د. بروين حبيب
كم خنت صورتي
أطل على العالم
و لا أطل……….
الكادر هو ،،،هو
لم يهتز ..لم يتفكك
عبر الهواء
وترك صورتي الوحيدة تلهو………
صورتي التي تسبقني تلفزيونيا، ولحظات الصراع الناعمة حول هشاشتها..وارتباكات الضوء المنتفشة بهالات الميديا، ونصوص الخيبات المؤجلة يوميا بعيدا عن ذلك الصندوق العجيب..أو الوحش المفترس كما أطلق عليه الشاعر الكبير محمود درويش في آخر لقاء جمعني به ومجموعة أصدقاء في دبي قبل رحيله بفترة قصيرة، كان الصديق المشترك الكاتب الفلسطيني خيري منصور سببا في إيصال أطراف الشعر بالمحبة وقتها على العشاء خطفا قبل سفره إلى كوريا…….جاء سؤال شاعرنا درويش لي: كيف تصمدين في هذا العالم …و تتحملين هذا الوحش الجائع المفترس الذي يريد أن يلتهم كل أوقاتنا على مدار أربع وعشرين ساعة؟؟؟؟؟….ابتسمت، فسألته بدافع الإعلامي المحاور والشاعر المتورط بالضوء في نفس الوقت: هل هذا يعني أنك لم تستمتع بأي حوار تلفزيوني أجري معك؟؟؟..أجابني بعد برهة صمت ثقيلة لم أتوقعها :لا…لم يدهشني محاور بالمعنى الدقيق لفكرة الإبحار في تجربتي….فأردفت بسؤال آخر وكان بالأحرى سؤال مسابقة طرحته إحدى المجلات العربية السيارة حينذاك، وكان كالتالي: من هو أفضل محاور تلفزيوني عربي؟ هل هو ..تركي الدخيل، محمود سعد، زاهي وهبي؟؟؟؟؟؟؟…فوجهت السؤال له بفضول وانتظرت جوابه بإلحاح: من هو الأفضل يا سيدي الشاعر؟… أجابني دون تحفظ: محمود سعد، يعجبني….فثمة كاريزما يتمتع بها هذا الرجل.قلت:يا لحظه..لقد حقدت عليه! ضحكنا، فالتفت إلي: أوصيك بالإخلاص للأدب يا صديقتي ومضى…..و ترك دوائر من الأسئلة تمتد أكثر في يومياتي اتجاه مهنتي!!!!!….بين الثقافة والتلفزيون، بين الفضائيات تلك الإمبريالية الناعمة كما وصفها الإنكليز والثقافة سؤالنا سؤالنا الإنساني الكبير؟!!!!!!… وهو ما يستدعي تقليب السؤال وإعادة طرحه على نحو مختلف كل يوم في واقع استهلاكي يعدو في ماراثون عنيف ..
أشتغل تلفزيونيا في حيز ثقافي، ومن خبرتي الشخصية مع التلفزيون أعرف أن البرنامج الثقافي ليس طموحا أول لأي مذيعة عربية تنشد السلام لنفسها في مهنتها…مع ذلك ظلت فكرة البرنامج التلفزيوني الثقافي قضيتي الشخصية منذ نعومة أظفاري في هذه المهنة الصعبة والشائقة، والتي نضيع مرات كثيرة الحدود التي ترسم علاقتنا بها كهواية، وكمهنة وكرسالة فكرية واجتماعية، ولكن من دون أن ننسى أبدا أن عالم الصورة هو مسرح طموح شخصي، فالتلفزيون ماكينة أكول، تطحن الصور والأخبار والأفكار والكلمات والرموز، والعناوين والمواعيد، لتصنع للمشاهد في غرفة ما تلك الوجبة المنتظرة…
العالم كله في خدمتك أيها المشاهد، ونحن أيضاً في خدمتك، ولكن بماذا نختلف نحن المذيعات والمذيعين حتى عندما نكون أصحاب برامج مرموقة عن مضيفي ومضيفي الطائرات في رحلة تقصر أو تطول؟..مرفهون ومرفهات في حالة ترفيه عن مرفه به، رحلة ترفيهية على هامش رحلة صعبة هي الحياة..و هذا الترفيه الذي دخل شعارا ومسوغا لبرامج وأجندة القائمين على الأقنية الفضائية التي تواطأت مع المعلنين وشروط السوق، وساهمت إلى حد ما في تفريغ عقول المشاهدين وبرمجة الوعي العام من الجمهور العريض للتلفزيون وهم من الناشئة وربات البيوت…وراحت تتعامل مع الحياة الثقافية انطلاقا من حاجات الثقافة التلفزيونية القائمة في ذاتها، وهي في حقيقة الأمر مستهلك رديء للمعارف وليس منتجا لها ..فانطلقنا إلى ثقافة النجوم، التي تروج لثقافة حديثة، فقد ظهرت الحاجة إلى «الشاعر النجم» وليس الشاعر المبدع، وإلى الروائي ذائع الصيت وليس إلى الروائي الجيد، وإلى الكاتبة المشهورة بسبب تجرؤ كتابتها على القيم وطرحها الإباحي وليس إلى الكاتبة الجريئة صاحبة الكتابة العالية، والمفكر المنتشر وليس المفكر العميق صاحب الأفكار المضيئة، والداعية السطحي اللاعب بالكلام وليس الداعية الورع والنزيه، والموسيقي الاستعراضي المتثاقف وليس الموسيقي الملهم والمبدع، فالتلفزيون يحب النجوم، نجوم الأدب والثقافة والفكر ..و يختارهم مما يطفو على السطح، بحق وبغير حق، ليضاهي بهم، وليكونوا على قدم المساواة مع المطربة الكبيرة منفوخة الشفتين المشهورة رغم محدودية صوتها، والمغني الكبير الذي راج اسمه بسبب أغنية يتيمة، والممثل التلفزيوني المشهور، والممثلة التلفزيونية المشهورة وهكذا…فالقياس هو الشهرة ومتطلباتها ومستوى الناس واهتماماتهم…..و هذان يحتاجان إلى بحث ودرس عميقين ،فليس كل بسيط ويسير وتافه مما تقدمه الفضائيات للناس باسم مستوى الناس واهتمامات الناس، هو ما يريده الناس فعلا !!!!و ما الذي يحمله في الجوهر منه هذا السلوك في رؤية كل شيء نجومي أو نجمي ،استقبال النجوم وتوديع النجوم والانشغال بالنجوم، هذا السلوك التلفزيوني المائع ؟ببساطة هو يحمل في جوهره وعرضه معا تكريسا لثقافة «الشائع» و» الشيوع» و الشائعة للسطحي والمسطح، للموجود ولا فضل لك بوجوده، من الغنى الكبير الذي تزخر به الثقافة العربية تحت طبقة السطح. هذا إذا بقي فينا شيء من الحكمة القائلة إن اللآلىء تطلب من الأعماق..
على أنني أحبذ هنا أن أكون موضوعية، وأفرق بين التجربة الشخصية للإعلاميين الجادين، في كفاحهم على أكثر من جبهة لتحقيق ولو جزء من تطلعاتهم، وبين الواقع الموضوعي وما يسمح به. لقد ولى الزمن الرومانسي في النظر إلى الأشياء ..بتنا أكثر براغماتية وأكثر واقعية في النظر إلى الأشياء ..و انطلاقا من الواقعية في التفكير، تقتضي الحال أن نطرح الأسئلة حول ما نريد وما لا نريد، انطلاقا مما يمكن أن نحققه وما لا يمكن تحقيقه….
و بأي مصطلح نصف التلفزيون العربي المغترب نهائيا عن حركة الثقافة، والذي يعتد أهله أنفسهم بضجرهم من شيء اسمه ثقافة، ولا يضيرهم بتاتا وصف تلفزيونهم بالخفة والمنوعات، بل إن الخفة عندهم إطراء ومنزع وغاية!!!!!
شاعرة واعلامية بحرينية
– القدس العربي