زياد الخزاعي*
شرح المخرج البريطاني أندرو هولم مسوّغاته في مقاربة ظاهرة «الإسلاموفوبيا» ونصلها البتّار، المعلّق على رقبة مجتمع ديناميكي ومرفّه. لا يخفي عنصريته وتنمّره من غريب آسيوي «مُشيطن وطائفي» في باكورته «ثلج في الجنّة» («نظرة ما»، الدورة الـ67 لمهرجان «كانّ»، 13 ـ 24 أيار 2014)، فكتب أن «الإسلام دين وافد، تحامل عليه عديدون وذمّوه، بيد أنه ثبّت كجاذب لمهمّشين ومَنْ لا صوت لهم في مجتمعنا. لتكون رحلة الشاب ديف (بطل الفيلم) فريدة من نوعها تماماً، كونها تضيء معضلة أوروبية بشأن الإسلام». يغمز كلام هولم إلى أن ذلك النصل ولّد جيلاً من عصابيي سُحن ومتعصبيّ ديانات. كان لا بُدّ من وجود حَميّة سينمائية ما تغامر في مقاربة مأزق مديني عصيّ ذي وجهين: أوّله سلطوي مرتبط بفزع من دوغما دولة إسلامية وشرائعها، وثانيه سوسيولوجي مرتهن إلى خشية من كهنوتية إنطوائية تُعمّم ظلاميّة وتهدّد مدنية مملكة وعلمانيتها. كافح رعيتها عهوداً ضد رجعية عصور وسطى، وجرائم رهبنتها. يأتي نص هولم ـ على عثراته الإيديولوجية ـ بمثابة سطوع رؤيوي لمكانة الهداية الذاتية وسط خراب مجتمعيّ، وعنف منظّم، ودموية متوارثة.
تَرَسّم «ثلج في الجنّة» عالماً شديد التباين لشاب أبيض وُلد في الناحية الشرقية للندن «إيست أند»، المغرقة بفقرها واكتظاظها بعائلات من يهود «أشكناز» وإيرلنديين، قبل أن يصيبها انقلاب عرقيّ آسيوي اجتاح أحياءها وزواريبها مفتتح الخمسينيات الماضية، مُزيحاً غالبية ممَنْ كانوا يُسمّون بـ«كوكنيّ» الحارات. ترعرع ديف (فريديرك شميدت) وسط كيان اجتماعي ممهور ببياض جلد مُقيميه، ومحتدهم الأنغلوساكسوني القحّ ولهجتهم الخاصة. بيد أن ما تغيّر بالنسبة إلى أقرانه الحداثيين أنهم «صادقوا وعاشروا وتربّوا» مع أحفاد بنغاليين، هم شركاء في الأرض والقدر. يرث ديف الجريمة من وسطه العائلي، بينما يعتصم صديق صباه طارق (أيمن حمدوشي) بوازعه الديني، وأعراف خوفه من الخطيئة وخيانة العهد. في المشهد الافتتاحي، يصرخ الأول وهما يراقبان أثرياء مطعم شهير عند ضفة نهر «تايمز»: «أنظر. إنهم لا يشبهوننا يا أخي». يغمز الثاني بصلافة: «ولا نحن أيضاً. أليس كذلك؟».
وجد هولم، المحصّن بخبرة مونتاج مرموقة، في هذه الثيمة التقليدية، مقايسة سينمائية ملائمة بين عقلية ابتزازية بلا مشاعر، وأخرى ترتكز على مبدأ «السُّور العرقي» المدعوم بالأصول والسنّة. ديف صنيعة فتوّة عريقة لكيان عنفي وتحكمي، لكن ضميره لم يوأد. فيما يصبح طارق، مع خفّة شخصيته التي تصل إلى حدود البلاهة، أضحية لـ«شهادة» واجبة تمهّد السبيل إلى مواطن إنكليزي نحو السَدَاد إلى قلب ثقافة الإسلام الوافد وشعائره. إنها حكاية حقيقية لمارتن أسكيو، كتبها كأمثولة لانعتاقه من تركة بشعة لوسط إجرامي نشأ، قبل اعتناقه الإسلام، بين تصفياته وخياناته ورذائله، وكان من طرائدها طارق، ما دفع به إلى البحث عن قصاص شخصي. حين اختفى البنغالي إثر مشاركتهما معاً في صفقة مخدرات ملتبسة، يُجبر ديف على دخول مسجد شارع «بريك لين» بحثاً عن دليل يقوده إلى مصير الغائب. لكن نورانية الدين تدلّه على تهيّب وتأن وعمل تطوّعي، بديلاً عن تكليفات قتل وسفك دم.
هذا نص عن عصابات استفاد من عناصر تشويقه، ولمعان مطارداته، وتشخيصاته النمطية لنماذج بلا ذمم. اللافت للانتباه في «ثلج في الجنّة» كامنٌ في تبصّره في مقاربة دين يتعرّض لحملات منظّمة تهدف إلى «أبلسة» مؤمنيه، بانياً سعيه على عقلنة صورة مسلمين يعيشون ضمن اشتراطات قانون وضعي صارم، ويتحزّبون إلى جدران جوامعهم، وأمان عقيدتهم. هي صورة نادرة في السينما الأوروبية اليوم.
– السفير