د. حورية الظل*
( ثقافات )
كانت الأبواب مشرعة تنتظر الزوار المنتقين بعناية، وأنا من أولئك الزوار.
لابد أن المطر ينزل بغزارة وإلا لما كانت ماسحات زجاج السيارات تتحرك ذات اليمين وذات اليسار.
دخلت منفلتة، حاذرت أن يراني أحد، والعيون كلها مفتوحة عن آخرها، علها تلتقط هفوة أو غلطة أو حتى انزلاقا بعد وطء قشرة موز. لتطلع علينا الصحف بالعناوين ذات البنط العريض، تحكي عن الفضائح التي تجوب المدينة دون أن تجد من يوقفها.
أضحت يجللها لون رمادي من الكآبة والحزن، يورق في حقول شوارد، يوزع أرتال البؤس ، يعلو الوجوه والشرفات والبنايات .
حتى الحركات بطيئة والرؤوس مطأطأة والأذرع مرتخية.
أردت أن أسألها لماذا أنت حزينة يا مدينة؟
لكني كنت أعرف بأن سؤالي سيظل بلا جواب. الإجابة سأجدها عند الزوار، في الغالب سيكونون سبب علتها، لكنهم لن يعلنوا عن ذلك، وسيظل الأمر سرا بينهم، وجدتهم قد اجتمعوا. كانت الحلقة محكمة، لن تجد أين تحط أصبعك، بحثت عن مكان بينهم ثم نفضت يدي من الأمر كله، لابد أن اللعبة قد بدأت، يريدون كل شيء لأنفسهم .
سمعت زمور سيارة الإسعاف وصفارة شرطي تلعلع في الفضاء، كانت هناك جثة مسجاة فوق الاسفلت، بعدما تفضل أحد قاطني العمارة المقابلة ورمى من الطابق الرابع ملاءة ستروا بها بشاعة الموت.
هل الموت حقا بشع أم مجرد نهاية ؟
بحثت عنه بين الزوار فلم أجده، لعله يختفي في المتاهات والسراديب المنسية ، يبحث عن الكنوز المفقودة، وعن لحظة تأمل تحرره من الصخب والزحام الذي يعلو ملامح المدينة. يتركني مشغولة البال ومشوشة الذهن وتذهب بي الهواجس كل مذهب دون أن أعرف كيف أتخلص منها ولا من حبه الذي يكبلني كالقدر.
رأيت خادمته تبكي أمام البيت ، أحسست بيد تعصر قلبي كما يحدث لما تكون الأحداث المؤلمة قاب قوسين منا، اقتربت منها، لم أسألها عن سبب وابل دموعها واكتفيت بإعطائها منديلا ورقيا فشكرتني، ربتت على كتفها مشجعة .
أخبرتها بأنني أبحث عنه، فقالت:
– لا أعرف عنه شيئا طردني من العمل وآتي لأرجوه عل قلبه يرق فيعيدني لأنني أعيل سبعة أنفس، لم أره منذ أسبوع .
طلبت منها أن تحفظ دموعها لحين أوبته، حتى لا تنضب لما تكون واقفة أمامه في ذل ومسكنة، كل ما سيفعله أنه سيطردها وبطريقة أكثر قسوة من الأولى، حتى لا تعود مرة أخرى .
أما أنا فدموعي سأحفظها لوسادتي التي لا تفشي أسراري لأحد، أأتمنها عليها وتشهد على غزارتها لما أصاب بالعدوى التي تعم المدينة، وتكتسي نفسي بلون رمادي قاتم. أتدارك الأمر وأحاول أن أمحو آثاره، لا أحب الألوان القاتمة، مجاهدتي تهزمه فيتساقط كالطلاء القديم عن جدار روحي، فتنضب دموعي وأضحى مشرقة وخفيفة كالريشة، تحملني نسائم السعادة إلى ملكوت سماوية فيها صفاء مكين وكامل البهاء لا تشوبه شائبة.
بدأت القطة الصغيرة تتمسح بي، أبعدتها برفق، فظلت شعيرات من وبرها الرمادي ملتصقة ببنطلوني الأسود، حاولت نفضها بيدي لكن دون جدوى.
سمعت خربشة خلف إحدى الأبواب، ثم تحولت الخربشة إلى همهمة فغمغمة فصراخ … فارتطام … ففرقعة، فمزهرية تتكسر عند قدمي بعدما مرت من أمام أنفي وهي تهوي من عل، وضعت يدي على رأسي تحسبا لسقوط شيء أثقل وزنا.
تساءلت عن عدد الأفراد الموجودين في الداخل، نسيت عدهم لما كنت معهم، مصابة بآفة النسيان، أهلي ومعارفي يلحظون ذلك، أنسى كل شيء، لكن الذي لا أنساه وينقش في ذاكرتي كالحروف السومرية، تلك الإساءات التي تطعنني من الخلف وأنا في كامل ارتخائي، لا أحسب لها حسابا فتأتي على حين غرة، فيكون أثرها أكثر غورا وأشد إيلاما، كرصاصة … تصوب من مكان قريب، فتترك ثقبا أوسع في الجسد. حتى وجوه أصدقائي وزملاء الدراسة أنساها بسرعة، فإذا حدث وقابلوني وكان غيابهم طويل الأمد كليالي الشتاء، أسائلهم عمن يكونون، أو إذا نظروا ناحيتي مبتسمين استعدادا لتحيتي أشيح بوجهي وأكمل طريقي، فمنهم من يظن بأنني أريد قطيعة مبيتة، ومنهم من يفهم الوضع فيجري خلفي وأنفاسه متقطعة ليذكرني بنفسه.
الأصوات ترتفع ثم تخفت، ثم يعم السكون وتعود إلى الارتفاع مجددا والمذيع وحده يعلن عن نشرة الأخبار.
عدت مرة أخرى إلى الداخل، كان قد عاد، وجدته يتباهى بقطته الصغيرة وهو يملس بيده الضخمة على ظهرها، وهي تتمسح به في مسكنة ودلال وفجأة … قفزت وهي تصرخ، ارتبك الزوار فاتسعت الدائرة قليلا، حاولت أن أستغل فرصة انزعاجهم وبلبلتهم فأجد مكانا أندس فيه بينهم لكنهم تداركوا الأمر بسرعة وعادوا إلى مواقعهم، ألا يريدون تواجدي بينهم لأنني امرأة، الأمر واضح وضوح الشمس؟.
انتدبت ركنا قصيا وبدأت أتفرج. تسرب الملل إلى أحشائي فأحسست بالدوار وبالاختناق فغادرت المكان بعد يأسي من الظفر بمكان بينهم، لسان حالهم يقول “خاص بالرجال”.
أثناء نزولي عبر السلم الطويل الحلزوني سمعت خطوات خلفي. هل أرسلوا ورائي من يتجسس علي، أم من يتخلص مني؟ أم هناك لص يريد أخذ حقيبتي، واللصوص أصبحوا ينبتون كالفطر في الزوايا المظلمة، يبحثون عن الفرائس ويتحينون الفرص للانقضاض.
كانت الخطوات خافتة ومتلصصة لكنها ترن في قلبي كالقضاء المحتوم.
تحسست طريقي وأنا أحاول أن أسرع في النزول، فأحسست بها قريبة، أقرب من نبضات قلبي. إذا وقفت ومددت يدي إلى الخلف أستطيع لمس صاحبها .
لم أعاود مساءلة نفسي عن هوية من يحث الخطو خلفي، ضربات قلبي التي تدق كطبول الحرب تحفزني على طلب سبل النجاة، التي بدت لي غير متوفرة حاليا وفي ظرفي الراهن، وأنا في شبه قبضة صاحب الخطوات المتلصصة، والتي تنوي بي شرا مستطيرا، لم أعرف أسبابه بعد، ذلك ما أخبرتني به فراستي وحاستي السادسة التي لم تخيب ظني يوما، تمنيت لو يكون العكس هذه المرة.
مرت أمام ناظري الأحداث التي سمعت عنها وحدثت في مثل هذه المواقف، لقطاتها سريعة ونهايتها تعيسة، لا تحمل في طياتها إلا المآسي والفزع والموت.
ازدادت ضربات قلبي… يكاد يخرج من صدري… لم يتحمل كل هذا الرعب، بدأت ركبتاي تتخاذلان، حرارة تصعد من مقدم أصابع قدمي وتغزو جسدي كلفح النار، عرقي ينز من وجهي نقط بلورية دافئة سرعان ما تندغم في بعضها البعض لتبلل وجهي ، ماذا لو وجدت مكانا بينهم؟ لكنت الآن في غنى عن كل ما يحصل لي، يا لأنانيتهم؟ لم يمكنوني ولو من فرجة صغيرة أندس فيها فينقذونني مما أنا فيه، تركوني لمواجهة مصيري المحتوم.
ظللت أنزل وأنزل ، لم أعد أسمع سوى دقات قلبي، والخطوات التي تترصدني وهي خلفي مباشرة تحافظ على نفس وتيرة خطواتي.
وحش يشحذ مخالبه في الليل البهيم، تحت حشد النجوم التي تشهد على مضائها فترتد عنها غاضبة وتنطفىء حزنا، يبحث عن فرائسه مزهوا بنصر مسبق، سيتحقق لما تنغرس تلك المخالب في ظهرها، فتصنع لليالي الحزن مواويلها الموجعة.
تساءلت عن هوية هؤلاء الذين لم يفسحوا لي مكانا بينهم لكني لم أعرفهم، وهم عرفوني، نادوني باسمي فجفلت وتراجعت إلى الخلف، تطلعت إليهم في فضول، بدوا ساكنين وعيونهم مركزة على ما أمامهم، لم أتوسم فيهم أي خير، لكن لماذا يظلون جامدين؟ لو تزحزحوا قليلا لاندسست بسرعة، فأتطلع إلى ما بين أيديهم.
سمعت سيارة الإسعاف تقترب، وطائرا كبيرا في السماء، ظل يحوم وفجأة وكما ينقض القدر. خطف ما بين أيديهم وطار في الفضاء، تم الأمر في طرفة عين، لم أعرف ماذا التقط ؟
ظلوا مشدوهين ثم بدأوا يلتفتون يمينا وشمالا، وكأنهم يبحثون عن شيء ضاع في غفلة منهم.
كانت الخطوات لا تزال تتعقبني، وهي ترن بدقات مضبوطة، لا تريد أن تخلف موعدها معي، تتلمظني سلفا ، سارعت خطواتي وأنا أنزل ، تسارعت الخطوات التي ورائي أيضا، إنه يلهو بي، كالقط الذي يتلذذ باللعب بالفأر قبل افتراسه، كانت الظلمة كاملة.
خفت من السقوط فتشبثت بالحاجز الخشبي وأنا أرتجف وأنفاسي متقطعة، كان قديما فانكسر…… تهاويت.
صوت سيارة الإسعاف لا يزال صداه في أذني، رفعت عيني فرأيت أزواجا من العيون ترقبني في دهشة وفضول، تحيط بي وتمنع الهواء من الوصول إلى رئتي، تمنيت لو يفسحوا قليلا لعل نسمة تتسرب من بينهم وتنعشني، كانت عيناه بينهم، رأيتهما مبللتين بالدمع، تنظران إلي في ندم، أردت أن أصرخ فيهم لينصرفوا لحال سبيلهم ويتركوا دموعه تغسلني والهواء يفتح مسام رئتي من جديد، بعدما أغلقتها سقطتي القوية، لم يطاوعني لساني، سمعت اصطفاق أجنحة ونسمة هواء تغمرني، هل هي لطائر كبير، أم لملاءة رماها أحد سكان العمارة بناء على طلب أحد المتحلقين حولي. بدأت الصور تبهت أمام ناظري شيئا فشيئا، غشيتني سنة من النوم فعم الظلام.
* قاصة وأكاديمية من المغرب