معاذ بني عامر *
1)
إنَّ شغفاً تواصلياً مع ذواتٍ أخرى، هو الذي يدفعني لأن أبرِّز هذه العلاقة مع الكتب (الروايات على نحو مخصوص في هذا المقام) وأجلِّي ذلك الشغف وأجعله أكثر تداولاً وتداولية. وإذا كُنتُ –هَهُنا- قد اختصرتُ على مرتين لكلّ بلد ذكرته، فذاك اقتضاءً لواقع الحال، وإلا لذكرتُ آلافاً مؤلفة من الكتب وجعلتها في متناول الأيدي.
إذاً أنا اختصرُ اختصاراً دالَّاً، والمدلول –هذه المرة- هو فكّ الارتهان إلى الذات في تجلياتها الفردية، بل في دمجها –بعد شطر نواتها المبدئية وتجاوز محنة الإثنيات والوطنيات والأيديولوجيات- في الذات الإنسانية الكُلّية والانفتاح عليها في تواجدها الكبير، بحيث يصبح بالإمكان تقديم نموذج أدبي يستلهم الإنسان في حضوره الكبير، ويُعيد إنتاجه بطريقة تطال كل الذوات الإنسانية من مبتداها إلى منتهاها، كجزء لا يتجزأ من المهمة الوجودية الكبرى المُناطة بالإنسان لغاية بناء الحضارة وعمارة الأرض.
(2)
المرة الأولى التي أحببتُ فيها العراق كانت يوم أن قرأتُ رواية (الطريق إلى تل المطران) للروائي «علي بدر». إنه يُمارس رياضة القفز الحُرّ باتجاه زمنٍ داخلي، ويُحدث خلخلة بديعة في ذهن القارئ. وإذا كانت الأطروحة الأرسطية (المُحرِّك الذي لا يُحرَّك) قادرة على وضع حدٍّ لاستفاضات المنطق وإيقافها عند نقطة مُحدّدة استدراكاً لعبث وجودي مُحتمَل، فأعتقد أن رواية (الطريق إلى تل المطران) تتجاوز هذه المقولة، وتفتح الكون على فلتان جمالي إلى ما لا نهاية، قد يُفضي إلى عماءٍ بدئي مُغرٍ بالتجريب.
المرة الثانية كانت مع رواية (فرانكشتاين في بغداد) للروائي «أحمد سعداوي»، إنَّه يلفظ كل قذارات العراق الحديث بطريقة بديعة، ويصنع منها مُنمنمة روائية باهرة. إنَّ نُتف الدم المُراق وقطع اللحم الإنساني المشوي وبقايا النفايات الآدمية والأجساد المُتطايرة في الهواء الطلق والرُعب المُحترم والشوارع المُوحشة وهائماتها المتوحشة، تتحوّل بين يدي «أحمد سعداوي» إلى قطعة أدبية فاخرة. إنها مثل أفعى الأناكوندا؛ مُرعبة بمظهرٍ خلَّاب، و «أحمد سعداوي» مثل حاوٍ بارع.
والمرة الأولى التي أحببتُ فيها فلسطين يوم أن وقعتُ على رواية (البئر الأولى) لـ «جبرا إبراهيم جبرا»، فالتفاصيل الصغيرة لبيت العائلة ذكّرتني ببيت جدّي القديم، إذ كنتُ أجلسُ صحبة جدّتي «حمدة» وأتنشقُ رائحة التبن والعفن اللذيذ الذي يُعشِّش بين الجدران الطينية.
المرة الثانية كانت مع رواية (المتشائل) لـ «إميل حبيبي»، إذ يُمكن للمفارقات أن تصنع إنساناً قادراً على الاحتيال على قَدَره المُرعب، فالضحك التشاؤمي قد يتحوّل إلى وسيلة دفاع غير مرئية ضد أشباح مرئية.
الأردن أحببته –رغم أني ابن الأردن إلا أنّ هذا الرَحِم كان قد لفظني منذ أن تخرجت من الجامعة العام 2001- للمرة الأولى ساعة قرأتُ رواية (القط الذي علمني الطيران) لـ «هاشم غرايبة»، فقيمة الحرية التي آمن بها بطل الرواية ورُشَّ بسببها برصاصٍ حيّ، تجعل الإنسان القارئ ينفتح على خيار مَلَكوتي يتجاوز العيان الأرضي ويدفعه إلى شغف عظيم ناحية الإيمان بالحرية والموت دونها.
المرة الثانية كانت مع رواية (يحيى) لـ «سميحة خريس». إن يحيى سميحة خريس أقوى من أيّ يحيى يُمكن أن يتحرّك على أرض الواقع، لذا أمكن الحديث هَهُنا عن القدرة الاجتراحية للكلمة والنص الأدبي بصفته صنيعة إنسانية باهرة قادرة على إعادة تأويل العالم ومن ثم إنتاجه من جديد.
المرة الأولى لموريتانيا كانت مع رواية (حج الفجار) لـ «موسى ولد ابنو»، إذ استعاد مجداً عربياً تليداً كان الشِعر فيه خبز الإنسان العربي وقوته اليومي، فالنص الروائي يعود إلى نقطة الصفر العربية ويستجلبها إلى داخل الحقل العربي الحداثوي، ويمنحها صفة اعتبارية من جديد، فهي جزء من ذاكرة امتدادية لا زالت تفعل فعلتها في المخيال الجمالي العربي. أما المرة الثانية فلا زِلتُ أنتظر أن اقرأ نصاً روائياً لراوٍ أو راوية موريتانية، فَمِن حقّنا –نحن العرب- على أحبتنا في بلد المليون شاعر أن ينجبوا لنا مئة راوٍ على الأقل، لكي تصير ذاكرتنا المتعلقة بموريتانيا ذاكرة مشبعة بحنين مزدوج للرواة والشعراء على قدر المساواة.
جارتها ليبيا يُنازعنا إزائها الحنين، فبعد الحُب الأول مع رواية (البحث عن المكان المفقود) لـ «إبراهيم الكوني» واستنطاق ذاك العالَم البِكر، المجهول، المليء بالحكايا والأسرار، صار شفيفاً، خفيفاً، مطواعاً بين يدي إبراهيم الكوني؛ لا زال الحُب الثاني على أهبة الانتظار، فهو إذ يطفو في الوجدان، فهو أقرب ما يكون إلى فكرة الفضيلة منه إلى فكرة الخيانة، فالرجل إذ يُحبّ مرة ثانية بعد أن أحبّ الأولى، فهو قادر على استنساخ نسخ لا حصر لها من حب قد يطال البشرية كلها، ويمنحها قلبه المفتوح على خيار الإنسان في حضوره الكُلي.
تونس للمرة الأولى كانت مع رواية (عائشة) لـ «البشير بن سلامة» فتلك العائشة صارت أيقونة تعالت على آلامها، وقامت من كبوتها كما قام إلعازر ببركة المسيح. المرة الثانية كانت مع (أسرار عبد الله) لـ «الحبيب السالمي»، فما بين عبد الله وزوجته تتكشف محنة الإنسان العربي إذ يُهوّم في واقع قاسٍ لا تفتأ كل ذات إسقاط قسوتها على ذات أخرى، حتى تتعالق الذوات مع بعضها البعض في قسوة غير مرئية مُدمّرة.
أما المغرب في أحببته للمرة الأولى ساعة وقعت على رواية (الشُطَّار) لـ «محمد شكري»، فتلك الشخصيات المتوترة، الموتورة، القلقة، المهدورة، الرؤيوية التي تناضل في سبيل حياة عابثة، هي جزء من تكويناتنا النفسية وتحركاتنا الوجودية، فبدونها تصير الحياة مأساة حقيقية. إننا نتسلّى بآلام بعضنا بعضاً ونقتات على جثث أحبّ الناس إلينا. محمد شكري بارع في تصوير ذلك وقادر –عبر صدم القارئ من الجملة الأولى- أن ينسج كنزة من دم ويُلبسها للقارئ، فهو لا يعي ذاته –بعد فعل القراءة- إلا وقد أصبح جسده مُرشوماً بالدم.
المرة الثانية كانت مع رواية (السجينة) لـ «مليكة أوفقير»، ومع «مليكة» كانت التفاصيل الصغيرة قد أعادت الحياة إليها ومن ثمّ لنصها الأدبي ومن ثم –كمرة ثالثة- جعلت القارئ ينتبه إلى أن أشياء صغيرة، تافهة، عديمة القيمة، قد تعينه على الحياة كما تعينه المُثل والمفاهيم الكبرى عليها.
الجزائر للمرة الأولى كانت مع (الدار الكبيرة) للروائي «محمد ديب»، فالنسيج الروائي في ثلاثيته الروائية انعكاس للإنسان الجزائري في حضوره المُتعدّد، فهو من جهة يبني ذاته من الداخل، لغاية استمرارية جانبه اللامرئي، ومن جهة ثانية يبني ذاته من الخارج، لغاية البقاء على قيد الحياة وتحقيق وجوده المرئي في الواقع الاجتماعي.
المرة الثانية كانت مع رواية (المُتمردة) لـ «مليكة مقدّم» إذ تصير العلاقة بين نمطيين مختلفين: أحدهما تقليدي وثانيهما حداثي؛ علاقة يشوبها ما يشوبها من ثبات زائد عن الحدّ لدى الطرف الأول، وحركة زائدة عن الحد لدى الطرف الثاني. لذا ثمة عراك خفي وكسر للعظم بين طرفين مُتناحرين وإن انبثقا من أسرة واحدة.
(ساق البامبو) للروائي «سعود السنعوسي» كانت حُبّي الأول للكويت، فالتداخلات بين الذوات الفاعلة في المتن الروائي والصيغة التي احتكمت إلى إطار إنساني صرف، منحت الرواية قوة دافقة في القلب وجعلتها أقرب ما تكون إلى وثيقة شرف بين ذوات تبحث عن خلاصها الإنساني بالمحبة والسلام والتسامح.
المرة الثانية لا زالت مُعلّقة على مشجب الانتظار، كذا الأمر بالنسبة لقطر (إضافة للمرة الأولى) والإمارات (أيضا المرة الأولى والثانية بالنسبة للإمارات) وللصومال (للمرة الثانية) إذ حدث التلاقي الأول ساعة قرأت (خرائط) لـ نور الدين فرح»، فتلك الإفاضات القادمة من أرض مجهولة تصير مثل المعدن النفيس لا يفتأ المرء يبحث عن عِرق منجمه لغاية الاستزادة من هذا الشغف الأفريقي ، كما حدث مرة أخرى وأولى مع نيجيريا إذ أحببتها بسبب رواية (كثبان النمل في السافانا) لـ «تشينو آشيبي» وصارت المعاناة الأفريقية حكمة عابرة للذوات الإنسانية وباحثة عن مُستقر لها في ثنايا ذوات أخرى تشاركها نفس الاهتمام الإنساني سعياً وراء قيم خالدة.
جنوب أفريقيا (لمرة واحدة فقط رغم أني قرأت معظم أعمال كوتزي الأخرى) تواصلت معها عبر رواية (في انتظار البرابرة) لـ «ج.م. كوتزي»، يومها فهمت أن جدلية (المُستعمِر/ المُستعمَر) رَهن بإيمان الإنسان بذاته من الداخل، أكثر من أية قوة تتحرّك في الخارج، فلكي يكون الإنسان حُرَّاً عليه أن يُؤمن بالحرية كقيمة متعلقة بذاته أولاً قبل أن يمارسها واقعاً، فما بين الداخل والخارج يمكن للإنسان أن يسقط في مستنقع العبودية أو يُعاين العصافير وهي طائرة في الأعالي، دون أن يكون بحاجة إلى إثبات هذا أو نفي ذاك.
مصر للمرة الأولى كانت مع رواية (لا أحد ينام في الإسكندرية) لـ «إبراهيم عبد المجيد»، إذ استطاع هذا الروائي أن يبلور سياقاً روائياً مغايراً أَنْسَنَ فيه شخوص روايته ومنحهم حضوراً قوياً لدى القارئ أياً كانت توجهاته وميولاته. المرة الثانية كانت مع رواية (سرير الرجل الإيطالي) لـ «محمد صلاح العزب « فهو يشفّ عن كأس عربي مُعْتِم، فيما يتعلق بقضية الجنس، فالجسد المهدور هو الجانب الأقنومي لدى ذات استحقرت غرائز الإنسان وحاجاته الأساسية، لذا أخفقت حضارياً.
(الشميسي) لـ «تركي الحمد» كانت الوصال الأول مع الثقافة السعودية، فعبرها عرفتُ أن ثمة حياة أخرى، حياة يُحرّك عقارب ساعتها الزمنية أناس بسطاء شغفتهم الحياة حبّا، فبادلوها الحبّ بحبّ آخر. الوصال الثاني كان مع رواية (فسوق) لـ «عبده خال»، فالخروج عن السياق العام يصير فضيلة والحال هكذا، فالداخل ميت والخارج حيّ!.
أما عن حُبّي الأول لسوريا فقد خطّ معالمه الروائي «حنا مينة» بروايته (بقايا صور) فتلك المعاناة لواحدة من الأُسر السورية صارت في النص الروائي معاناة لكل أسرة إنسانية أنّى تواجدت على هذه الأرض، وذاك الحنان الفائض بين جنبات أفراد تلك الأسرة يمكن أن يفيض ويغرق البشرية عن آخرها.
الحب الثاني كان مع رواية (ورّاق الحب) لـ «خليل صويلح» فتلك النُتَف الصغيرة، وتلك التقاطعات بين بطل الرواية وجثث الكتب تدمج القارئ في علاقة التباسية بين ما هو صادق وما هو كاذب، وتصير المقولة العربية القديمة (أصدق الشعر أكذبه) مقولة حاضرة في المخيال لحظة القراءة.
لبنان حضر في مُخيلتي للمرة الأولى مع (سبعون) لميخائيل نعيمة، إذ تأكّد لديّ الحس الإنساني لدى العربي، وانعكاس ذلك على مجموع البشرية في حال تعميمه والاشتغال عليه بتنامٍ مُتواتر. والمرة الثانية كانت مع (النبي) لـ «جبران خليل جبران»، فالمُبشِّر الجديد علامة فارقة في الربط بين شخصية المسيح المطمئنة وشخصية نيتشه القلقة، ودمجهما في شخصية واحدة؛ نقطة تحسب لجبران خليل جبران ابن الشرق والغرب معاً.
(ثريا في غيبوبة) لـ «إسماعيل فصيح» كانت المرة الأولى بالنسبة لإيران وقد تقاطعت معها كمرة أولى رواية (باولا) لـ «إيزابيل الليندي» من تشيلي، فقد اكتشفتُ لاحقاً أني قرأتُ الروايتين في فترة مرض والدي قُبيل وفاته بقليل، إذ كان يتحرّك لا وعيي ويطفو على السطح –عبر فعل القراءة- ويتنبأ بموت والدي، لكن انشغالات الواقع طمست هذا اللاوعي، فلم أكتشفه إلا لاحقاً. (ثريا) كانت في غيبوبة و(باولا) كانت أيضاً في غيبوبة ووالدي كان في شبه غيبوبة، لذا اجتمع الثلاثة في بوتقة واحدة، وعندما أعدتُ تدويرها في رأسي كان أبي قد مات، في حين بقيت هيئة ثريا في رأسي مثل أيقونة جميلة، أما باولا فقد شغفتني سُمرتها حُبَّاً، ولَكَم تمنيتُ أن تقوم من كبوتها لكي تُعيد لهذا العالَم السوداوي جزءاً من جماله المُغيّب.
المرة الثانية (بقيت غائبة بالنسبة للتشيلي بما أن الموضوع خاص بالروايات فقط رغم أني قرأت معظم أعمال إيزابيل الليندي) بالنسبة لإيران كانت مع رواية (قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب) لـ «شهريار مندني بور». في روايته يعرض عليك شهريار مندني –بأناقة جنتلمان- أن تمضغ قطعة صغيرة من العلكة؛ بعد قليل تكتشف أن فمك مُمتلئ بعلكة كبيرة وبنكهات متعددة. وعند لحظة ما تشعر أن ثمة حشرجة في الحنجرة المخنوقة، فإما أن تبلع العلكة وتتلبك معدتك أو تلفظه وأنت تشهق شهقة أسى وحزن وكمد.
الجارة القريبة لإيران (= الصين) أصابني منها شغف خاص مع روايتين قاربتا الألم الإنساني مُقاربة روائية باهرة، وجعلتاه مثل عصير الفاكهة. الثانية كانت رواية (الذرة الرفيعة الحمراء) لـ «مو يان». وإذ أصنِّف الرواية فإني أصنفها كنوع من (اليوغا الوجودية) إذ يتحوّل كل شيء، ابتداء من المتناهيات في الصغر إلى المتناهيات في الكبر إلى مأثرة عظيمة، بما في ذلك موضوعة الألم، فالتفاصيل الصغيرة المُروّعة وتلك الكبيرة القاتلة، تصير طقساً قُربانياً لتطهير الذات الفردية والجمعية من ضغط داخلي وخارجي هائل، وتحرير المسامات، وتحويل الطاقة السلبية إلى إيجاب خالص.
الأولى كانت رواية (زهرة الثلج والمروحة السرية) لـ «ليزا سي»، فالقهر الذي مُورِس على المرأة الصينية من أجل الحفاظ على قدميها صغيرين على هيئة فراشات صغيرة، حالَ بالتقادم إلى طقس تعذيبي مُروِّع ينعكسُ –يقيناً- على ذات المُتلّقي ويحلّ فيه حلولاً صوفياً، فيجعله جزءاً من هذه المعاناة الإنسانية الكبيرة.
جارتها اللدودة (= اليابان) راقني عملان روائيان لأثنين من أعظم روائييها على الإطلاق: «يوكيو ميشيما» و «ياسوناري كاوباتا». كلاهما انتحرا في ذروة نشاطهما الإبداعي فتحطّما مثل جبلين من الفولاذ.
الأول مع روايته (ثلج الربيع) التي أسَّسَ فيها لذاتٍ ستتوالد في ثلاثة أجزاء أخرى، وكأنها ذات مُطلقة وعصية على الموت، كردِّ فعلٍ لا واعٍ على فعل الانتحار الواعي والواقعي، فالاستنطاق اللاواعي لتلك الحيوات الكامنة، أتى كدفاعٍ غرائزي (بُلْوِرَ نصاً أدبياً باهراً) داخلي عن عقلانية خارجية.
والثاني استبصرَ عبر روايته (بيت الجميلات النائمات) الإمكان الزمني الذي ينطوي عليه (أرذل العُمر) والاحتقان الوجودي الكبير الذي يُمارَس قهراً على ذاتٍ تُوشك أن تفنى وتتلاشى وتذهب إلى العَدَم، وفي نفسها حاجات مكبوتة، غير مُلبّاة، حاجات إنسانية تستعصي –في تلك المرحلة العصية من العُمر- على الإنسان ذاته، وتحرمه من إمكاناتها الهائلة.
إن فعل الانتحار هو فعل أقنومي، والحال هكذا، وتخليد للذات في سجلات الأبطال. وهذا ما حدث مع كُلٍّ من «يوكيو ميشيما» و»ياسوناري كاوباتا»، إذ عَبَرَا إلى العَدَم انتحاراً، وسُجلا –في السجل الإنساني- كبطلين، بطلين أدبيين.
بالانتقال إلى (كولومبيا) وراويها «غابرييل غارسيا ماركيز»، الذي افتتن بالروائيين اليابانيين المُنتحرين، إلى درجة أنه أعاد تحرير رواية (بيت الجميلات النائمات) لـ «ياسوناري كاواباتا» وصاغها في رواية جديدة أسماها: (ذكريات غانياتي الحزينات) وكتب في تقديمه لرواية «ياسوناري كاواباتا» أنَّ الرواية الوحيدة التي تمنّى لو أنها من كتابته هي رواية (بيت الجميلات النائمات)!.
(خريف البطريق) لـ «غابرييل غارسيا ماركيز» كانت مثالاً للعمل الروائي القادر على متح ماء المقولات الفلسفية وإعادة صياغتها صياغة أدبية ناعمة، وفي رواية (خريف البطريق) أحالَ ماركيز مقولة (الزمن) إلى مقولة روائية ماتعة، فالزمن دائري يستعصي على التربيع والعقلنة والصراطات المستقيمة، ويمكن لدوامة الإرهاب والاستبداد أن تبقى فاعلة في العمران البشري إلى ما لا نهاية.
المرة الثانية لا زالت تقف في طابور الانتظار، لا سيما من تلك القارة المجهولة (= أميركا الجنوبية) فحجم ما وصلنا منها كان قليلاً، ويمكنني هَهُنا أن أسرد مجموعة من الروايات قد تكون فاتحة لتواصل قادم (لا سيما في حقل الرواية)، مثل: (الخطوات الضائعة) للكوبي «اليخو كاربنتير» و(عرس الشاعر) للبرتغالي «أنطونيو ساراماغو» و(امتداح الخالة) للبيروي «ماريو باراغاس يوسا» و (إحدى عشرة دقيقة) للبرازيلي «باولو كويلو».
والمرة الأولى للمُستَعْمِر القديم للقارة اللاتينية (= أسبانيا) كانت مع رواية (دون كيخوت) لـ «ثربانتس». إن الاستفاضات العاطفية الجيّاشة التي دفعت المُحارب الأحمق «دون كيخوت» أن يعتلي صهوة جواده ويخوض حرباً ضروساً ضد الوهم الإنساني، جعلته أشهر مُحارب في العصور الحديثة، وذلك التابع الأخرق «سانشو» صارَ بين لحظة وأخرى حديثاً على كل لسان، فإخلاصه لحماقاته ولسيده «الدون كيخوت» جعلت منه تابعاً أميناً قادراً على إمتاع الناس في أقسى ظروفهم وأحلكها عتمة.
المرة الثانية كانت مع رواية (الوله التركي) لـ «أنطونيو غالا»، إذ رحل البطل إلى تركيا واستعادَ زمناً إيروتيكياً كان فيه الشرق –بالنسبة للمخيال الغربي- بمثابة الصاعق الكهربائي للغرائز الجنسية، فالتورية والتغطية وما رافق ذلك من التباسات وإختفاءات وظهورات، حفّزت الغربي على الرحيل إلى الشرق والتمتّع بما لذّ وطابَ من جنس مُغاير.
وبما أننا بإزاء تركيا، فقد اقترن حُبّي الأول لها برواية (زوبك: الكلب الملتجئ في ظل العربة) لـ «عزيز نيسين»، فالقدرة الكبيرة على إضحاك الناس –ضمن سياق رسالي- هو أحد استبصارات عزيز نيسين، ومقدرته على تخليق سياق مُغاير وسط ركام هائل من البكاء والعويل والمآسي التي لا تفتأ تتوالد وتتناسل مثل الجراثيم الضارة.
الحُبّ الثاني كان مع رواية (سِرنامة: وقائع احتفال غير رسمي) لـ «عزيز نيسين» أيضاً. وأنا إذ أضع روايتين لراوٍ واحد، فإني أعي أني أقدّم شيئاً مُغايراً لذات الراوي بمقدار 180 درجة عن روايته المذكورة آنفاً. ففي (سِرنامة: وقائع احتفال غير رسمي) قدَّم «عزيز نيسين» نمطاً روائياً مُغايراً تماماً، وأبدى قدرة فائقة على تقديم نموذج روائي آخر، إذ ساق الجماهير إلى صعيد واحد –كما مشاهد يوم القيامة- وهناك جعلهم ينتظرون إيذاناً بنطق الحُكم على متهّم برئ، لم تُسعفه الحيلة في تبرئة نفسه ومنحها صك الغفران، ولا أسعفته هذه الخلائق الكثيرة، فهي مشغولة بحاجاته واحتياجاتها وغرائزها، إذ حال هذا الاحتفال الرهيب إلى فرح غامر لهذه الخلائق المُتعدّدة، وإلى حزن مُدمّر للمُتهّم البريء. فمصائب قوم عند قوم فوائد كما قال الشاعر العربي قديماً.
في الهند سأتوقف للمرة الأولى مع (الرامايانا) لـ «فالميكي» لاستظهر قدرة الإنسان على اجتراح المعجزات، بصفته إنساناً وليس سلسل آلهة عريقة. الثانية كانت مع رواية (النمر الأبيض) لـ «أرافيند أديغا» ومعها ستصبح الهند قاب قوسين أو أدنى من ضمير القارئ، فهو جزء من تفصيل روائي يتحرّك بعفوية في قلب القارئ، لذا هو حريص على مشاركة الناس آلامهم وأحلامهم، كما لو كانت آلامه وأحلامه.
(الديكاميرون) لـ «جيوفاني بوكاشيو» من ايطاليا كانت الوصل الأول، فقد حالت الحكاية إلى بديل محكي عن واقع معاش. فقدرة الإنسان على التحايل على الوجود المُرعب بالكلمة، كان هاجساً لي وأنا اقرأ (الديكاميرون)، لا سيما أن كاتبه كان قد استلهم –على ما يبدو- الروح العظيمة لجدّتنا القديمة «شهرزاد» وفعل فعلتها في خلق بديل إنساني بالكلمة.
في المرة الثانية سأكون وفياً للحس الايطالي المعني بالحب والجمال والروح السلسة الناعمة، كما لو أني آكل وجبة من السباغيتي اللذيذ في أحد مطاعم نابولي.
ألمانيا مرحلة مع قبل الحرب الكبرى ومرحلة ما بعد الحرب الكبرى. المرحلة الأولى كانت مع رواية (دميان) لـ «هرمان هسه» فالبطل مثل الشيطان القادر على التنبؤ بالقادم، تماماً مثل الإنسان الرؤيوي القادر على التنبؤ في حال أصغى وأنصت لداخله اللامرئي. والمرحلة الثانية كانت مع «باتريك زوسكيند» في روايته (العطر) فالبطل إذ يقتل فإنه يقتل باسم الفضيلة الأخلاقية النفسانية، والمُبرّر الكبير على إحالة النساء إلى الموت هو مبرّر لاهوتي بالدرجة الأولى؛ إنه منذور –عند عتبة ما تحت الوعي- لأداء مهمة إلهية على هذه الأرض، لذا لم يمت إلا بعد أن عبر نهر القداسة وصار بطلاً يُعبَد.
فرنسا «ألبير كامو» في (السقطة): تلك الوصية الأخلاقية المؤلمة لإنسان قوضّته الحروب وأهانت كرامته الإنسانية. و»فكتور هيغو» في (البؤساء): وثيقة الشرف بين الإنسان وأخيه الإنسان خارج سياقات الكره والحقد والبغضاء والأشنّات الحيوانية.
فرنسا التي تجيد صياغة الوصايا، صارت على يدي «ألبير كامو» و»فكتور هيغو» دولة للنور، رغم الجرائم الرهيبة التي ارتكبتها بحق الشعوب الأخرى، إذ كان لنورها أن ينطفئ لولا الجهاد الاستبسالي لكلّ من ألبير كامو وفيكتور هيغو، لإبقاء جذوة النار مشتعلة في المشكاة الفرنسية.
الحب الأول مع جارتها القريبة «بريطانيا» كان بفعل رواية (قصة مدينتين) لـ «تشارلز ديكنز»، فالعدوتان اللدودتان حالتا مع «ديكنز» ثراءً أدبياً أمكن إغناء القارئ وإخراجه من الإملاق الواقعي. الحب الثاني كان مع (دون جوان) لـ «لورد بايرون». إن الصيغة البَعْدية التي عُرِفَ من خلالها اللورد بايرون هي صيغة عمله الأدبي (دون جوان)، فالحضور الدونجواني في المخيال الجمعي أكثر حضوراً من اللوردبايروني، إذ تغلّب العمل الأدبي التخييلي على لورد بايرون الواقعي. وهذه واحدة من عبقريات الإنسان إذ يصبح الحضور الأدبي حضوراً فاعلاً أكثر منه حضوراً منفعلاً.
إنَّ الكلمة –كما قلتُ ذات مرة- هي الاستبصار الإنساني الكبير ضدّ العَدَم، وأن يتمكن عبرها من صياغة نصوص لا تتجاوز العالَم فقط، إنما أيضاً تصير بديلاً عنه، فإنه –يقيناً- سيد العالَم البديل وناقلٌ له من العَدَم إلى الوجود، عبر النفخ فيه نفخة الروح الإنسانية العظيمة!.
مُستعمرة بريطانيا المُتحرّرة (أميركا) التقيت بها للمرة الأولى عبر رواية (كوخ العم توم) لـ «هاريت ستاو». للآن لا زلت غير قادر على معاودة قراءتها من جديد، خشية أن ألوّث شعور الطفل الصغير الذي كنته يوم قرأتها بحسٍّ نقدي. إن الطفل الذي تألّم ألماً فظيعاً على بطل الرواية الأسود بسبب ثقافة التمييز العنصري التي كانت منتشرة في زمن الرواية، لا زالَ يتداعي في ضميري حتى هذه اللحظة.
المرة الثانية كانت مع رواية (كابوس مُكيَّف الهواء) لـ «هنري ميللر». إن الخطبة المُجلجلة التي ضمنها «ميلر» متن روايته شبيهة بوصايا الرسول بولس، ولكن من يسمع؟ ثمة وقر في آذان الناس!.
أفغانستان التي دمرتها أميركا أحالها «خالد حسيني» في روايته (ألف شمس مشرقة) إلى طائر عنقاء أعاد بناء ذاته وقام من وسط ركام الحروب والدمار والخراب، على هيئة طير جميل جاب الأرض من مبتداها إلى منتهاها. ولمرة تالية سأجلس في مقعد الانتظار فيما يتعلق بأفغانستان، فالأسى يعتصر القلب لا سيما أننا حضرنا –أعنينا نحن العرب- في الواقع الأفغاني لكن للأسف لم نُشيّد حضوراً ثقافياً بارزاً –كما برزنا في مجالات أخرى- في تلك الجنّة المفقودة.
جارتها الباردة بفعل الثلج المتواصل (= روسيا)، وبحكم التشابه في الحالة الجوية لا سيما في فصل الشتاء كان عليَّ أن انحاز لـ (معطف) «غوغول» الذي خرج منه كل أدباء روسيا بحسب تعبير «دوستويفسكي». إن الموظف «أكاكي أكاكيفيتش» هو نموذج لطائر التمّ الأسطوري الذي يُغنّي مرة واحدة في حياته ثم يموت!.
المرة الثانية في روسيا كانت مع رواية (الأخوة كارامازوف) لـ «دوستويفسكي». إنَّ نَفَسَاً إلهياً في ثنايا الشخصية الدوستويفسكية البطولية، جعلت منها شخصية رسولية للعصور الحديثة. إنه يحمل صليبه على ظهره، وعلى الصليب يحمل البشرية كاملة، ويقودها إلى الخلاص الدنيوي. فالثلاثي (إيفان/ ديمتري/ أليوشا) في روايته (الأخوة كارامازوف) قد اختصروا الوجود الإنساني في بضع وألف صفحة من النثر الأدبي البديع.
جارتها القريبة (= تشيكوسلوفيكيا) خبرتها أولاً عبر رواية (جسر على نهر درينا) لـ «إيفو أندريتش» فالفظائع التي ارتكبها الأتراك في تلك البلاد صارت كفيلة بتحويل دموع القارئ إلى حسرات وآهات مُتواصلة. وخبرتها للمرة الثانية مع رواية (كائن لا تحتمل خفته) لـ «ميلان كونديرا». فهذا الخفّة الأدبية تليق بشخصٍ ثقيل على أرض الواقع، وكأن ثمة ياطر يُثبّت جسده خشية أن يطير هو الآخر.
أما حبّي لليونان فقد تمظهر للمرة الأولى يوم أن قرأتُ (إلياذة) هوميروس فأجدادنا القدامى خاضوا حرباً ضروساً ضدّ ذواتهم العليا كما جُسدت آلهة مُقدسة، لكي ينزلوا إلى أرض الواقع ويبنوا الإنسان ويعمروا الأرض حضارياً.
المرة الثانية كانت مع «نيكوس كازانتزاكزي» في روايته (زوربا) فالعنف الناعم بين الراوي (ابن الكتب) وبين زوربا (ابن الحياة) ولَّدَ نسقاً جمالياً باهراً، تمخض عنه –لدى القارئ- استحساناً لشخصية مزدوجة جمعت بين الراوي الافتراضي وزوربا الواقعي، فالإنسان بطريقة أو بأخرى يحنّ إلى مرئياته كما يحن إلى لا مرئياته، فهو مُكوّن من طين وروح.
ألبانيا ولجتُ دخيلتها مع «إسماعيل كادريه» في روايته (جنرال الجيش الميت)، فالبطولات الزائفة يمكن أن تتحوّل إلى أساطير. فالتضخّم الذاتي وجنون العظيم قد يصل إلى عنان السماء ويطاول نجومها ضياءها ونورها الشاعّ على الأرض. وشخصياً لا أعرف أيّ راوٍ ألباني غير إسماعيل كادريه الذي قرأت له أيضاً (قصر الأحلام).
وهكذا تنامى حُبِّي للإنسانية عبر حيوات لا حصر لها، ليس فقط تلك الخاصة بمُؤلّفي الكتب، إنما أيضاً بالشخصيات الكامنة داخل الأعمال الأدبية، بصفتها شخصيات حاملة للسيرورة الإنسانية في تجلّيها الكبير، فهي تسعى إلى التواصل مع ذواتٍ إنسانية لا حصر لها، بغية الوصول إلى مرحلة الشفافية المُطْلَقة.
وما تلك الروايات التي ذكرتها إلا نتفاً صغيرة في مُنمنمة كبيرة؛ خَبْرُتُ تفاصيلها قطعة قطعة، لغاية فهم الإنسان وتلك المهمة الكبرى المُناطة به على المستوى الوجودي. فالشغف في التواصل الإنساني دفعني –المرة تلو الأخرى- لأن أقدِّم الإنسان بصورته الجلية البهية، كما لو أنه على مشارف جنّة عدن. إذ ليس خطأً أن نحاول أن نبحث عن مخارج جدية للأزمة التي تعصف بالإنسان الحديث، وتقوده إلى تخم ملئ بالألغام المتفجرة. فالإنسان الذي ناضل لمئات الآلاف من السنين لبناء الحضارة الإنسانية، يستحق أن نجتمع وإياه على مائدةٍ واحدة، ونتشارك –سوية- الخبز والأحلام الكبيرة!.
_______
*كاتب وباحث من الأردن/الدستور