ثقافة المركز وثقافة الأطراف .. تواصل أم إقصاء!


*عبد الله بن علي العليان

عندما أخذ الغرب يأخذ مكان الصدارة ويتفرد حضاريا وعلميا في عصرنا الراهن، بدأ يطرح مقولة ثقافة المركز وثقافة الأطراف، وأن ثقافة المركز هي الثقافة العلم والحضارة والتقنية، ومن ثم عمل على اكتساح الثقافات الأخرى المغايرة، فعمل كما قال الدكتور محمد عابد الجابري على مبدأ «يجب إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان»: إخضاع الأبدان يتم بالمدفع، أما إخضاع النفوس فسلاحه التعليم والثقافة كان ذلك بالأمس، أما اليوم في القرن الحادي والعشرين، فالاتصال من دون «المدفع» ممكن «و» إخضاع النفوس عن بعد، مسافة بعيدة أصبح أمرا ميسورا جدا بفضل التقدم الهائل في وسائل الاتصال السمعية والبصرية، وإذا انقلب الوضع انقلاباً: لم يعد إخضاع الأبدان شرطا في إخضاع النفوس بل على العكس لقد غدا إخضاع النفوس طريقا لإخضاع الأبدان، لقد كان القدماء من الفلاسفة يعرفون البدن بأنه «آلة تستخدمها» وإذا إخضاع النفس يستتبع حتما إخضاع آلتها: تلك حقيقة «الاختراق الثقافي» في عصرنا الراهن وذلك هو هدفه. هذا الاختراق المحمل بأيديولوجيا العولمة التي نناقش أبعادها ومخاطرها على الهوية الثقافية، أصبحت حقيقية واقعة وليست أوهاما كما يدعى بعض المثقفين العرب، ذلك أن العولمة من خلال مفهومها الذي وضعه القائمون على تطبيقاتها، يطرحون استراتيجية تعميم نموذج العولمة عالميا من خلال تقنية الوسائط الإعلامية التكنولوجية الهائلة، وأنها تنتهي عند هذا النموذج، فالحضارة الحديثة كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري مرتبطة بآليات السوق، وبالعرض والطلب، هي حضارة بسيطة لا تعرف تركيبة الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز فهو إنسان ذو بعد واحد (يعيش في مجتمعات أحادية الخط) وعقله عقل أداتي (يغرق في التفاصيل والإجراءات ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية أو تطوير وعيه التاريخي) فالسوق والمصنع بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنسانا طبيعيا ماديا بسيطا، ليست له علاقة بالإنسان الإنسان، والإنسان المركب، والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكم إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج، تزعم أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترويجية.

وهذه النزعة التي يسخرها الغرب لتحطيم الهويات الأخرى، ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية، فهي تبرر هذا الاكتساح العملاق بمفاهيم حديثة وجذابة مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية وغيره، لكن البعض يشكك في هذه المقولات ويعتبرها مجرد طرح فضفاض ومغاير للواقع الذي تستهدف هذه العولمة وما سبقها من مفاهيم في هذا السياق.
فالحضارة الغربية – كما يقول الدكتور علي الشامي تسلك في اعتمادها أولوية المادة وتهميشها للعوامل الأخرى بحيث تكون المادة مهيمنة على زمن التأسيس، وزمن التغيير والازدهار والأزمات وزمن الاستمرار، كما أنها تحدد الغايات وتوجد وسائل تحقيقها، وبالتالي يصبح نظام الفكر والأخلاق مصنعا لإنتاج إرادة خاضعة لمنطق المادة أو تطويقا لإرادة ترفض هيمنة المادة على الحياة برمتها، كما يصبح العلم وسيلة لتطوير المادة بما يخدم هيمنتها على الحياة في الداخل، وتعاظم القوة في الخارج، أكثر مما هو دلالة على سمو الإنسان ونمو قدراته ومعارفه، وأكثر مما هو حلقة في تاريخ الفكر البشري، حيث يورث السلف للخلف، علما صنعه إنسان لكل إنسان أو حضارة لكل الحضارات، إذًا العولمة في مقولات المتشائمين أنها تستهدف الهوية الثقافية لأنها تؤمن فقط بمعايير الإنسان العالمي، ذي مواصفات وقيم معينة يجري غرسها وتطبيقها وفق هذا المفهوم الذي تم تجسيده في هذه الرؤية، وتجري في سياقات عديدة متقاطعة مع الهويات الثقافية للشعوب، العولمة في رأي بعضهم ومنهم علي حرب «تطال الثقافة بالذات بما هي منظومة من الرموز والقيم يخلع بواسطتها الإنسان معنى على وجوده وتجاربه ومساعيه، فالثقافات بما هي مرجعيات للدلالة وأنماط للوجود والحياة، وخاصة بكل أمة أو دولة أو مجتمع، تجد نفسها عارية أمام تدفق الصور والرسائل والعلامات التي تجوب الكرة على مدار الساعة.
وهذه هي المشكلة التي ستواجهها الإنسانية في القرن المقبل إذا ما فرضت العولمة كبديل للتنوع الثقافي وعلمت على اكتساح الهوية الحضارية للشعوب ذلك أن الاتجاهات والمعايير المقبلة سائرة في اتجاه التأثير السلبي على الهوية والسيادة معا، وأول ما يثيرالانتباه عند التأمل في موقف الغرب من هويات الشعوب هو جمعه بين متناقضين، فهو من جهة شديد الاعتزاز بهويته حريص عليها وهو من جهة ثانية رافض للاعتراف بالهويات الوطنية لشعوب العالم، لإحساسه بأن العولمة من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من الوعي بالخصوصيات الثقافية والحضارية.
والغريب أنه خلال فترة الحرب الباردة والصراع على النفوذ والمصالح بين الدول الكبرى، لم نسمع إلا بمقولات التفاعل الثقافي والتنوع الحضاري والتسامح الفكري والديني، وإشاعة روح التواصل بين الثقافات باعتبارها مكونات للتفاهم والتعاون وهذا تم في فترة العالم المنقسم، أما الآن وبعد سقوط الحواجز وإزالة الحوائط وبروز قوة عالمية واحدة مهيمنة لم نعد نسمع بالكلمات اللطيفة مثل [التفاعل – التواصل – التسامح – التعدد الثقافي – التنوع الحضاري] فقط كلمات مثل: افتحوا أبواكم أيها العرب، وادخلوا عالم العولمة، ليس لكم من خيار، وإذا ما بقيتم في تردد كم ومساجلاتكم فإنكم ستكونون كالحيوان الملقى على قارعة الطريق، تلك هي الكلمات الجديدة المتداولة في عالم اليوم الذي يفرضه العالم الجديد الذي يمتطي قطار العولمة – الذي يقولون عنه – إنه لا قطار غيره يتحرك، وهذا القول التبشيري الذي يطرحونه هدفه إلغاء التعددية الثقافية لصالح الوحدية، فليس صحيحا – كما يقول الدكتور عبدالإله بلقزيز: إن العولمة الثقافية هي «الانتقال من حقبة ومن ظاهرة الثقافات الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الكونية، على نحو ما يدعى مسوقو فكرة العولمة الثقافية بل إنها بالتعريف فعل اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح بالثقافة فيهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة وإذا كان يحلو لكثيرين أن يتحذلقوا بإفراط في الرد على هذا الفهم للعولمة الثقافية، فيرجمونه بتهمة الانغلاق الثقافي أمام تيارات العصر، والدعوة إلى الانكفاء والتشرنق على الذات (والهوية، والأصالة، ومشتقاتهما..)، وإذا كان يحلو لهم أن يعيدوا على أسماعنا مواويل الانفتاح الثقافي غير المشروط على «الآخر» للانتهال من موارده ومكتسباته وكشوفه المعرفية.
.الخ، فإنه يطيب لنا أن نلفت انتباههم إلى وجوب وعي الفارق بين التثاقف والعنف الثقافي من جانب واحد». وليس صحيحا أيضا أن فكرة الاختراق الثقافي الذي تسعى إليه بعض القوى في عصر العولمة والكوكبة، أوهاماً في عقول بعض دعاة الخصوصية الثقافية ذلك أن فرنسا نفسها وهي جزء من المنظومة الغربية المهمة تطلق التحذيرا ت من الغزو الأمريكي على الخصوصية الثقافية لفرنسا، على الرغم من أنهم ينتمون إلى قيم ثقافية واحدة، وهذه ما عبر عنه الشاعر الفرنسي [اندرية فيلتير] عندما قال «نعم هناك إمبريالية ثقافية أمريكية طبعاً هذه الليبرالية اقتصادية وسياسية، ولكن ما يهمنا هو الميدان الثقافي لا سيما أنه الهدف الذي يدور حوله الصراع في العقد الأخير من هذا القرن، فإما أن يدجن العالم ويخضع للثقافة الأمريكية، وإما أن تظهر فيه وتتشكل مرا حول ثقافات وحضارات مناهضة للثقافة الأمريكية المهيمنة».
والشيء الغريب أن فرنسا التي أنكرت مقولة» الاختراق الثقافي «للشعوب منذ أكثر من ربع قرن عادت تطلقه من جديد خوفاً على ثقافتها وتراثها.
ومع ذلك فإن تحذيرها من مخاطر الاختراق الثقافي على الهوية الثقافية لا يجد الازدراء والسخرية من بعض المثقفين العرب، ومقولة فرنسا هذه من الاختراق الأمريكي لثقافتها – والتي هي في الأصل ثقافة واحدة – يجد الصمت المطبق من هؤلاء المثقفين! فهل هذه الظاهرة «جلد للذات»؟ أم أن هي عملية استلاب حضاري؟ هذا هو السؤال الذي سيجد الجواب يوماً.
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *