جدار الحداثة بين الأدب وجمهور القراء


*بشير مفتي
تعلمنا مع الحداثة أن نقترب من الأدب من زاويته الفنية، وأن نطرح سؤال الشكل الجمالي والفني قبل سؤال المعنى أو المضمون، تيمناً بما قاله الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه «نحن لا نكتب الشعر بالأفكار ولكن بالكلمات»… تلك الكلمة السحرية تحولت إلى طلسم عند كتّاب الحداثة، ومن خلالها بدأ التشهير بكلّ من يفتقر إلى الأسلوب الجدّي، والمغامرة الجمالية البحتة. لذا غامر النص الحداثي في الشكل والبناء والمعمار الفني كعناصر أساسية وجوهرية في الخلق الأدبي، ومن ثمّ أصبحت اللغة هي الهاجس الأول، وفق مقولة «المهم كيف نكتب، وليس ماذا نكتب» لأنّ «المواضيع مطروحة على الطريق»، كما قال الجاحظ سابقاً، ولأنّ الأدب هو أولاً، وقبل أيّ شيء آخر، «الشكل» الذي كُتب به. إلاّ أنّ هذه المغامرة الداخلية للنص الحداثي تعزله/ أو تبعده شيئاً فشيئاً عن الجمهور الواسع من القرّاء، وتضع بينه وبين القارئ العادي مسافة المعرفة التي لا يمتلكها هذا القارئ الذي ظلت علاقته بالأدب علاقة متعة، لا تهتم كثيراً بالاجتهادات اللغوية أو التطريزات الأسلوبية. فالقارئ غالباً ما يبحث من خلال الأدب عن متعة آنية وظرفية تسعفه في ليالي الشتاء الباردة، أو الصيف الحارة والطويلة، لأنّ القارئ غير النخبوي لا يحب أن يتعب عقله كثيراً، وليس عليه من وجهة نظره أن يبذل جهداً لفك طلاسم الحداثة الإبداعية التي تهم بشكل كبير صاحب الكتابة ورهانات مشروعه الإبداعي، أو الدارس النقدي، أي الباحث النخبوي الذي يشتغل على هذه النصوص ويعتبرها هي الأدب الحقيقي.
إنّ كثيرين من الكتّاب الحداثيين في الغرب، بخاصة، فقدوا تلك العلاقة مع الجمهور الواسع الذي بقي وقفاً على الكتّاب الكلاسيكيين، والذين لم تنقص شعبيتهم قط في كل السياقات والأزمنة، أو الكتاب الذين يعتبرون الشكل وسيلة فقط، وليس غاية في ذاته، أي الكتاب الذين ظلوا يمتعون الجمهور بحكايات تحافظ على جمالية بسيطة ليس فيها تعقيدات الحداثة ووعيها الجمالي الغامض بالحياة والإنسان والفن، أو تلك التي هي شكليات لغوية فقط، ويدّعي أصحابها أنهم أولياء عصر جديد لا يمكن تقديمه إلا بلغة الإشارات المبهمة والمعقدة.
صنعت الحداثة الغربية إذاً هذا الجدار بينها وبين الجمهور الواسع بوعي كامل، وقد تعمدت هذا الشرخ بهدف مقصود، وهي تريد من قارئ نصوصها أن يبذل جهداً مضاعفًا للفهم والاستيعاب ويخصص وقتاً أطول للقراءة، فلا تكون القراءة «مروحة للكسالى» كما قال العقاد يوماً. أليس هذا ما تتطلبه رواية مثل «عوليس» لجيمس جويس أو «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، أو «الصخب والعنف» لفولكنر، أو روايات كلود سيمون وصموئيل بيكيت إن بقينا في مجال الرواية فقط. أما شاعر الحداثة فلقد بدا كناسك معزول ومهمش ولا يهتم إلا بتخريب الذائقة الجماعية، وإفساد ما كان عليه السلف الشعري من طمأنينة، وتوليد حالة من الغرابة الدائمة تصل إلى درجة نفور لدى المتلقي العادي. ذلك أنّ النيّة لم تعد كسب ودّ الجمهور، بل القطيعة مع جمهور التلقي السلبي للشعر كما هو منظور له من زاوية الحداثة الشعرية حيث الأفق مفتوح لمغامرة الشاعر وليس لتلقي القارئ الذي تعوّد على نمط من نصوص لا تدخل في استراتيجية الكاتب الحداثي.
لقد صنعت الحداثة، مع ذلك، أساطيرها الأدبية الذين صنفتهم في مرتبة عالية من الإبداعية، وأعطاهم النقد سلطة علوية بحيث جعلهم فوق السحب حتى لا نقول في أبراج عاجية، ونظر إليهم على أنهم أوصياء زمن جديد وأنهم سيخلّدون رغم صعوبة نصوصهم، وتعقد بناءها الفني، ويتحولون – رغم أنف القارئ العادي الذي تعمّدوا سلخه عن نصوصهم – إلى نماذج معيارية لتقويم نصوص من يأتون بعدهم، أو أيقونات أدبية يسترشد بهم لتصويب وتحديد ما هو الأدب الحقيقي من عدمه. لكنّ المشكلة الأساسية ظلّت هي مشكلة القارئ الذي يتلقى هذه النصوص، أو ما دامت تنشر فلكي يقرأها قارئ ما حتماً. وهم لم يتمكنوا من إشباع هذا القارئ العادي أو ذلك الجمهور الواسع بما طمحوا إليه، وبقي القرّاء يبحثون في الأدب عن أشياء أخرى لا تهم كُتّاب الحداثة أنفسهم.
ولهذا نتساءل اليوم إلى أين آلت تجربة الرواية الجديدة في فرنسا مثلاً كنموذج على حداثة طلائعية في مجال السرد الروائي، والتي شكلت موضة/ظاهرة في الخمسينات والستينات في فرنسا ومثلتها أسماء كان لها صيتها وسطوتها على المشهد الأدبي مثل آلان روب غرييه وناتالي ساروت وجان ريكاردو وغيرهم؟ وهو السؤال نفسه الذي ينطبق أيضاً على السينما الجديدة: ماذا بقي من المخرج الطليعي غودار حتى يسحرنا به، هو الذي أعتبر في وقته أكبر «صرعة» حداثية في السينما العالمية وليس الفرنسية فقط.
أصبح التعقيد الفني مشكلة في عمق الأدب الحداثي، ولا تشهد سعة الإقبال، ومع ذلك لا يزال بعض الكتّاب يختارون المواصلة على هذا المنوال مهما كانت الظروف، بمعنى أنهم لا يرغبون في التنازل قيد أنملة عن خطتهم الأدبية الأولى. ويمكن أن نستشهد عربياً بسليم بركات، الذي يحافظ على التوجه الأدبي نفسه منذ بدأ ينشر نصوصه الشعرية أو السردية حتى لو تقلص عدد المقبلين عليه بالمقارنة بوفرة قرّاء الروايات الخفيفة الظل والتي قد تكتبها فتاة في سنّ المراهقة.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *