*هشام البستاني
لم يخطر ببال الآباء المؤسسين لرابطة الكتّاب الأردنيين أن المنظمة التي أخرجوها إلى الوجود بهدف أن تكون إطارا لمواجهة الرّقابة والقمع، وللاشتباك مع النظام السياسيّ الذي ولّدهما إبان سنوات الأحكام العرفيّة، ستتحوّل على يد ورثتهم إلى متسوّل على باب السياسة.
لطالما عيّرت رابطة الكتّاب شقيقها غير الشقيق: اتّحاد الكتّاب الأردنيين، بأنه صنيعة النظام وتابعه الأمين؛ لكن من ينظر جيّداً في الأمر، خصوصاً بعد صعود ما يُسمى “تيّار القدس” (وهو اسم يراد له التعمية على الصبغة الأقرب إلى الهويّاتيّة الإقليميّة القُطرية التي يمثّلها التيّار، حيث يمتدّ -بكل أسف- شرخ هويّاتيّ “أردني/فلسطيني” إلى داخل الرابطة وصراعاتها الانتخابيّة أيضاً، رغم ادّعاءات “القومية” و”اليسارية” التي تظل في حدود الشعاراتيّة، ولا تتجاوزها إلا فيما يخدم إدامة الصورة المفبركة) إلى سُدّة قيادة الرابطة، سيجد الأمر معكوساً في الواقع.
فالاتحاد الذي صنعه النظام بعد إغلاق الرابطة في الثمانينات، أيام كانت تُشكّل صداعاً في رأسه، بقي مُهملاً وهامشيّاً حتى على صعيد صناعة “الثقافة” الرسميّة؛ بينما عاينت الرابطة بعد عام 2007 نقلات نوعيّة في علاقتها مع النظام وحدود رعايته لها. فانتقلت من مقرّها التاريخيّ الفقير في جبل اللويبدة (وأجرته تزيد قليلاً عن ثلاثة آلاف دينار) إلى فيلا بطابقين وحديقة واسعة وبركة سباحة في منطقة الشميساني الراقية (تزيد أجرتها عن ثلاثين ألف دينار)، موّلتها السلطة لما يقارب الأعوام الأربعة.
ثم انتقلت الرابطة بعدها (لدرء الفضيحة وإفلاس الرّاعي) إلى شقتين واسعتين في جبل اللويبدة تموّلهما السلطة أيضاً بمبلغ أقلّ؛ ومجلة الرابطة تصدر بدعم سخيّ من وزارة الثقافة؛ ثم أُلحق البرنامج الثقافي لمهرجان جرش بالرابطة، ليتمّ التعامل معه بنفس العقلية التي تُدار بها الرابطة الآن، وتتلخّص في ما يعرفه الجميع عن حجم عضويّة الرابطة البالغ الضخامة، والذي يزيد عن 900 “كاتب”، كثير منهم لا علاقة له بالكتابة لا من قريب ولا من بعيد، بل هو/هي موجود لدواعي الانتخاب والتصويت القطيعيّ.
كاتب بالمحاباة
لئن كانت منظّمات الكُتّاب في أغلب دول العالم لا تحتوي إلا على كُتّاب الأجناس الإبداعية فقط، ويتطلب الانضمام إليها شروطا صعبة من قبيل وجود كتب إبداعية للكاتب صادرة عن دور نشر مُعتبرة؛ فإنّ الانضمام إلى رابطة الكتّاب لا يرتبط بالكتابة ونوعيّتها بل بشروط المزاجيّة والمحسوبيّة والمحاباة والعصبويّة، ويتغيّر بارومتر القبول بحسب الحالة الانتخابيّة وقُرب صاحب الطلب من أو بُعده عن “المجموعة الحاكمة”، وانسجام مواقفه السياسيّة مع مواقف الهيئة القياديّة.
حتى الازدواجيّة لم تعد مُخجلة، بل الثابت والطبيعي، والتشاطر في تبريرها هو المنطق المُتماسك، فمثلاً: صدّع الرئيس السابق للرابطة رؤوسنا بمقولاته عن تبعيّة الزمار لمن يدفع له، لكنّه لم يسحب مقولته إلا على “الإمبريالية”، أما خدمُها فيخرجون من التعريف إذ نراه لا يُمانع بتلقي أُجرة الفيلا إياها من السلطة الأردنية، ثم يحصل (وهو في موقعه رئيساً للهيئة الإدارية للرابطة عام 2010) على منحتها للتفرغ الإبداعي لذلك العام (وقيمتها 15,000 دينار)، دون أن يرفّ له جفن تضارب المبادئ، أو حتى تضارب المصالح بين موقعه وبين صاحب المنحة الماليّة، ثم -وبعد أن ينتهي عهده الميمون لدورتين في رئاسة الرابطة- يصير (بعد اجتماع سريع لصديقه رئيس الرابطة الجديد مع وزير الثقافة الجديد) رئيسا لتحرير المجلة الثقافية التي تُصدرها الوزارة، هذا بعد أن تَفرّغ قبلها “إبداعيّاً” في استراحة سريعة لالتقاط الصور مع بشار الأسد بعد الحج إليه في قصره لدعم جرائمه، وكتابة مقالات لتبريرها وتزيينها.
الزمار والتزمير
بينما صدّع رئيس الرابطة الحاليّ رؤوسنا بمعارضته الراديكاليّة السابقة للنظام، ومقالاته التي لا تُحصى -كسابقه- عن الزمّار والتزمير المرتهن للمموّل، نراه الآن لا يملّ من زياراته المكوكيّة لأركان الحكم، ولا يجد إشكالية في طلب الرعاية الملكية ودعم الديوان الملكي المالي لواحدة من أنشطة الرابطة التي تنطبق عليها نفس المعايير البائسة. وحسناً فعل الديوان -لمرّةٍ- حين نأى بنفسه عن مثل هذا المشهد، ولعلّه اعتبر من المهرجان الشعري الفذّ الذي نظّمته مؤخراً لجنة الشعر في رابطة الكتّاب، وصار مضرب المثل في الرداءة والفوضى والمجاملاتيّة والشخصنة وقلة الاحترام للمبدع والمنتَج الإبداعيّ.
أما في مجال الدفاع عن حريّة الرأي والتعبير (اللبنة الأولى والأهم للكتابة والإبداع) فحدّث ولا حرج: إذ حوّل رئيس الرابطة ذاتُه إحدى عضواتها إلى لجنة تحقيق لتجرّؤها على انتقاده في أمر عام، فيما عمّمت الرابطة على أعضائها ضرورة العودة إلى الهيئة الإدارية للحصول على موافقة مسبقة في حال أراد أحدهم نشر نقد للرابطة أو هيئتها الإدارية!
تُرى ماذا سيفعل “المثقفون” مُؤيدو القتل كارهو النّقد عُرْفِيّو العقل هؤلاء إن استلموا السلطة يوما؟ فاقد الشيء لا يعطيه، والمؤسسة التي تقوم على جملة من الأعراف والآليات المُخزية، ستحمل هذه الأعراف والآليات معها أينما ذهبت. فلا عجب إذن إن تحوّل المشهد الثقافيّ باتجاه المُجاملاتيّة الصّارخة والرّداءة المُكتملة.
مثقف شحاذ
من قال أن رابطة الكتّاب جسم يمثل المبدعين الأردنيين وحالها اليوم هكذا؟ ولماذا تُهدر أموال دافعي الضرائب عليها، وتُخصّ بالامتيازات بينما هي في الواقع تشبه أي بيروقراطية حكوميّة مترهّلة تتحكم بها المحاباة والمحسوبية والعصبويّة والمصالح الصغيرة؟ لماذا لا يُلتفت إلى الأعداد المُعتبرة من الكتاب المُعتبرين الذين أعلنوا استقالاتهم من هذا الجسد المُتهالك المنخور؟ وكيف لا يرى “المسؤولون” أن الكُتّاب الذين يشتغلون على مشاريعهم الإبداعية خارج جدران الرابطة والوزارة، وباستقلاليّة عنهما، هم الأنجح والأبرز والأكثر إنجازاً؟ وكيف تَغْفَل دائرة مكافحة الفساد عن هذا الهدر المالي الذي يُنتزع من جيوب دافعي الضرائب ليَصُبّ مباشرة في تشويه الثقافة والإبداع؟ كيف تَغْفَل عن ملاحظة تكرار الأسماء ذاتها في كل المواقع الثقافية التي يترتّب عليها دفع أموال وبدلات ومكافآت وظهور وتصوير: في هيئات التحرير، ولجان التحكيم، ولجان التقييم، ولجان المدن الثقافية، والمشاركين في فعاليات المدن الثقافية، والمشاركين في الفعاليات الثقافية لمهرجان جرش، والحاصلين على التفرّغ الإبداعيّ، والمُبتعثين للمشاركات الخارجيّة، وغيرها، وغيرها؟
أغلب الظنّ أن السلطة سعيدةٌ بهذه العلاقة، فرحةٌ بـ”مثقّفٍ” تخلّى عن موقعه النقديّ والاشتباكيّ والعضويّ (بالمعنى الغرامشيّ) ليصبح شحّاذاً متفرّغاً مهمته الأساسية استجداء “الدّعم” و”الرّعاية”؛ والحصول على وظيفة وضيعة في الدولة الزبائنيّة/ الريعيّة؛ والإشراف على الدّعاية للأنظمة؛ والحفاظ على مواقعه الانتهازية ومصالحه الصغيرة في وجه “المنافسين”.
وأغلب الظن أن الثقافة المستقلة والإبداع المتمكن لن تقوم لهما قائمة بوجود سلطة تشتغل على رعاية الرداءة وتنميتها، وتوزيع الإكراميّات الثقافية على أصحابها؛ و”مثقّف” ملحق بها يرضع حليبه من ثديها، ويقوم وجودُه على رعايَتِها له، وتمتد تبعيّتهُ لها من أجرة مقرّه، إلى فُتات مكافآت منبر جرش الشعري الذي لا يجلس مُقابله سوى المدرّجات الفارغة.
_______
*قاص من الأردن/ العرب