فيلم “رجل سكة الحديد”.. الوجه الآخر للجلاد والضحية


*محمد علوان جبر

يحيلنا فيلم “رجل سكة الحديد” الذي عرض في مهرجان دبي للأفلام السينمائية عام 2013″ الى حقيقة النفس البشرية في دفاعها عن إنسانيتها وبحثها عن هويتها التي انغمرت في ركام هائل من العنف البشري الذي يكاد ان يمسخها في كل لحظة ، ويقدم لنا المخرج الأسترالي ” جوناثان تبليرتزكي ” وجبة سردية صورية سينمائية طوال اكثر من 100 دقيقة ، متناولا العنف الذي واجهته سرية من سرايا القوات الانكليزية التي تقع في اسر القوات اليابانية عام 1942 في تايلند … في ذلك المسرح الذي تتم فيه ممارسة اقسى ما يمكن ان يتحمله الجسد البشري ،

السيناريو الذي كتبه السيناريست فرانك كتريل بوس واندي باترسون اعتمادا على قصة حقيقية لضابط في الجيش الانكليزي هو ” اريك لوماكس ” الذي عذب في سجون اليابان إبان الحرب العالمية الثانية .. فنرى ” اريل لوماكس ” الذي أدى دوره ببراعة الممثل ” كولين فيرت ” منطويا .. يتابع بشغف خرائط السكك الحديدية التي نشأت علاقة عميقة بينه وبينها . فهو يعرف المحطات والقطارات ومواعيدها وكم عدد القاطرات التي تسحبها المكائن ونوعها .. والمدن التي يمر بها وبماذا تشتهر ..” يسافر طوال حياته جامعا تذكارات السكك الحديدية ” او كما يصفه صديقه ” لم تكن حياته سوى قطارات ” يتعرف بالصدفة في احد القطارات على امرأة جذابة ، تؤدي دورها الممثلة ” نيكول كيدمان ” فيخبر أصدقاءه في نادي قدامى المحاربين والذي نعرف فيما بعد انهم يشكلون من بقي من تلك السرية التي تم أسرها في عام 1942 يخبرهم “انه وقع في الحب ” وبعد لقاءات قليلة ، يتزوجان في الكنيسة ونرى ان تلك السرية كلها تؤدي لهما التحية العسكرية فيما هما يمران في الممر المؤدي الى الكنيسة ، بعد الزواج .. تكتشف الزوجة انه يعيش كوابيس غريبة ، فنراه في لقطات حلمه ، وهو يخضع الى تحقيق من قبل شخص ياباني ، تسأله ولاتجد إجابات لديه ، لكنها بعد تكرار هذه الأحلام تلجأ الى اصدقائه في النادي الاجتماعي ، يكشف لها احدهم ماعاشوه من رعب حينما تم أسرهم وعزلهم عن العالم تماما ، ولان السرية هي فنية ، فيستفيد منهم اليابانيون في الجوانب الفنية في اصلاح المحركات وتشغيلها ، يقومون بلملمة جهاز من بقايا المعدات الفنية يقوم بما يقوم به الراديو لكي يتابعوا اخبار العالم .. اخبار المعارك . اخبار الحلفاء في تقدمهم نحو معاقل النازية ، بعد ان يتم اكتشاف جهاز الراديو يوضعون أمام محك التحقيق الذي ينتهي بان يعترف ” اريل اومكس ” بقيامه باختراع الراديو خاضعا الى تحقيق رهيب من قبل ضابط الاستخبارات الياباني يؤدي دوره باقتدار الممثل الياباني ” هيروكي ساندا ” تعذيب يتم فيه تكسير الجسد وتقطيعه وبعد انتهاء الحرب لاشيء يبقى في عقله البطل سوى صورة جلاده عالقة في ذاكرته وهي تمارس طغيانها وجبروتها عليه في أحلامه وفي حياته اصبح مهووسا بالسكك الحديدية ، لأنه امضى فترة أسره عاملا في شق الطرق ونصب السكك الحديدية ، هنا يمكن ان نحيل تعلقه بالسكك الحديدية وخوفه من الجلاد وقوعه تحت هيمنة فترة أسره التي كانت عملية شق طرق ونصب السكك لقطارات الحرب .. تتأرجح علاقته الزوجية بين الاستقرار والتشنج ، لكن صبر الزوجة يكاد ان ينفد فيفترقان فترة ويعودان . وفي احد الأيام تصل اليه معلومة من احد رفاقه في النادي ان جلاده الياباني لايزال حيا ، ويعمل في بقايا معسكرات التعذيب كدليل للسياح بعد ان تحولت تلك المعسكرات الى متاحف تظهر الحقائق المرة التي عاشها الأسرى إبان وقوعهم تحت سطوة جلاديهم ، ” إذن هو حي ” يسلمه السكين التي جلبها معه من الأسر والتي كان يعذبه بها جلاده ، حالما يصل الى المعسكر الذي تحول الى متحف محاط بالحدائق ويؤمه سياح من كل مكان ، في لقطة اخراجيه هائلة يجد نفسه وجها لوجه مع جلاده ، الذي لم يتعرف عليه ، يبقى يحوم حول المتحف وقبل الإغلاق يدخل الى احدى الغرف وينتظر ” ساندا ” الذي يدخل ويراه .. يخبره ان المتحف قد اغلق ، يقول له انه أتى من مكان بعيد .. أتى ليعرف ما الذي جرى هنا وهو يشير الى صور لرجال ” أريد ان اعرف ماذا حدث لهم ” ثم يناديه باسمه ، يسأله : ألم تعرفني ، يردد الجلاد اسم لوماكس ، ثم تبدأ عملية الاستجواب المعكوسة ، الضحية تستجوب الجلاد ، هنا تبدأ براعة ” السيناريو ” واللمسات الاخراجية الفنية المحكمة .. سيناريو يرقى الى عمق الأحداث وقوتها ، تتناغم معها الرؤية الاخراجية المعتمدة على الفلاش باك الحي وامتزاج الماضي بالحاضر .. بين الحلم والواقع ، يسأله كيف نجوت وأنت مجرم حرب ، يجيبه : “قلت لهم اني مجرد مترجم ، وفيما بعد عملت في المقابر ورأيت الكثير من الجثث ” يجيبه ” ذهبت لتدفن من قتلتهم ” ” لم اكن أتصور ان يموت كل هذا العدد ” وحينما تبدأ عملية التعذيب العكسية ، يضع يد الجلاد على حامل خشبي وحينما يهم بان يحطمها له كما فعل ذلك من قبل به ، يفشل فيطيح بالمنضدة الخشبية ، ويضع السكين على رقبته فيفشل في حزها ، ويقوده الى تلك الصناديق الصغيرة التي كان يحتجز بها ايام طويلة يغلق إحداها عليه ويذهب الى الغرفة المظلمة الغرفة المخيفة التي كانت تراوده في أحلامه بشكل يومي والذي لم يستطع التخلص من كوابيسها .. حينها يتوصل الى يقين ان لافائدة من القتل ، يفك اسر جلاده من الغرفة الخشبية ويلقي السكين في الماء ويعود ، وهو يحس بانه قد تحرر تماما من كوابيسه … ويتلقى رسالة من الجلاد ، يشرح له فيها انه مذنب وانه مستعد لان يغرس السيف في معدته اذا لم يسامحه .. فيكتب رسالة ويقرر ان يسافر هو وزوجته الى تايلند وبعد وصولهما يسلمه الرسالة بيده .. فيركع الجلاد وهو يصرخ انا اسف .. هذه الرسالة الرائعة التي قدمها لنا هذا الفيلم الجميل ” يجب على الكراهية ان تتوقف ” رسالة في شكلها الجمالي الأخاذ .. تمثيلا وإخراجا وموسيقى تصويرية ومؤثرات هائلة.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *