حين تستيقظ الأغوار في الكتابة


*د زهور كرام

عندما أصدر تودوروف كتابه» الأدب في خطر»(1) سنة 2007، فقد كان يطرح سؤالا جوهريا، حول تمثَل وقراءة وتذوق الأدب اليوم، وذلك من خلال وضعية تدريسه في التعليم، الذي يشكل وجدان الإنسان، ويعمل على تربية حس الذوق والجمال لديه. يعيد تودوروف التفكير في الأدب، وفي الحاجة إليه، و طريقة تذوقه، انسجاما مع دور الأدب الجوهري في تزويد الإنسان بأحاسيس، ومعاني تجعله يدرك وجوده، ويفهم حياته . وهو يقوم بذلك، بالعودة إلى سؤال قراءة النص الأدبي، وكيف يحضر في الدرس التعليمي. 

إنه سؤال يُطرح- باستمرار- مع كل انتقال تاريخي تعرفه البشرية، ويؤثر على مستوى تعبيرها وتفكيرها . وعندما يختار تودوروف الفضاء التعليمي للنظر في وضعية التعاطي مع الأدب، فلأنه يدرك دور التعليم في التربية على صيانة الأدب من العبث. ولهذا، يرى تودوروف أن خطر الأدب، يتمثل في تدرسيه وفق المقاربة الداخلية البنيوية التي تنشغل بسؤال البناء الداخلي للأدب، ولا تخرج إلى سياقات الأدب الخارجية التي منها يستمد الأدب جوهره . بهذا الشكل، يصبح التأمل في ماهية وظيفة الأدب، فرصة لإعادة النظر في تاريخ نظرية تلقي الأدب التي تجدد أسئلتها، وهويتها من خلال الأسئلة الجديدة، تلك التي يقترحها واقع الأدب، أو التي يتم اقتراحها على وضعية الأدب الجديدة. 
ولعل صرخة تودوروف، أو ما تشبه الصرخة المعرفية لإعادة النظر في وضعية الأدب في فهمنا وتمثلنا ومدرستنا، لا تمليها فقط ممارسة تودوروف لدوره الحضاري، باعتباره ناقدا مسؤولا عن تتبع مسار الأدب في علاقته بسؤال التلقي، وهذا شيء يُحسب لصالح تودوروف الذي يقوم بالنقد الذاتي لأفكاره النقدية، واضعا في الاعتبار سؤال الأدب أولا، قبل سؤال النقد، أو بتعبير آخر، جاعلا من الوفاء لسؤال الأدب، وفاء فلسفيا لسؤال النقد الذي حين يغيب عنه النقد الذاتي، فإنه يتحوَل إلى سلطة قاتلة لجوهر الأدب، إن هذه الصرخة لا تمليها فقط هذه الاعتبارات، إنما يدعو إليها أيضا، واقع مجموعة من المفاهيم في المنظومة الفكرية والحياتية للإنسان، والتي بدأت تفقد حضورها في الوجدان، مثل الجمال والذوق والسلم والقيم والبعد الفلسفي للوجود، وغير ذلك من المعاني التي تولَد لدى الإنسان إدراكا وجوديا، خاصة مع التحولات السياسية، والصراعات الحضارية التي تمر منها البشرية اليوم، وتترك أثرها على وجدان الإنسان. 
«الأدب في خطر» سؤال يبدأ من المدرسة مرورا بالمؤسسة النقدية، وصولا إلى وجدان الإنسان اليوم. وما ذلك، إلاَ لأن الأدب لا يكتب الظاهر، والسطحي، والمباشر، وإنما يحفر أغوار اللغة و الذات والعالم، وينحت المعنى الوجودي الذي يظل محور انشغال الفن والأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية، حتى لا يوثَق الإنسان عبوره اللامرئي تاريخيا. 
العالم الإبداعي مخلوق لغوي. صناعة تدبير لغوي. والتدبير صناعة السفر في المعرفة والتاريخ والفلسفة . لكن، ليس كل سفر في المعرفة، ينتج التدبير والصناعة الخلاَقة. إنما السفر المنحوت بليل العزلة، والإيمان بشساعة الآخر كما يقول صاحب «العشاء السفلي» الكاتب والمترجم المغربي «محمد الشركي» الذي يحقق نصه «العشاء السفلي» تجربة أدبية متميزة في السفر في المعرفة، وفي تدبير هذا السفر نحتا في أغوار النصوص والأساطير والفلسفات والفضاءات والأزمنة. وهو سفر يتأسس على ذاكرة الكاتب المقروئية، والتي تدخل مجال الكتابة الأدبية باعتبارها عناصر نحت أغوار الوجود. في غياب الذاكرة المعرفية يظل الوجود غير مدرك، لأن أغواره تتحوَل إلى كهوف مخيفة ومرعبة، ولهذا، يحتاج الأدب إلى مقاربات تتسع لأغواره، ولا تقف عند عتبة الكهوف.
يعد نص «العشاء السفلي»(2) للمبدع «محمد الشركي» من النماذج الإبداعية التي تحقق هذا الأفق للأدب، باعتباره سفرا معرفيا في أغوار الوجود، وتواصلا جماليا ورمزيا وفكريا مع العالم. 
من يقرأ «العشاء السفلي» يجد صعوبة في تجنيسه، حتى وإن صنف رواية، فهو نص يأتي خارج التصنيف، و المؤسسة النقدية التي تلزم الكتابة المنصاعة شروطا وحدودا وفواصل. ولكن الكتابة عند «محمد الشركي» في «العشاء السفلي» تدبير لغياب فادح، حركة ذهاب وإياب غير منقطع، احتفالية للأضداد والتناقضات. لهذا، نعتها بسهرة الأضداد، لأن الكتابة لديه معتَقة بالنفح الفلسفي، ولذلك، لا تتوهم حسم الأضداد، أو الوصول إلى منطقة الجواب الذي يوهم الذات بالخلود في زمن الحسم، ويجعل للغة حياة عادية حين يلزمها بالسطحي، ويقبر خصوبتها الولادة، ولأن «العشاء السفلي» تأتي بطعم الأغوار الموغلة في عمق العمق، لأنها، عبارة عن تفاعل جدلي بين قراءات «محمد الشركي» في المعرفة بشتى أنواعها، وكتابة هذه القراءات. هي تجربة صوفية ،بتوابل أسطورية، فلسفية شعرية روائية، للبحث عن معنى المعنى في الحياة والعالم والذات واللغة. العشاء السفلي محاورة فلسفية لهذه العلاقة بين الذات المعرفية للكاتب واللغة. اللغة التي تبدأ بدورها وسيطا، أو يفترض الكاتب أنها كذلك، لتتحوَل إلى موضوع للحفر والنحت، والبحث عن معنى المعنى.
العالم تؤثته الأغوار. والأغوار مسكونة بالمعاني والكلمات والرموز والذاكرة. مشبعة بأقدام الحضارات وتاريخ المعارف. مخضَبة بروائح التوابل والنباتات وألوان القزح، مشرَبة بأقوال الحكماء والشعراء والفلاسفة. لهذا، يصبح السفر في الأغوار، سفرا في اللغة وبها، بالمعرفة وبها. سفر بالذاكرة المشبعة قراءات واعية.
العالم مخلوق لغوي، صناعة تدبير لغوي. لهذا، يحتاج إلى صانع لغوي، يحول اللغة إلى موضوع للرؤية، عندما يتقن تطويع خصوبتها، لتفجر اللغة تاريخ الأغوار، وتسبر طبقات الأغوار، وتصغي إلى ملفوظات وأقوال الذين مروا منها.
«العشاء السفلي» محاورة صوفية بتوابل أسطورية وفلسفية وجمالية بين الكاتب واللغة، وناتج المحاورة: الكتابة المنحوتة: «هل تذكرني؟ أنا حاضنتك التي كانت تحفر وشم وجهها بأظافرك الطفولية..تعالى لأراك» (العشاء السفلي).
إنها دعوة مزار لمغران. رسالة إلى الذاكرة، ذاكرة مغران وذاكرتنا نحن أيضا. ذاكرة قارئ العشاء السفلي. نتذكر هنا دعوة شهريار لشهرزاد «احك وإلا قتلتك». وتتوالى الحكايات، العابرة للأمكنة والأزمنة والأساطير، لتبني ذاكرة جديدة لدى شهريار، فتتراجع ذاكرة القتل حين تستيقظ الأغوار من سباتها. تختصر رحلة مغران إلى ميزار زمن الغسق، مفهوم الكاتب للكتابة، التي تتحقق في «ليل العزلة، وشساعة الآخر» لتقيم حفل الأغوار، السفر الاختياري في أقاصي الليل التاريخي والرمزي، استجابة لنداء خالد، يدعونا باستمرار للإقامة في الأغوار نحتا وتوليدا للإشارات والاستعارات، لعلنا نقترب من معنى معنى وجودنا.
تحقق لنا العشاء السفلي بسفرها الموغل في أغوار الوجود، إمكانية رمزية لتمثل العالم، وفق قيم ومفاهيم ومعاني تسكن الأغوار. نحن نحيا الوجود بشكل جمالي، عندما نقيم في أغواره، ونسكن حفرياته. ولهذا، لا يكفي أن نفكك النص الأدبي إلى أجزاء، إنما أن نحب السفر في أغواره، لعلنا نعيد إدراك معنى وجودنا، حين نلتقي بالآخر الذي أقام وسكن الأغوار منذ القدم. لماذا علينا أن نحب الأدب، ونعشقه؟ يقترح تودوروف جوابا: «لو سألت نفسي اليوم لماذا أحب الأدب، فالجواب الذي يتبادر عفويا إلى ذهني هو، لأنه يعينني على أن أحيا. لم أعد أطلب منه كما في الصبا، تجنيبي الجراح التي تصيبني من لقائي بأشخاص حقيقيين، إنه عوض استبعاد التجارب المعاشة، يجعلني اكتشف عوالم على اتصال بتلك التجارب، ويتيح فهما أفضل لها.(…) فالأدب، الأكثر كثافة وإفصاحا من الحياة اليومية، لكن غير المختلف جذريا، يوسع من عالمنا، ويحثنا على تخيل طرائق أخرى لتصوره وتنظيمه»(ص 10).
ليست كل النصوص تحقق هذا المعنى من الحياة، إنما تلك التي تحقق تدبيرا ممتعا وفكريا في سفرها في اللغة، وتجعل أغوار الوجود تستيقظ.
(1): تودوروف : الأدب في خطر، ترجمة/ عبد الكبير الشرقاوي
دار توبقال، المغرب
(2) الشركي (محمد): العشاء السفلي
دار توبقال، المغرب، ط 1: 1987
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *