نحنُ الآخرُ: من هارون الرشيد إلى هارون الشريد


منصف الوهايبي*


أعادني كتاب باسكال كازانوفا «جمهوريّة الآداب العالميّة «، وكنت أشرت إليه في مقال سابق؛ إلى عالم بغداد ودمشق والقيروان والقاهرة وقرطبة… هذه المدن التي كانت سرّة العالم القديم حيث كان الأدب ينتج جغرافيّته وتقسيماته الخاصّة خارج الحدود القوميّة، وتتحوّل المدن إلى «بنوك مركزيّة نوعيّة». من ذلك أنّ باريس هي»البنك العالمي للتحويلات والتبادلات الأدبيّة» حيث بميسورنا أن نصغي إلى «صوت عجلة التقدّم الضخمة الخفيّة…» كما كتب فيكتور هيغو. 
وصورة باريس هذه تكاد تكون صورة من بغداد «ألف ليلة وليلة»، تلك التي خصّها خورخي لويس بورخس، بفصل ممتع في كتابه»محاضرات» المنقول إلى الفرنسيّة، هو أشبه بليلة من ليالي شهرزاد أو بقصص بورخس نفسه؛ حيث يتجلّى أثر القصّ العربي كأوضح ما يكون.. أعني «صندوق الأحاجي» العجيب من حيث تتقافز قصص أشبه بألوان الطيف متجاذبة متدافعة، في يد امرأة يستغويها المجهول، فتتنكّب السبُل المطروقة؛ حتى لينقطع منها الرجاء في الوقوف بنا عند حدّ أو غاية. بل نحن لا نكاد نستردّ أنفاسنا، حتى تأخذ بأيدينا إلى متاهة أخرى فاغرة. وإذا نحن من شخوصها ومخلوقاتها العجيبة؛ وقد تجرّدنا من اللحم والعظم، وتحوّلنا بقوّة امرأة، إلى كائنات ورقيّة. يقول بورخس إنّ الحدث الرئيسَ في تاريخ الأمم الغربيّة هو اكتشاف الشرق، أو وعي الشرق الشبيه بحضور فارس في تاريخ الإغريق. وله قصصه وأساطيره، ومنها أسطورة الاسكندر المقدوني الذي فتح بلاد فارس والهند، ليموت في بابل. ويغدو من ثمّة جزءا من تاريخ الشرق القديم، وقد سمّاه العرب «ذا القرنين» لأنّه بسط سلطانه على الشرق والغرب. على أنّ الشاعر الانكليزي روبرت غريفز، أعاد صياغة أسطورته. فالاسكندر لم يمت في بابل، وقد شارف الثالثة والثلاثين. إنّما هو تسلّل من مضارب جيشه، ذات ليلة، ليضرب في الصحارى والغابات. ويرى نارا تومض من بعيد.. يقترب.. وإذا هو بمحاربين متجمّعين حولها.. ويستقبلونه دون أن يعرفوا من هو. ويصحبهم الاسكندر، ويخوض معهم حروبا ومعارك. ثمّ تمرّ الأعوام وينسى الاسكندر أشياء كثيرة. وذات يوم ينظر في غنيمة كانت من نصيبه.. قطعة نقديّة أثارت قلقه.. يتملاّها ثمّ يقول»ها أنت شيخ طاعن. هي ذي الميداليّة التي سككْتها لانتصارك عندما كنت اسكندر مقدونيا». وهكذا يستعيد ماضيه، ولكنّه يتحوّل إلى مرتزق كسائر المرتزقة، وإلى قصّة بين دفّتيْ كتاب.
ومن قصص الشرق هذه، قصّة الهديّة الغريبة التي أهداها هارون الرشيد أو الشريد، إلى شارلمان ملك فرنسا. وهو «الشريد» حقّا بعد أن برح دائرة التاريخ، وقد أضاعته أساطير ألف ليلة وليلة، ولفّقت له سيرة قد تكون أجمل من سيرته التاريخيّة. أمّا هديّته فكانت فِيلاً. واسمه بالاسبانيّة Alfil ومنه اشتُقّت كلمة العاج Marfil.
نحن أيضا «الآخر» مثلُنا مثَلُ الاسكندر مرتزقًا أو الرشيد شريدًا، أو أيّة شخصيّة قصصيّة. فهي ليست سوى مجموع كلمات أو هي براعة أدبيّة. ولكن لها من القوّة ما لا يخفى، وبخاصّة عند الكتاب القديرين المتمكّنين من أدوات فنّهم. ولعلّ هذا ما يجعلها تلوح لنا وكأنّهم شخوص من لحم ودم. ومردّ ذلك إلى أنّها شخصيّات مقنعة، وليس لأنّها يمكن أن تشبه أيّا منّا. فالشخصيّة المسرودة هي أبدا شخصيّة مسرودة، أو هي من ورق. بيْدَ أنّها تحيل إلى شيء آخر، وتتيح لنا أن نتعرّف إلى أصناف من الناس وُجدوا ويوجدون.. وأن نفهمهم ونفهم سلوكهم، ونقدّر مشاعرهم وعاداتهم، وما يتعلّق بملامحهم وطاقاتهم. إنّ ما يُحكى لنا أو يُروى، هو دائما عملُ أحد ما، يقصّ علينا، ويخبرنا، بقدر عن نفسه أو يحكيها..وهل نحن نحنُ إلاّ حين نكون ضوء الآخرين وظلّهم؟

*شاعر وأكاديمي من تونس
( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *