التشجيع الكروي


*إيزابيللا كاميرا

كما نعلم جميعاً أصبحت لعبة كرة القدم بِصِبْغَةٍ أَقلّ كروية وأكثر تجارية، بمعنى أنها أصبحت «بيزنس» ضخماً. ينتقل فيه اللاعبون من فريق إلى آخر، كما ينتقل جيش من المرتزقة، يمضون لمن يدفع لهم أكثر، ولا يراعون خيبات الأمل الكبرى التي يسببونها لكثير من مشجعي كرة القدم الذين يودون لو يحتفظون بلاعب معين يعتبرونه بطلاً دائماً لهم. إذا كان هذا هو المنطق الطبيعي لكرة القدم فأنا لا أحبها، كما لا أحب الانجراف العنيف الذي اكتسبته هذه الرياضة في ملاعبنا. أنا لست خبيرة في كرة القدم، وإنما مجرد مشجعة متواضعة لفريق مدينتي «روما». نحن في روما لدينا شيء فريد من نوعه، وأنا واثقة من أنه سوف يظل كذلك لسنوات عديدة. لدينا لاعب شهير، واحد من أعظم اللاعبين الإيطاليين، هو فرانشيسكو توتي، والذي يلعب، منذ أن بدأ حياته المهنيّة كلاعب كرة القدم، لنفس الفريق، فريق مسقط رأسه. وهو صبي (على الرغم من أنه الآن لم يعد ذلك الصبي الصغير) من ضواحي روما، يتحدث بلهجة رومانية براقة لطيفة لعوب، يبدو وكأنه نموذج نمطي للشاب الإيطالي المرح خالي الذهن. الشيء غير العادي هو أنه، خلافاً للاعبين كبار آخرين، قال إنه لن يذهب بعيداً عن فريقه «روما»، حيث أصبح «الكابتن» منذ سنوات عديدة. لقد نجح في التوفيق ما بين مهنته وعشقه لكرة القدم في فريق مدينته. 

وأهل روما بصفة عامة يحبون هذا الصبي الذي شاهدوه ينمو ويكبر ويترعرع منذ أن بدأ يلعب مع الفريق. لقد أصبح «توتي» الآن في الثامنة والثلاثين من عمره، أي أنه قد أدركه الكِبَرُ، ورغم ذلك لا يزال يتحفنا بأهدافه الاستعراضية. يعشقه أهل روما ويطلقون عليه «الطفل الكبير»، بسبب وجهه الناصع المبتسم، كأنه طفل أبدي. أنا أيضاً أحبه، لسبب إضافي وهو التزامه الاجتماعي باعتباره سفيراً لليونيسيف. قبل سنوات، طلبت ابنتي مني أن أشتري لها راية لفريقها المفضل، روما، لأنه كان في تلك الأيام كان يلعب في بطولة إيطاليا، ولأول مرة منذ 18 عاماً كان على وشك الفوز بها. لم يكن بودي على الإطلاق شراء ذلك العلم، لأنني لم أكن أفهم ماذا يمكن أن يعني التشجيع الرياضي، ولأنني أيضاً كنت أحس بالخجل لو رآني أحد في الشارع أحمل هذا العلم الضخم الأحمر والأصفر، والذي فشلت في طَيِّه، وكان لابد أن أحمله بعصاه الطويلة كأنني في مسيرة عسكرية. بدا لي ذلك مما يليق بي. ولكن حدث بعد ذلك شيء غريب: كانت المواكب تمر بالشارع والناس ترفع من النوافذ الأعلام التي حاولت عبثاً أن أخفيها وكانوا يطلقون نفير السيارات عالياً: كانوا جميعاً يحتفلون بفوز فريقهم القادم، وكان ذلك عام 2001. وعندما رآني بعض الناس وأنا أحمل العلم تحت إبطي محاولة إخفاءه، كانوا يشيرون لي بالتحية وبعلامة الفرح. وبدأ نفير السيارات يزداد ارتفاعاً. وددت أن أشرح لهؤلاء الناس أنني لا علاقة لي بهذا وأن العلم ليس علمي، وإنما اشتريته لابنتي. ولكن، فجأة، تغير عندي شيء ما، وأحسست بنفسي مشدودة لهذا الحماس الشعبي الجارف. فروما هي في نهاية الأمر مدينتي، حيث أعيش الآن منذ سنوات عديدة، فعلى الرغم من أنني لم أولد بها، إلا أنني أشعر بالانتماء إلى هذه المدينة وشعبها. وانتباتني فورة من الشجاعة، وراحت يداي ترفرفان بكل قوة يمتلكها جسدي بعلم الفريق، «فريقي». وهكذا، ودون أن أدري، أصبحت مشجعة كروية. في نهاية الأمر من الممكن التوفيق بين شيئين، وبين شتى العواطف، بما في ذلك حب كرة القدم. وعندها فقط أدركت أن ما هو ضار حقاً ليس عدم إظهار الانتماء الكروي، وإنما الانغلاق على الذات والتفكير بِخُيَلَاء بأن عالمك الخاص هو عالم مختلف، إن لم يكن متفوقاً، على العالم الكروي. كنت مخطئة، وفهمت هذا لحسن الحظ.
________
*الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *