مباهج اللغة في محراب «قصائد للقصيدة» لعاطف الفرّاية


د. سهى فتحي نعجة *

 عاطف الفراية شاعر نابهٌ مثقّف، يناجي ويجاهد ويكابد ويشفّ ويتماهى ويتسامى في مَراقٍ ومقامات مأنوسة مخضبة بالرمز وبالأنين وبالكشف وبالانخطاف وبلذّة العلوان، ويتنبأ بنوافذ ضوئيّة وفيوض تنويريّة تُخلصُ للذَّات ولِلّلذّات حسنةِ النوايا، وتُشَعْرِن الحياة في ضوء انعطافه على تشكيل شفرات نواة بنية لغوية شعريّة سرديّة حواريّة دراميّة حذرة متماسكة تنتصر لجدلية السيرورة والصيرورة، والخفاء والتجلي، والضوء والعتمة، والحضور والغياب، والخشوع والغواية، وتسخو بموسيقى وقور يشيعها تآلف الحزم الصوتيّة، والتحكّم البارع، والتواشج الحميم بين التفعيلات الداخلية في القصيدة بزحافاتها وعللها من جهة، والتناغم بعامّة من جهة ثانية بين تفعيلات نهايات قصائد المحراب الأول (قصائد للقصيدة) في مجموعته «محاريب الأنثى» ضمن ديوانه «أنثى الفواكه الغامضة» التي جاءت كلها -ما عدا قصيدة واحدة- ساكنة الآخر: «لا يقالْ»، و»قبل أكونْ»، و»ما انحنيتْ»، و»يسرقون الحياةْ»، و»ارتقبوا عاصفةْ»، و»لا تعيشُ سوى بدفئكْ».

إنْ هذه القفلات السّاكنة إلا تعبيرٌ شفيفٌ عن سياق حال الشّاعر الإنسان الملتوت بالوجع والدّمع والقهر واليأس والمرارة والخراب والخواء والاستلاب والحصار والتشظّي والخذلان في ضوء ذاكرة مثقّفة مُثقلة مُنهكة أضحى الكلام فيها الماءَ والرغيف، وغدا الواقع تاريخاً ينهض بسلالات بلهاء تجيد التصفيق لنسل قابيل، وتصلّي لبغاث يستنسر، وتستجدي صكوك غفران من قطط بشرية هرمة مستأسدة، وتحترف البكاء على فقراء وأرامل وعذارى ودّعتْ شنفراها سليل الصعاليك، وتجتهد في النبش والتفتيش عن فضليات كخديجة تدثّر الشعراء بدفء حكمتها، وتمهرُ رواية قصص تحكي خيبة الليل ببوح النجمات للشبابيك، وجَلْدِ المرأة الفضيلة بسياط القضاة الذكور المسكونين بذهنيّة قبليّة قمعيّة، ونبض قصيدة توقّفَ في قلب شاعر غبّرته حكايا البائسين والحارومين، وشحّ العطر في عزّ الربيع، ويباس الروح المعمورة بالنور، ووجع النايات على الحاضرين الغائبين، وجمر المسافة بين المعلّم والمريد، وظمأ الوجدان إلى بحر لا يضيق بالنوارس، ونخلة تتقوس سعفاتها لوفرة المعنى في العذوق، وخُطَا تنتعل الشمس وتغُذّ الشّوق للعابرين، والْتحاف أغنيات مؤنسات خشية جنون البغاة الطغاة، وامتشاق السّلاح من لدن فارس جبان يمتطي صهوة حصان ورقيّ خانه الصهيل: 
«هو الشِّعرُ
حبلُ المشيمةِ ما بيننا والغيومِ إذا ما
انهمرْنا لنولدَ
– لا مثل ما يولدُ الناسُ-
ننهلُّ من ديمةٍ لا تملّ.
هو الشّعرُ
كلُّ الذي فاتَ
كلُّ الذي صارَ.. كلّ الذي قيلَ
كلُّ الذي لمْ يُقَل في الخيالْ».
في محراب «قصائد للقصيدة»، ينكسر المسار الخطّيّ للزّمن التقليديّ ليتشكل مسارٌ زمنيٌّ نحويٌّ دلاليٌّ مركّب؛ فرديّ وجمعي متنامٍ متماسك ينفتح بتقنية عالية على البنية الشعريّة التي تمتح أقانيم حضورها عبر توزيع كميّ ونوعيّ مدروس لكثافتها النحوية والدلالية والإيقاعيّة، ومن تفاعل نصّي لمكوناتها ومرجعياتها المعرفيّة ومحمولاتها الثقافيّة الفكريّة والتراثيّة والمعاصرة الدياليكتيكيّة المعلنة والمضمَرة التي تتجاوز سلطة النص وذاتها من غير أن تحتجب وراء تلقِّ سياقيّ أحاديّ مغلَق حول الجوانب الأنطولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة الضمنيّة المفصليّة لجوهر الوجود والتجلّي عبر إقامة شبكة مركّبة من المفاهيم والتصوّرات النصيّة الجماليّة التي تتعالق وحقول دلاليّة وتنفتح على أنساق علاماتيّة معرفيّة رمزيّة متنوّعة. 
لقد صدر عاطف الفرّاية في محراب «قصائد للقصيدة» عن رؤيوية بانوراميّة تجيد قنص التوهج في الحالة الشعرية التي تحيل الشعر إلى كائن حيّ متجدد بتجدّد حالات القلق المنتج لدى الشاعر، ومتعدّد بتعدّد مستويات التلقي، وتؤمن بأن الصورة الشعرية انزياح يستدعي الحواسّ جميعاً بدرجات متفاوتة في القصيدة الواحدة، وبأنها ليست عملية تقف عند حدود التشكيل وإنما تنتمي في جوهرها -كما يرى عز الدين إسماعيل- إلى عالم الفكرة؛ فهي تركيبة تفاعليّة عقلية وعاطفية تتجاوز الزمن التقليديّ إلى الزمن النفسيّ الذي يُنَضّج القصيدة، ويرفع منسوب الدهشة فيها، ويضيء المساحات الانفعالية المعتمة. كما تؤمن بأن القصيدة تلخّص مغزى الوجود، ومنازل الحال ومسالك الترحال في مفهومه للشعر، وبأن الشّعر ضوء يخاتل ويكاشف، وينكسر وينعكس، ويمور بالمفارقات المقلقة، فيبصّر بالهامشيّ والمركزيّ، والفاعل والمنفعل، والحرّ والمقيّد؛ الضوء المعادل لماهية السفر الذي تجلّى في قوله: «الشعر مرْكِبُنا الذي نسافر عليه في بحره لنصلَ إليه» قبل استهلاله قصيدته الأولى «حين تنأى بالقصيدة» التي تكثف في مقطعها التّحيينيّ الذي افتتحت به القصيدة أسلوبَ الأمر الذي تناوب بين الأمر الحقيقي: «توَضَّأْ»، و»اخلَع»، و»ادخلْ»؛ والنهي: «لا تَيَمِّمْ» بقوله:
«حينَ تكتبُ شِعْراً
توضّأْ قُبيلَ القصيدةِ
ثم اخْلَعِ النّعلَ وادْخلْ إليها بباقةِ وَرْدْ
ولا تَيَمّمْ بِجَمْرِك إلا إذا
جَفَّفَ القهرُ أنهارَك الجارياتِ
على شجرِ الروّحِ أو
حينَ تستمطرُ القلبَ والقلبُ يأبى».
فالكتابة صلاةٌ يخشع في حضرتها الحبرُ إذ تتأبّطه الكلمات بعد وضوء، فتنهد في الشاعر قصائد ملتاعة تضوع معنى ومبنى.
في محراب «قصائد للقصيدة» انحاز عاطف الفرّاية إلى النص اللذّة متعالقاً مع رؤية رولان بارت بأن الكتابة فعلٌ إغوائيّ لذّيّ، ومتناصّاً مع قولة الرافعي: «اللذة لا تموت حتى تلد ما يُبقيها حيّة». والشعر لذّة تلدُ لذّات تحترف إيقاد الدهشة في السائد والتقليدي، وإيقاظ الجمالي في دوام تفلّتها من التحجّر والتصنّم والتشيّؤ.
وقد تمركزت هذه المقصديّة اللذيّة في قصيدة «الشاردة» عبر العنوان العتبة الذي تماهى والفضاء الدلالي الحرّ للدّالّ الفعليّ «طلّقتها» الذي ختمت به القصيدة، كما وشى العنوان العتبة بخصوبة مخيال الشاعر، وقيظ حواسّه -ولا سيما حاسة اللمس-، وتولّعه بشعرنة اللذّة، وبأنْثَنَة القصيدة ومراوغتها حيث تشكل المعادل الموضوعيّ لأنثاه: دالاًّ ومدلولاً.
كما تمركزت هذه اللذيّة في الدّوالّ والتراكيب اللغويّة التي تستبطن ذاتاً رئيّة تهجس بمكنوناتها وشطحاتها، نحو: «هممتُ بها»، و»راوغتني»، و»أعتقتُها»، و»هِمْتُ»، و»تزوجتُها»، و»استويتُ على عودها/ ثمراً ناضجاً»، و»ارتفعت على سعفها رطباً»، و»حاضنتها»، و»طلّقتها» التي كشفت عن سيميائية مشهديّة تصويرية حوارية إيروسيّة صوفيّة باذخة تمور بطقوس المفارقة والغواية التي تضرب جذورها في المحمولات الثقافية، وتشتعل بسنابل الرغبة المشروقة بالمقدّس والمدنّس: و»قالت: أخاف الإله»، والتمنع والمكابرة في الثقافة العربيّة: «وأوهمتها/ أنّني/ رغم أنفي/ طلّقتها»:
«تبّ أنفُ القصيدةِ..
إنّي هِمْتُ بها كلّما راوَغتني
وقالت: أخافُ الإلهَ
رغمَ أنفِ الخليقةِ
إني اتُهمْتُ وهِمْتُ
بها دونما شاهدٍ.. وبألفِ دليلٍ
تزوّجْتُها.
ولكنّها كلّما ابتعَدَتْ عن شفاهيَ.. أو
هربتْ من جنونيَ
حاضَنْتُها
واستويْتُ على عودها
ثمراً ناضجاً
وغدوتُ أنا جذعها والغصونَ
وأوراقَها.
كلّما هبّتْ الرّيحُ أو طيّرتْ
ورقاً من أعالي سناها
تملّكتُها
وارتفعتُ على سَعْفِها رُطَباً
ليس يشبِهُهُ شعرُ كلّ الذين
فنَوْا تحت جذع القصيدة أو حاولوا
قطفها
ويا عجباً!
كلّما غاب عنّي
هواءُ الغزالةِ.. أو ريحُها
رافَقَتْها القصيدةُ في نأيِها
وجففتُ..
وأوهمتُها
أنّني
رغمَ أنفي
طلّقتُها».
وتمركزت هذه اللذيّة عبر عنصر الحركة النفسية والمادّيّة الذي شاع في قصيدة «كن.. أكون» عبر الدوالّ والتراكيب: «قلَق»، و»الغزالة»، و»الركض»، و”الخيل”، و”الطير”، و”للنهر حين استراح من الجريان”، و”أومأ”، و”الجريان”، و”عبروا”.
وتتماهى اللذّية الشعرية في محراب “قصائد للقصيدة” بإشاعة الوعي والمفاجأة الشعرية والحساسية الجمالية في المتلقي إذ يمازج بين لذّتين:
الأولى: اللذة اللغويّة الفعّالة لما يريد؛ فقصيدته حرون، ركبتْ رأسها، ونشدت الفضاء لرئتيها، لتتفلّتت من معياريّة الشطرين عبر اللعب على:
– ثيمة تنافر مكوّنات الصورة، أي خرق المأنوس عبر خلق صور جديدة (متلازمات الضديّة) تكسر توقع المتلقي، وتخلق حالة من التوتر الضدّي الواعي المدروس في علاقات المجاورة التركيبية، وتغْني البؤر الجمالية في البنى النحويّة. من ذلك قوله: «أهزوجة الرعد»، و»خشوع الغواية ليلا»، و»إنْ ذبحُوا بسلاحِ جبانٍ»، و»وسادة رأس الغريب»، و»دِنّ الليالي الكئيبة»، و»للنهر حين استراح من الجريان»، و»غبار الأصابع».
– ثيمة المتلازمات الضديّة المألوفة نحو: «دموع الصبايا وضحكاتهن»، و»مستودع السرّ والجهر/ والحبّ والجرح/ …/ والذنب والتوب/ والصبْيَنات/ حصان المعارك والانتصارات/ والانكسارات.. والزوبعات»، و»سرج البداية/ سرج النهاية/ همس الحليم.. صراخ الجهول/ سراج الضرير .. ضياء البصير».
– ثيمة التعليق بالتكرار/ الترجيع عبر تكرار كلمةٍ ما في السّطر الشّعري: “الكلام”، و”الرغيف”، و”البكاء”، و”أهازيج”، و”جمر”، و” طيف”، والتساؤل” وغيرها، بجعلها الكلمة المفتاحيّة للسّطر الشعريّ اللاحق، وهي الثيمة التي مازت القصيدة المركزية في المحراب «حين تنأى بالقصيدة» وجعلته نصّاً شعريّاً غنيّاً بالشّفرات الجمالية؛ مسوّرا مُبَأّراً بهارمونيّة بندوليّة تسِمُ حركيّة المقطع الشعريّ، من ذلك قوله:
«هو الشّعرُ
كاهنُنا الأبديُّ إذا ما أقمْنا الصلاةَ على
حُزْنِنا أو على رَغبةٍ في سياقِ الكلامِ
الكلامُ الذي
طالَ مثلَ الزمانِ إلى أن غدا ماءَنا والرغيفَ
رغيفُ الحكاياتِ
من دم هابيلَ حتى
أقاصي البكاءِ
بكاءُ البعيدين إن ذكروا الغائبينَ
على وجعِ النأي ِ
حتى يصيرَ الحنينُ أهازيجَ
أهزوجة ُالرعدِ حين
تُغنّي السّماءُ لماء تسرّب من شِقّها
نحو جَمْركَ
جَمْرُ المسافة بين المريدِ وبين المرادِ
إذا اشتدّ وَجْدُك في هدأةٍ من خشوعِ الغوايةِ ليلا
فزارَكَ طيفُ الحبيبةِ
طيفُ البدايةِ
عندَ التساؤلِ عن لحظةِ الإنخطافِ إلى الحبِ
حين يصيرُ التساؤلُ نهرَ غناءِ»
هذا التكرار/ الترجيع علامة على تماسُك النصّ الشعريّ؛ ومحدّد لمركز الثقل بين الدوال التي تحكم البنية الإيقاعية. في ما يشير تكنيك التكرار/ الترجيع في قصيدة «الصدى» الذي نزع فيه الشاعر إلى تكرار/ ترجيع الكلمة الأخيرة من كل مقطع شعريّ، إلى توقف الزمن النفسيّ في الحالة الشعرية، ولا سيّما عبر سيميائيّة كتابة الكلمة المكرورة التي انتهجها الشاعر وتمثّلت في مسافة بياض غير متوازية في السّطر الشّعريّ قبل الكلمات “خائفَةْ” و”راجفَةْ”، وناشفَةْ”، التي تتكرر بانسيابيّة عالية على تفعيلة “فاعلن” لتليها المقاطع الشعرية المكتظة بالدوالّ والتراكيب التي تتناصّ مع حالة الوحدة والصمت التي تمتدّ في الشاعر، نحو دوران الدال المؤكد (وحده) في القصيدة، ونحو شيوع الدوالّ والتراكيب («ضاع»، و»أضاع»، و»لم يجد غيره»، و”المتاهات، و”فراغ القصائد”، و”خانها”، و“ما تبنّاه حزب”، و” ولا أرضعته الدوائر”، و”ما احتفل الحاسدون به”، و”بطعم مرارته”، و”بطعم غبار الشوارع”، و”عاصفةْ”) التي تمثّل حالة الاغتراب والانغماس في فكرة الشعور بالرفض من الآخر التي تستغرق الشاعر وتختمر في ذاته:
« وحده وحدَه
يقتفي ذاته في المساءات الخائفةْ
خائفةْ 
وحْدَه وحدَهُ
شاعرٌ ضاع من نفسه
وأضاعته مهرته الراجفةْ 
راجفة 
لم يجدْ غيرَهُ في الدروب
المتاهات
أو في فراغ القصائد
تلك التي خانها زمناً
والسماء التي جاوز الحدّ في دوسها
ناشفةْ
ناشفةْ
ما تبنّاهُ حزبٌ
ولا أرضعته الدوائرُ
ما احتفلَ الحاسدونض بهِ
حاولوا وقفَ نبضِ القصيدةِ في دمهِ
حاولوا ألف عامٍ
وها وحدهُ
عادَ يركضُ خلفَ قصيدتِه
المشتهاةِ بطعمِ مرارتهِ
لا بطعم سواهُ
بطعم خطاهُ
بطعم غبارِ الشوارعِ
طعمِ الغريبِ على الأرصفةْ.
أرصفةْ
فارقبوهُ ارقبوهُ إذا ما تفجّر
وارتقبوا 
عاصفةْ».
هذه الحالة الشعورية اليابسة العابسة التي تجلّت في انعطاف الشاعر على مقام مُمْحِل في قصيدة “المبتورة” التي أهداها إلى بغداد مقتبساً قول الشاعرة ريم قبس كبّة: «من بعض صمتك أمْحلت فيّ الضفاف، فلا تصعّر صوت كُلّك»، فذاعت في القصيدة دوالّ تنبئ عن مقام المحل هذا نحو: “ينمحي”، و”الجفاف”، و”ظمئتْ”، و”لا يبسم العشب النبيل”، و”على جفافك”، و”لستُ أتمّها”، في قوله:
«من بعضِ شِعركِ
ينمحي فيّ الجفافُ
فلا تكوني غيرَ 
شِعرك
أنا هذه الأرضُ التي
ظمئتْ إليكِ
رمَتْ عصاها تحتَ
ظلّك
لا يبسمُ العشبُ النبيلُ
على جفافِكِ
بل على تسبيح عزفكْ
بيني وبينك من تراتيل الهوى
بحرٌ.. ونهرُ مثلُ
قلبكْ
بغدادُ لستُ أُتمّها هذي القصيدةُ
لا تعيشُ سوى
بدفئكْ».
واللذة الثانية: اللذة الأنويّة العُليا (الانغماس في الذات) التي تماهت في وجدان الشاعر، وتحولت إلى بؤرة لحظته الشعرية رغم قلقه الوجودي، وأرقه في اقتفاء حياة تنويريّة تعلي صهيل الشعراء المكدودين، وتضرم النار في حطب الحيرة الملتبسة في رؤاهم.
هي اللذة الأنويّة العليا الرؤيويّة الصوفيّة المنشغلة بالأنا والآخر التي وشَتْ بها الدوالّ والتراكيب في قصيدة “حين تنأى بالقصيدة”، نحو: “الصّلاة”، و”جمر المسافة بين المريد والمراد”، و”لحظة الانخطاف إلى الحبّ”، و”يسيل على لحظة الكشف”، و”الجذب” و”الطرد”، و”الجلال”.. وكذا ما وشى به «كن أكون»، عنوان القصيدة الثانية في المحراب الذي يشير إلى مفهوم الكمال الإنسي عند الصوفية وبخاصة عند ابن عربي؛ هذه الأنويّة التي تُبْصِرُ الشاعر إذا ما فُكّ لجام قوافيه مرْكَزاً وبؤرة، فإنه يُشَرْعِن طقوس الكون ويُشَعْرِنها، ويبشّر برؤى صحيحة لا تعتلّ، تفارق لزومها إذ يباغتها الملح والجرح والشمس والصبح، فتتعدّى باحتراف على مكانز الجمال، ومفاتن الدهشة في الكون وتمتح صورها منه:
«فيا ربّة الشعرِ فكّي لساني أقُلْ
ما تشاء الخليقة من حلو أيامها البيض
فكّي لساني
لأهمي على الزرعِ شلال سُقيا».
هي اللذة الأنويّة العُليا التي تجابه، وتواجه، ولا تهادن:
«آآآآه يا شاعراً
أينما بثت الريحُ إعصارها
كنتَ في وجهها واقفاً
ما انحنيتْ».
لذّة أنويّة جَمْعيّة عليا تهجس وتحدس وتتنبأ بسرقة عمر الشعراء الحقيقيين الرؤيويين التنويريين المحرّضين على لصوص الماء والشمس والقمح والفرح ليعلو بنيان من يغتالون الصوت:
«لماذا إذن 
نحنُ منْ يرحلونَ سريعاً
ويكبرُ بنيان من يسرقونَ
الحياةْ».
لذّة أنويّة عليا لا يباغتها السّعال، ولا يخذلها الجوع، وسراج لا تنوس فيه النجوم، ونبضٌ عربيٌّ تفحّ منه رائحة الحلم الرخيص، وزمان لا يسرح في الصمت، ولا يتوشّح المحال، ويدير ظهره لأمنيّاتنا.
لذّة فلوت، لا تعمي ولا تصم، تثور على الجدران والأسوار فتقول ما لا يقال غير عابئة بالمآل:
«فما لي إذا ما اقتربْتُ من الشّعر
ما لي إذا ما أردتُ الكتابة
فرّتْ غزالاتُ روحي
وفرّتْ قواميس كُلّ اللغات
وما حلّ ربّ القصائدِ عقدةَ صدري الذي
فاضَ حتى اختنقتُ به
وما ليَ.. لا حظّ في الشعر لي
غيرُ هذا الذي قد أسَلْتُ من الدّمعِ والدّم
في دفترٍ لم يزل عاصياً
ويؤلّب صمتي عليّ
وينأى إلى طرقاتِ المحالْ
هل لأني مددتُ عيوني طويلا 
لعلّي أطولُ الذي لا يُطال
هل لأني أنا من أرادَ القصيدةَ طازجة
أن أكونَ أنا ربّها الـ تنثني
بين ضلعين
من لونيَ القرمزيِّ
الجلالْ
هل لأني أنا من يقولُ الذي لم يُقَل 
والذي -عادة- 
لا يقالْ».
لقد كشف محرابُ «قصائد للقصيدة» عن صوتٍ يضوع أناً شعرية مكابرة متعالية تؤمن بأن الشعر غايةٌ وغوايةٌ؛ صوت شاهق المواجد والحدوس والعرفانات، يزاوج بين معارج النفس، ومباهج اللغة، ومفاتن الموسيقى؛ وسلطان الذات؛ صوت لا يقف على أبواب المستهلك والعتبات؛ سامق يستدعي المفردة النبيلة، والصورة السيميائيّة البصريّة والحركيّة الجليلة على الرغم من وطأة الانكسارات؛ صوت يجيد قراءة النهايات الباذخة وإن كان الموت سيّدها:
«عندما متُّ
صارت الأرض باردة تحت
أوزارِها
ثلجُها يحرق الشمس
يا حسرة الكون ما ظلّ شعرٌ
يضيء الوجود
لأني أنا خاتمُ الشعراء».

* الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *