (97). فهي إذاً تحاكي اللاوعي الجمعي دون الخلط بين ما هو حقيقي تاريخي، وما هو فني يمتلك واقعيته الخاصة، فالمحاكاة الأدبية تُوازي الواقع ولا تساويه، لأنها تقدّم واقعاً مشابهاً بدلاً من أن تُمثل الواقع المادي كما هو. وهذا ما يجعل المحاكاة عند أرسطوطاليس «معرفية أكثر من كونها مادية»، جوهرها عصارة التجربة الإنسانية الّتي هي محور آداب العالم (بوتولسكي 97).
وبناءً على ذلك، لا يمكن القول أن النقد الأرسطوطاليسي أصبح مهملاً في عصر ما بعد- بعد الحداثة الذي نعيشه الآن، بل هو نقدٌ متجدد ليس لكونه أساساً للنقد الأدبي فحسب، بل بفضل مصطلحاته النقدية المُراوغة ذات الأفق الرحب، والتي يمكن إعادة صياغتها، وتكوين فهمٍ جديد لها يتناسب والأدب المعاصر. 
___________
المراجع:


Guerin, Wilfred L. et al. eds. A Handbook of Critical Approaches to Literature. 3d

ed. Oxford: Oxford UP, 1992.


Potolsky, Matthew. Mimesis. New York & London: Routledge Taylor & Francis

Group, 2006.

*كاتبة أردنية/ القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *