حوار: حسين عبد الرحيم
يتذكَّر الكاتب يوسف القعيد ما كتبه نجيب محفوظ عن رواية الثورات، ومستقبل الإسلام السياسي، وكيف يصبغ رؤى الأدباء. ويتذكَّر هيكل السياسي، ود. محمّد حسين هيكل ورواية زينب، ويتحدّث عن الرواية العربية الجديدة والجوائز، وجائزة قطر للرواية، وحصاد رحلة كتابات وكتّاب الستينيات، وعلاقة الصحافة بالرواية والإبداع. يحدثنا عن ذلك كلّه ابن قرية (الضهرية، بحيرة)، الذي قَدَّم أكثر من ثلاثين عملاً إبداعياً ما بين القص والرواية والمذكرات، والحاصل على جائزة الدولة التقديرية، وقد قدّمت له السينما المصرية: «الحرب في برّ مصر» و«يحدث في مصر الآن»، و«الحداد».
§ ما موقفك أو شعورك وأنت تطرق عتبات السبعين وما هي أبرز المواقف والأحداث التي تتذكَّرها في هذا اليوم؟
– هناك رهبة وخوف ودهشة وتساؤل، كلّ إنسان يعرف تاريخ ميلاده، لكني لا أتصور أبداً أنني بلغت السبعين، إلا عندما اتصلوا بي في دار الهلال ليقولوا إنهم سيقيمون احتفالاً بسيطاً لسبعينيتي. أنت تعرف أنني فلاح ولدت في قرية الضهرية، إيتاي البارود، البحيرة وعشت فيها الـ 25 سنة الأولى من عمري.ولم نكن نحتفل فيها بعيد ميلاد، لا أبي ولا أمي ولا أنا ولا أخواتي. عيد الميلاد اختراع مديني، ولا أخفي أنني عندما استمعت إلى عبد الحليم (عقبالك يوم ميلادك يوم ما تنول إللي شغل بالك) استغربت، ثم رحلت إلى القاهرة. ووجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أعياد الميلاد، وأصبحت جزءاً من وجداني. ولا أنسى سنة 1961، عندما أقام هيكل احتفالاً في جريدة الأهرام بعيد ميلاد محفوظ الخمسين.
كان صلاح جاهين -حسب ما رواه لي نجيب فيما بعد- قد ذهب إلى هيكل ليستأذن في تخصيص قاعة الأهرام الكبرى للاحتفال بعيد ميلاد نجيب. في ذلك الوقت لم يكن نجيب كاتباً في الأهرام، ولم يكن ينشر أعماله في الأهرام، باستثناء الرواية (الأزمة) «أولاد حارتنا» التي أقامت الدنيا ولم تقعدها.
لكن (هيكل) قال لصلاح جاهين: نحن الذين سنقيم هذا الاحتفال لنجيب محفوظ. وكانت المرة الأولى، في الواقع الثقافي المصري، التي يقام فيها حفل بهذا المستوى، لأن نجيب محفوظ حكى لي إنه في هذا الحفل رأى لأول مرة ولآخر مرة أيضاً أم كلثوم، التي أعجب بها لدرجة أنه أطلق على ابنته الكبرى اسمها، ولم يبقَ في مصر، في الواقع الثقافي والفني والصحافي، إنسان يمثّل قيمة إلا دعاه هيكل للاحتفال بنجيب محفوظ.
حسب دراسات علم النفس فإن الذاكرة لا تولد مع الإنسان، لكنها تتكوَّن بعد ذلك عبر سلسلة من التجارب، أنا أتذكَّر صديقة كانت بالقرب من منزلنا ليست صديقة لمنزلنا لأنني ولدت ونشأت وتربيت في أسرة فقيرة لكنها كانت صديقة لأغنياء يعيشون بالقرب منها. وأتذكر حكايات أمي -يرحمها الله- عن الوباء الذي ضرب مصر في أيامي الأولى، وعن البعثة الطبية التي جاءت وسكنت في خيام في الوسعاية. ويومها وقع ابن العمدة في غرام الممرضة، وحدثت مشكلة، وأتذكر أيضاً رحلة قمت بها مع أبي إلى قرية في الناحية الأخرى من نهر النيل (فرع رشيد) لكي نذهب إلى شيخ ليكتب لي حجاباً حتى لا أموت مثل الأشقاء الذين سبقوني. وما زالت طقوس هذه الرحلة ماثلة في خيالي كأنها جرت بالأمس: وضع الشيخ يده على رأسي وكتب لي حجاباً بقلم أحمر( لم أستطع فكّه ولا قراءته)، وكان تحذيره الأساسي لي ألا تمس الحجاب، لأنه إن ابتل بالماء سأموت فوراً.
وقد حدث بعد هذا أن نزلت أستحمّ في النيل فابتلّ الحجاب بالماء، وعشت أياماً ولياليَ مخيفة أنتظر الموت أكثر من مسألة الموت حاولت أن أخفي أمر الحجاب الذي ابتلَّ عن أبي وأمي خوفاً من العقاب، لكن هذه الحادثة المبكّرة أكَّدت لي الدجل والشعوذة في أعمال هؤلاء الشيوخ المنتشرين في قرى ريف مصر. لأنني رأيت بقدسية أبي لهذا الشيخ، وشاهدت بعيني مَنْ ينتظرون المثول بين يديه، ورأيت أبي يوزِّع أمواله على من يحيطون بالشيخ حتى ندخل في دورنا، ومع هذا فقد باع لنا الشيخ وهماً، وهذا الوهم لم أتكلَّم فيه مع أحد على الإطلاق،لكن درسه لم يزل ماثلاً في وجداني.
§ بعد الاحتفالية التي أقامتها لك مؤسسة دار الهلال بمناسبة بلوغ السبعين كونك من المؤسِّسين الذين ساهموا في تأسيسها، كيف ترى علاقة المبدع بالصحافة؟ وكيف أثّر كلا المسارين في الآخر عبر مشوارك الإبداعي؟
– كثيراً من الأدباء الذين عملوا في الصحافة يتحدثون عن الصحافة باعتبارها «مقبرة» الأدب. وأنا أرى غير ذلك تماماً، فالعمل الصحافي يوفِّر الوقت للكاتب، كما أنه يمكِّن من رؤية الشوارع الخلفية في حياة المدن المركبة والمعقَّدة، لكن بشرط أن يفصل الأديب بين عمله الصحافي وكتابته الأدبية وأن تمثل مقولة همنجواي الشهيرة جداً «تناسب الصحافة الروائي تماماً بشرط أن يعرف الوقت الذي يهجرها فيه».
فأزمتي مع الصحافة إنني كلما فكرت في الكتابة عن تجربتي الصحافية، وقفت أعمال فتحي غانم حائلاً أمامي، أخشى أنني لا أستطيع تجاوز أعمال فتحي غانم في روايتيه: «الرجل الذي فقد ظله» و«زينب والعرش».
§ ذكر جمال الغيطاني- وهو من مجايليك- أن القعيد أديب كبير لم يحصل على ما يستحقه من الاهتمام حتى الآن، كيف تفسر ذلك؟
– ما قاله جمال الغيطاني في كلمته قاله هيكل مرتين: الأولى في كلمته المنشورة عني في العدد الأخير من مجلة الهلال، حيث قال إنني لم آخذ حقي الذي أستحقّه، والثانية في تقديمه لروايتي في الطبعة الثانية لقطار الصعيد، وإن كان هيكل يقول لي: «أنا أريدك هكذا أبداً، بهواجسك وتساؤلاتك وهمومك والظلم الرهيب الواقع عليك، لأن هذا الظلم ممكن أن يكون دافعاً للكتابة».
هذا الظلم وقصته الطويلة معي، والكلام عن أسبابه يحتاج إلى مجلدات، ولكني كلما تذكّرته، تذكرت قول أمي: «يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم».
§ ليتك تحدِّثنا عن مسيرة كتّاب وجيل الستينيات، وكيف ترى حصاد كتابات هذا الجيل وكتّابه؟
– جيل الستينيات يُعَدّ أنبل وأجمل ظاهرة أدبية في القرن العشرين. وبالنسبة للرواية والقصة فإن كان د.حسين هيكل قد أسَّس الرواية بروايته «زينب» التي صدرت عام 1914، وإن كان نجيب محفوظ وجيله قد أصَّلوا هذا الفن بكتاباتهم الأدبية الغزيرة، فإن جيل الستينيات هو صاحب المغامرة الكبرى في الكتابة الأدبية، حيث خرج من الكتابة المستقرة والسرد الأحادي الجانب،وترك الطرق التي اهترأت من كثرة المشي فيها، إلى بكارة الدهشة والقدرة على طرح الأسئلة ومحاولة تجاوز كل من سبقونا في الكتابة. أعرف أن محمد حافظ رجب،أطال الله في عمره، أطلق صرخة مدوِّية في النصف الأول من القرن الماضي، حين قال: «نحن جيل بلا أساتذة». فهو يعترف بأنه نشأ وترعرع وتربى من دون أن يكون له معلمون، ومهما كانت الموهبة متدفِّقة فالمعلم مهمّ جداً لأي مبدع.
§ كنت من المقرَّبين لشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ، فليتك تحدثنا عن نبوءاته في ما يخصّ مستقبل المعرفة وظاهرة الإسلام السياسي ومستقبل حرية الإبداع.
– كثيرون من كتّاب السياسة من أعداء ثورة يوليو 52، يتحدَّثون عن السجون والمعتقلات التي كانت في ستينيات القرن الماضي، وأنا ضدّها على طول الخط، لأنه لا يوجد مبرِّر واحد لتقييد حرية إنسان مهما كان المبرِّر. لكن- على الجانب الآخر- فإن مناخ يوليو ازدهر من خلال إبداعات أدبية لم تحدث في تاريخ مصر، لا قبل يوليو ولا بعد عبد الناصر، فلا يوجد حرف واحد كُتب في الستينيات لم يجد طريقة للنشر. فـ«أولاد حارتنا» التي اعترض عليها الأزهر، طلب عبد الناصر من هيكل نشرها في الأهرام بشكل يومي بدلاً من الأسبوعي حتى يكتمل نشرها قبل ثورة الأزهر، وقال لهيكل في التليفون: هذه رواية كتبها نجيب محفوظ ولا بدّ من نشرها. وعندما اعترض عامر على مسرحية «السلطان الحائر» لـ توفيق الحكيم، قال له عبد الناصر: إذا كان الحكيم قد نشر «يوميات نائب في الأرياف» أيام الملك، فنحن لا يمكن أن نكون أقل من الملك أبداً بأن نسمح بنشر النص.
مسرحية «الفتى مهران» لعبد الرحمن الشرقاوي، التي كانت تهاجم ذهاب جيشنا إلى اليمن صدرت عن الدار المصرية للطباعة والنشر -وهي دار الدولة- وقدّمت على خشبة المسرح وقام ببطولتها كرم مطاوع. ونُسب لنجيب محفوظ في الأيام الأخيرة، أنه قال «إن مصر تحنّ إلى أن تجرب حكم الإخوان»، والرجل الآن في دنيا الحقّ ونحن في دنيا الباطل،وأشهد أنه لم يقل هذا أبداً، ولكنه قال إنه مع الديموقراطية، أياً كان من تأتي بهم، حتى ولو كان الإسلام السياسي، بشرط أن تكون انتخابات حرة وشفافة ونزيهة.
§ في ظل الحراك الثوري التي تعيشه بعض الأقطار العربية، كيف ترى مستقبل الإبداع المعرفي والروائي؟
– لقد سئلت آلاف المرات بعد 25 يناير: ماذا كان سيفعل نجيب محفوظ لو أنه عاصر 25 يناير؟ قلت لمن سألوني إنه كان سيرحِّب بها، ويقف معها، لكن فكرة ذهابه إلى ميدان التحرير، أشكّ فيها كثيراً. لأن الرجل الذي توفِّي في 2006، كان في آخر أيامه لا يستطيع المشي ولا الرؤية ولا الاستماع. كنت أتعب كثيراً حتى أسمعه صوتي. نجيب محفوظ مع الشعب ومع الثورة، وله روايتان مهمّتان عن الثورات: ثلاثية «بين القصرين» التي بدأ كتابتها سنة 1948، عن ثورة 1919. وقد كتب رسالةإلى صديقه الذي كان يدرس في لندن، قائلاً:«سأكتب رواية عن استشهاد أخي في ثورة 19. وكانت البذرة الأولى للثلاثية، التي كتبها بعد الثورة بـ30 عاماً. وأقول هذا الكلام لمن يستعجلون كتابة الروايات عن 25 يناير، لقد كتب الثلاثية بعد ثلاثين عاماً من الثورة، ونشرها بعد أربعين عاماً من قيامها.أمّا الرواية الثانية عن الثورة فهي «السمان والخريف»، وقد كتبها عن ثورة يوليو 1952، ونُشرت عام 1962، أي بعد الثورة بعشر سنوات. وأكرر: إن من يستعجلون الكتابة عن 25 يناير أو 30 /6 أو 3 /7 لا يفهمون أن جوهر الكتابة الإبداعية،في أنه لا بدّ أن تفصل الروائي فترة زمنية كافية عن الحدث الذي يكتب عنه، ولا بد أن يكتمل الحدث على أرض الواقع أيضاً، حتى يمكن تناوله روائياً، وفي هذه الحالة فإن جماليات الفن الروائي يجب أن تكون متوافرة. شرعية الرواية أن تكون رواية أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً، أما الموضوع الذي تتناوله فهو قضية أخرى، ولا ينبغي أن يشكِّل شرعية النص بأي حال من الأحوال.
§ ما موقفك من الجوائز العربية التي مثّلت طفرة نوعية في الحقبة الأخيرة؟
– الجوائز العربية مسألة شديدة الأهمية في حياة المبدعين، وهي تعني أن مجتمعاتهم قررت أن تتوقَّف لحظة لتقول شكراً لمن ساهم بالإبداع في خدمة قضايا بلده. وكثرة الجوائز أمر يسعدني، وارتفاع المبالغ التي تُقَدَّم فيها يسعدني أيضاً ،لأنها تريح الكاتب من عناء الجري وراء لقمة العيش، وتوفِّر له أماناً مادياً، فهو في أمَسّ الحاجة إليه ليوصل رسالته. الجوائز العربية نوعان: نوع يحمل أسماء أشخاص؛ الملك فيصل، البابطين، الصباح، شومان، الشيخ زايد، وهي جوائز تختلف ملابساتها وظروفها باختلاف أصحابها والإمكانات المتوافرة لدى من يقومون بها، وأتمنّى استمرارها والتوسُّع فيها، ورفع قيمتها المالية، وكذلك أن تطبع أعمال الفائز كاملة بعد إعلان فوزه، ولا يقتصر الأمر على منحه مبلغاً من المال، لأن نشر أعماله، ووضعها على الإنترنت أهمّ وأبقى من أي أموال يمكن الحصول عليها. وتوجد جوائز مستوردة تحمل أسماء جوائز عالمية، وأنا لا أدري السبب في وجودها، فنحن يمكن أن ننشئ جوائز عربية تحمل أسماء عربية، ولا نستورد الثقة ولا الاسم من الخارج. توجد جوائز دول عربية شقيقة كثيرة مثل جائزة الكويت، وجائزة دبي، وجوائز السلطان قابوس، وجائزة قطر التي تمّ الإعلان عنها مؤخَّراً.
لكنني أتمنى من القائمين على لجان تحكيم هذه الجوائز، النظر في القيمة الأدبية والإضافية، بمعنى أن يشكِّل النص أو الكاتب الفائز إضافة حقيقية إلى الفن الذي يكتب فيه، وألا يكون الانتصار لكتابة تقلّد الغرب أو تعادي الأصالة، أو لا تعبِّر عن هموم الإنسان العربي الآن. لا أتحدث عن الكتابة التقليدية وكتابة التجريب، ولا عن صراع الشباب والشيوخ، ولكني أركِّز على فعل الكتابة في الأول والآخر. أعرف أن القائمين على هذه الجوائز بشر، والبشر يصيبون ويخطئون، وثمة أهواء شخصية، ومن الممكن أن ينحاز هذا الناقد أو ذاك المحكِّم لبلده أو لكتابة معينة يحبها. لكنني أرى أن ثمة شلة واحدة توزّع نفسها على كل لجان هذه الجوائز. يختلف اسم الجائزة واسم البلد الذي يمنحها لكن المحكمين هم هم، يحملون حقائب السفر من عاصمة إلى أخرى، لأن القراءة في الطائرة لا تصلح للتحكيم، وقراءة الترانزيت في المطارات لا توصل إلى نتائج حقيقية وصحيحة. أحدث هذه الجوائز هي جائزة قطر، وأنا لا أعرف شروطها لأن ما نُشِرهو أخبار صحافية لا تغني عن التفاصيل، وأتمنى لها التوفيق الكامل. أتمنى أيضاً ألا تحذو حذو الجوائز الموجودة على الساحة، وأن يستفيد القائمون على الجائزة من مراعاة أمور أشبه بالدستور هي: الابتعاد التام عن السياسة حتى يضمنوا للجائزة مردوداً حقيقياً، وأن يدركوا كذلك أن تقاليد أية جائزة ومحافظتها على تقاليدها وتعظيمها، هي التي فرّقت بين نوبل والجوائز الأخرى. يجب أن ينظر القائمون على جائزة قطر إلى النص وكاتبه بعيداً عن أية اعتبارات أخرى، وإن كان لابدّ من الاستفادة من نظام جائزة سابقة، فلديهم جائزة نوبل، وجائزة الغونكور الفرنسية، وجائزة بوليتيزر الأميركية.
§ حَدِّثنا عمّا لفت انتباهك من عناوين الروايات العربية الجديدة.
– أحاول أن أمنع نفسي من ذكر أسماء حتى لا أنسى أعمالاً مهمّة، ولكن هذه السنوات يمكن أن تسمّى ربيع الرواية العربية. يوجد انفجار روائي وقصصي عربي لم يحدث من قبل، ويبدو أن عبارة «لوكاتش» المجري الذي لم يكتب إلا عن الرواية، وقال إن الرواية لا تزدهر إلا في فترات الاستقرار السياسي والاجتماعي، يبدو أنها مقولة غير دقيقة، لأن نصف القرن الأخير كان فترة التحوُّلات الكبرى في المجتمع العربي وكذلك الانقلابات الرهيبة، وبرغم ذلك أنتج لنا أعمالاً شديدة الأهمية يمكن أن تضيف جديداً للمغامرة المصرية في كتابة الرواية.
________
*الدوحة