*محمد سامي البوهي
ظل طوال حياته يكتب عن آلام و أوجاع المهمشين و البسطاء معتبرا نفسه بوقا يعلن عن وجودهم بقوة لكنه آثر لنفسه الرحيل في صمت، ودع صديق عمره الروائي إبراهيم أًصلان هاتفيا دون أن يخبره بأنه راحل عن تلك الدنيا بعد ساعات معدودة ثم طلب من السيدة زوجته كوب اللبن المفضل ليتأهب لكتابة مقاله بالاهرام ولم ينتظر حتى غاب هناك في عالمه الآخر..الآن يرقد جسده في أمان ملتحفا بسطور (الوتد) في قريته (شماس عمير)التي أخذنا إليها في رحلة ماتعة لنسكن بيت الحاجة فاطمة تعلبة و أسرتها الريفية البسيطة فبهرنا بتلك التفاصيل الدقيقة التي يرصدها بمهارة غير عادية من زوايا ضيقة جدا لم يسبقه إليها أحد.. فتعمق في إخراج داخليات الشخصية المصرية وبرع في رسم الصور الزمانية والمكانية بشكل لافت وجذاب يجعل القارئ يعيش حالة التساؤل الدائم.. كيف يلم عم خيري بهذا الكم الهائل من الشخصيات والعادات و اللهجات و الأصوات و الأماكن والأزمنة؟ وكيف استطاع أن يصل إلى قعر العوالم المهملة بهذا القدر من الانسيابية والسلاسة و التوغل حتى أنك في بعض الأحيان تنسى أنك تقرأ كتابا مصنوعا من ورق؟ فكان من أبرز الكتاب الذين استخدموا أسلوب (الواقعية الساحرة) في كتاباته، حيث مزج الواقع بالخيال والأساطير دون الانحراف عن العقلانية المقنعة، وقام بتطويع كل الامكانات المطروحة من بشر وجماد وحيوان ومادة كشخصيات حية ذات تأثير داخل سياق كتاباته. ولقد ألف عم خيري أكثر من سبعين كتابا، من أشهرها (الوتد)، و(ثلاثية الأمالي) و(وكالة عطية) ، والاوباش والشطار و العرواي و سارق الفرح، وصالح هيصا، وصهاريج اللؤلؤ، وصحراء المماليك، وزهرة الخشخاش، ونسف الأدمغة وغيرها ومنها من تحول لاحقا إلى أعمال تلفزيونية ومن بين أشهر مؤلفات شلبي في مجال البحث الأدبي كتابه «محاكمة طه حسين» عام 1969هذا الكتاب الذي اعترف في مقدمة الطبعة الثانية له بأنه أحب الكتب إلى نفسه لذلك فضلت ان أقف عنده لأقدم له عرضا سريعا تخليدا لذكراه.. فقد كتب مستهلا المقدمة بقوله: “لا أظن أنني أحببت كتابا من كتبي قدر حبي لهذا الكتاب الحميم” وقد أرجع ذلك لشهرة هذا الكتاب التي بلغت الآفاق فيشعر معه بفرحة عارمة كلما وقعت في يده مجلة أو جريدة عربية أو أجنبية ويقرأ مقالا يتوسطه غلافه.. ثم بعد ذلك يستطرد في سرد قصص على هامش سيرته الذاتية كما اعتدنا منه أن يكتبها بشكل غير مباشر ينهل منها ولا يضعها في إطار مستقل فالمتأمل لكتابات عم خيري يجد أنه ينثر من مدخرات سيرته الذاتية على كل ما يكتب وأرجح أن يكون هذا هو السبب الرئيسي لرفضه كتابة سيرته كي لا يخنقها في حد معين، وبالعودة لمقدمة الكتاب فنجده يربط هوايته المفضلة في جمع واقتناء الكتب القديمة وبين قصة تحقيقه لهذا الكتاب وفي المقدمة تلخيص لما جمعه من تلك الكنوز من دمنهور إلى الاسكندرية إلى القاهرة التي يقيم فيها الشيخ علي خربوش بدرب الجماميز الذي عثر في مكتبته على مسرحية شعرية خالصة تحمل عنوان (يوسف الصديق) من تاليف القس إبراهيم باز الحداد والتي كتب تحت عنوانها انها مثلت في اواخر القرن الماضي وهذا دليل قاطع بان مسرحية (علي بك الكبير) لأحمد شوقي لم تكن هي اول مسرحية شعرية في تاريخ المسرح المصري بل سبقتها تجارب أنضج منها بكثيرومن خلال بحثه في تلك المكتبات القديمة وجد ان اكثر من مائتي مسرحية مطبوعة قد تم تمثيلها على خشبة المسرح في اوائل و أواسط القرن الماضي ولم تتناولها الكتب التي أرخت للمسرح المصري وبحث في(ريبرتوار) بعض الفرق المسرحية فلم يجد لأي منها ذكر رغم ما لها من قيمة فنية وتاريخية عظيمة و قد استجاب لاغراء أحد أساتذة الجامعة وباع له كما هائلا من تلك النصوص بثمن بخس على أن يسلط عليها الضوء بالدراسة المتخصصة وعزاؤه الوحيد أنه كان ما يزال محتفظا ببعض تلك النصوص المهمة ولما طال انتظاره لتلك الدراسة ولم يفصل فيها، أقبل على دراسة ما عنده بشغف عظيم وتقدم به لإذاعة البرنامج الثاني بأول مسرحية وقعت في يده حيث كان الاديب بهاء طاهر مشرفا على البرنامج وقد كان البرنامج على هيئة مجلة مسموعة فأعجبه الحديث جدا فاتفق معه على برنامج بعنوان (مسرحيات ساقطة القيد) وقد شجعه على ذلك صديقه إدوارد الخراط ثم ألقته هوايته لإكتشاف مسرحية للزعيم مصطفى كامل بعنوان (فتح الأندلس) وقد تناولها بالتحقيق ثم نشرها مع مقدمة كتاب في سلسلة مسرحيات عربية التي تصدر عن هيئة الكتاب.. ويعود بنا إلى قصة الكتاب الذي نحن بصدده (محاكمة طه حسين) و يحكي بانه في تلك الآونة وخلال ممارسته هوايته عثر على كتيب صغير أشبه بإمساكية رمضان مطبوع على ورق أصفر رخيص ومكتوب على غلافه قرار النيابة في قضية الشعر الجاهلي بإمضاء محمد نور، فغمرته فرحة عارمة لعثوره على هذا الكنز الذي لا يقدر بمال، فقرأه عشرات المرات وقرأ كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين بنصيه المصرح و المصادر، فبهرته ثقافة هذا النائب (محمد نور) الذي حقق مع الدكتور طه حسين في قضية من اخطر قضايا العصر، حيث انه كان يتوقع ان يقرأ مذكرة قانونية خالصة فإذا به يقرأ نصا أدبيا بكل معنى الكلمة من وجهة نظر قانونية..لذلك قرر أن ينشر تلك الوثيقة المهمة في كتاب قبل ان يسبقه إليها أحد وهي مهمة على حد قوله بسيطة حيث حصر مهمته في تقديم القرار فحسب وإلقاء الضوء على هذا النائب العظيم من خلال استعراض قراره والوقوف عند نقاطه الجوهرية تاركا لغيره من ذوي الاختصاص مهمة تحقيق القضية برمتها، لذلك فأنا أرى أن عم خيري لم يقصد من هذا الكتاب إنصاف طه حسين في المقام الأول بقدر إنصافه لواحد من جيل التنوير وهوالنائب (محمد نور) فشلبي لم يهتم بقراءة الكتب التي تناولت تلك القضية بالتفصيل ككتاب الشيخ الخضر حسين و المفكر الاسلامي محمد فريد وجدي مثلا وقد لام نفسه على ذلك بأنه لو كان عاد لمضبطة البرلمان الذي ناقش تلك القضية وقرا تلك الكتب لكان قدم قراءة شاملة وعميقة وشاملة للعصر كله بجميع تياراته لكنه في تواضع نبيل يتساءل ويجيب على نفسه : “هل كنت قادراً أصلاً على هذا العمل حتى تتندم على أنك لم تقم به؟! الجواب بالطبع: لا.. فلست بهذه الكفاءة العلمية كما أن هذا ليس ميداني ولم اتأهل فيه بأي مؤهل. ” فإنصاف عم خيري لطه حسين جاء مبنياً على النتائج التي خلص إليها النائب محمد نور، فمحمد نور لم يكن نائبا عاديا بل تناول القضية بالتحقيق و التفنيد والقراءة الواعية لمواجهة الأربع نقاط التي وردت مخالفة حسب أقوال المبلغين في كتاب الشعر الجاهلي و التي كانت محل الدعوى المقدمة في حق طه حسين من كل من الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشيخ حسنين و شيخ الأزهر ذاته الذي رفع تقريرا من علماء الأزهر لسيادة النائب العمومي و كذلك نائب البرلمان عبد الحميد البنان أي انها تحولت لقضية رأي عام، وقد اجتمعت كل تلك الدعاوى على أن الدكتور طه حسين قد ألف كتابا أسماه في الشعر الجاهلي كذب فيه القرآن صراحة وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف واهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى بما يخل بالنظم العامةويدعو الناس للفوضى وطلبوا اتخاذ الوسائل القانونية ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحكمة.. فلم يتعامل محمد نور مع القضية على أنها قضية عادية يجب مطابقتها بنصوص القانون الجامدة ولم يستعن بخبراء متخصصين في الأدب كما يُفعل الآن في تلك القضايا بل واجه القضية بنفسه وباجتهاده الشخصي وخرج علينا بتلك الحيثيات التي أوردها في كتابه والتي لم يكن يصل إليها إلا ناقد متخصص لا رجل قانون عادي وتعجب شلبي في كتابه كيف لم يكن محمد نور ناقدا مشهورا؟ وقد ارجع ثقافة هذا النائب إلى جيل الرواد الذي يقف على رأسه طه حسين نفسه في ذلك الوقت وهذا دليل دامغ لوجود اشعاع حضاري في مصر في تلك الفترة فقد وقف طه حسين متمردا على كل ما هو “مقيم” من قوانين وقوالب ثابتة في الفن والحياة..لذلك هو في كتابه في الشعر الجاهلي يتجرد من أي انتماء مستخدما المنهج “الديكارتي” الذي يصل بالشك إلى الحقيقة المقنعة لا الحقيقة الموروثة الثابتة والمتتبع لطه حسين يجد ان طريقته الجديدة تلك كان يقابلها حملة شعواء من المتمسكين بالقديم ويمكن اعتبارهم متخلفين في مجال الدراسات ويصفهم شلبي بأنهم يعيشون على سطح القديم كما تعيش الطحالب على سطح الماء لا يعنيها أن تعرف ما كنه الماء بل يعنيها أن يظل سطح الماء راكدا ثابتا لتبقى هي، ومن هنا جاء انبهاره بمحمد نور الذي اعتبره نموذجا حيا لنتاج التنوير في تلك الفترة فالرجل لم يتعامل مع القضية كقضية عادية بل تعامل معها كقضية فكرية وسعى بشتى الطرق أن يكسر جمود القانون في مقابل المرونة التي يجب منحها للمفكر المشتغل في البحث الذي يكن داخله نية نفع الناس لا الإضرار بهم و توافر تلك النية يسقط شبهة الجريمة وهذا ما وصل إليه في نهاية قراره و على أساسه قام بحفظ أوراق القضية بعد ان قدم مبحثا متكاملا ومهما معتمدا على مقدمات و شواهد من مقالات طه حسين نفسه الذي نشرها في جريدة السياسة لينفي فيها نية الضرر او التعدي على الدين المعلن للدولة و قد فند كل النقاط على حده بما لا يسع حصره في هذا المقال معتمدا على شواهد من كتب التراث وككتاب ابن سلام فخلص بان العبارات التي يقول المبلغون ان فيها طعنا على الدين الإسلامي إنما جاءت في الكتاب في سياق الكلام ولا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة بل الواجب بحثها وتقديرها في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق التي وردت فيه..ثم نراه يتقمص شخصية الناقد فيجمع المراجع والمصادر ويجري حوارا بين التاريخ وبين آراء الدكتور طه حسين فكانت النتيجة انه لم يكتب مذكرة قانونية فقط ليبني حكمه عليها بل كتب بحثا نقديا ممتازا من وجهة نظر قانونية هذا على حد تعبير الرائع خيري شلبي.. وفي النهاية ينتهي الكتاب بقرار النيابة بان تلك العبارات التي اوردها المؤلف في بعض المواضع من كتابه إنما أوردها على سبيل البحث العلمي مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها وهنا ينفي عنه القصد الجنائي وعليه ..
(تحفظ الاوراق إدارياً)
محمد نور
رئيس نيابة مصر
القاهرة 30 مارس 1927