من التاريخ: هل ماكيافيلي مفترى عليه؟


*د. محمد عبد الستار البدري

أعلم أن العنوان قد يكون صادما لكثير من القراء، فالمفكر الإيطالي نيكولو ماكيافيلي Machiavelli إنما هو رمز لانعدام الأخلاق وإفساد الحكام على حساب الرعية، كما أنه يمثل سياسة الوصولية مبررة في مقولته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة»، كما أنه صاحب فكرة كيفية قيام الأمير أو الملك بالسيطرة على الرعية دون أدنى مراعاة لأي مبادئ أو مُثل أو أخلاقيات.. ولكن حقيقة الأمر أن هناك وجها آخر يغيب عن كثيرين عندما يحكمون على تعبيرات ماكيافيلي أو حتى أفكاره الواردة في كتبه، فالحقيقة الثابتة أن كثيرين يفعلون ذلك وهم يبترونه عن الظروف التاريخية المحيطة به والتوجه العام في العالم في ذلك الوقت، وقبل أن ندخل في فكر هذا الرجل، وجب علينا أن نلقي نظرة على البيئة السياسية التي شكلت فكره والتي سرعان ما بدأت تتأثر بهذا الفكر تباعا.

بداية، فإن ماكيافيلي كان يعمل دبلوماسيا في دولة «فلورنس» الإيطالية، وهي دولة ضمن خمس دول أساسية كانت تسيطر على شبه الجزيرة الإيطالية وعلى رأسها ميلانو ونابولي والبندقية ودولة البابوية في الوسط، وقد أدت الثورة الداخلية في فلورنس إلى عزل الأمير الحاكم المنتمي لأسرة الميديتشيMedici العريقة، والثابت تاريخيا أن ماكيافيلي اتهم من قبل هذه الأسرة عندما عادت لسدة الحكم لأنه أبدى معارضة لها، مما أدى إلى سجنه، ثم جرى الإفراج عنه في إطار عفو عام للبابا الجديد الذي اعتلى العرش، وقد لجأ ماكيافيلي لمحاولة استمالة الأمير الجديد لورينزوا دي ميديتشي، فقدم له كتابه الشهير «الأمير» الذي يعد أكثر كتبه انتشارا، وكان الهدف منه مكتوبا من المقدمة، وهو كيفية استحواذ الأمير على السلطة ومقاليد الحكم وكيفية إدارتها والإبقاء عليها، وقد كتب هذا الكتاب منذ 501 عام بالتمام والكمال.
ولكن حقيقة الأمر أن الأغلبية لا تدرك أن هذا الكتاب لا يحتوي على الفكر الحقيقي لهذا الرجل، فلقد كان أفضل ما كتبه الرجل هو كتاب «مناقشات حول أول حقبة لتيتوس ليفي» Discourses on the first decade of Titus Levi، ففي هذا الكتاب وضع ماكيافيلي فكره الحقيقي الذي لا يرتقي بالضرورة للنظرية السياسية المتكاملة، وقد صدر أيضا في العام نفسه لكتاب «الأمير»، ولكننا لا يمكن أن نفهم الأخير ونحن نبتره عن قاعدته الفكرية ممثلة في الكتاب الأول، ففي هذا الكتاب أكد ماكيافيلي على عدد من النقاط الجوهرية لفكره السياسي التي يمكن أن نوردها فيما يلي:
أولا: أن الطبيعية البشرية سيئة وسلبية للغاية، بالتالي فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على هذا الجموح الطبيعي للمواطنين البشري هي قوة الدولة ممثلة في الأمير أو الملك.
ثانيا: إن إيطاليا خرجت من عظمتها إلى حالة التفتت السياسي والاجتماعي والأخلاقي بسبب غياب الدولة والأمير القادر على توحيدها، وقد نظر الرجل إلى نماذج من الساسة الأوروبيين الذين استطاعوا أن يوحدوا بلدهم مثل فرديناند في إسبانيا وأسرة التيودور في إنجلترا وبعض الملوك الفرنسيين، وكانت عينه دائما على بلاده إيطاليا، التي كانت تستحق أكثر بكثير من حالة التفكك التي أصابتها من وجهة نظره.
ثالثا: إن كل أوروبا كانت تستعد لاعتناق عصر السلطة المطلقة Absolutism للملوك، التي سمحت لهذه الدول بأن تتوحد وتقوى تدريجيا من خلال دولة القانون، بالتالي أصبحت كتابات ماكيافيلي تصب في هذا الاتجاه بديلا للفوضى والتفتت خاصة تدخل الكنيسة في شؤون الدول والإمارات الإيطالية بعدما سيطرت على الدولة البابوية وبدأت تتلاعب بمستقبلها.
رابعا: إن الثابت في التاريخ الأوروبي أن ماكيافيلي جاء في مرحلة مفترق طرق أوروبية، فقد بدأ عصر النهضة في إيطاليا منذ عقود قليلة قبله، وبدأ الفكر القومي يظهر ومعه المتغيرات الاجتماعية وبدرجة أقل السياسية، فلقد أصبحت طبقة النبلاء والأرستقراطية تنحسر لصالح طبقة وسطى جديدة، مما دفع للاهتمام بتقوية دور الدولة حفاظا على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، وعلى رأسها هذه الطبقة، إلى جانب الطبقة البرجوازية التي ارتبطت بالوفرة الاقتصادية التي بدأت تظهر في إيطاليا بسبب الرواج التجاري لكثير من دويلاتها.
خامسا: لعل أهم التأثيرات السياسية التي عكست فكر ماكيافيلي كانت حالة الانحدار الأخلاقي في إيطاليا خاصة فلورنسا، فلقد رأى بلاده تفقد هويتها الأخلاقية مع انتشار الفساد وحالة عدم الاكتراث التي أصابت المواطن الإيطالي والدويلات على حد سواء، وما صاحبها من ضعف الحكومات وعدم قدرتها على تطبيق القوانين وغيرها من الأمور المختلفة.
لا خلاف على أن هذه الخلفية المهمة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تقييم الفكر الماكيافيلي ودوافعه، فلقد كتب كتابه «الأمير» من أجل من رأى فيه أمل فلورنسا وإيطاليا ككل، فهو الرجل القوي الذي يمكن أن يسيطر على مجريات الأمور فيها ثم يصبح بعد ذلك موحد إيطاليا كلها، وذلك على الرغم من أن ماكيافيلي لم تكن لديه خطة واضحة لكيفية تنفيذ هذا التوحد، ولكن الهدف كان واضحا، لذلك ركز على الإطار الجزئي ممثلا في فلورنسا وليس الكلي ممثلا في إيطاليا، فكان الهدف هو تقوية فلورنسا لتستطيع أن تقود هذه الحركة، فجاء كتاب «الأمير» من هذا المنطلق ليكون أداة عملية لهدف سام، فكل النصائح التي أسداها الرجل للقائد الجديد إنما كانت تُخدّم على هدف أسمي وهو إنقاذ فلورنسا من حالة الضياع السياسي والأخلاقي، لهدف أسمى وهو توحيد إيطاليا، وقد كتب ماكيافيلي ما يؤكد هذه الحقيقة في كتابه الثاني عندما أكد على أنه «عندما يكون أمن الوطن يعتمد على اتخاذ تدابير محددة فيجب عدم الاكتراث بالعدالة أو عدم العدالة، الإنسانية أو الوحشية، أو للعظمة أو الخزي، فلا مجال لأن يسود كل هذا، فلا بد من تنحية كل الأمور جانبا للحفاظ على الحياة والحرية في الدولة».
وإزاء هذا الفكر خرج كتاب «الأمير» ليتضمن النصائح اللازمة للسيطرة على مقاليد الأمور لأنها الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الدولة التي هي أساس كل شيء؛ الضمانات والحريات والموطن الذي يعيش في المواطن، لهذا طلب ماكيافيلي من الأمير أن يكون مثل الثعلب وفي الوقت نفسه مثل الأسد.. ألا يكترث كثيرا بالمسائل الأخلاقية، ما دام الهدف يصب في مصلحة الدولة والرعية، كما أنه طالب الأمير بأن يكون خبيثا وفي الوقت نفسه حازما، وهنا صدرت عنه جملته الشهيرة بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، والحقيقة هي أن مفهوم الفضيلة الجماعية كانت بالنسبة له أهم من الفضيلة الفردية، فالمصلحة الجمعية ممثلة في الدولة هي فضيلة جماعية وأهم من فردية المواطن، وهو عكس الفكر الذي يسود عالم اليوم الذي يرفع شأن الفرد على الجمع من خلال تسيد مفهوم حقوق الإنسان على حساب الدولة وسيادتها؛ فالأول حق فردي بينما الثاني حق جماعي، وحقيقة الأمر أن ماكيافيلي دق بكل قوة على عصب مهم للغاية يظل معنا إلى اليوم، فهل هيكل الدولة الجامع لكل الحقوق الفردية يسموا عليها أم إن الفردية تأتي في المقام الأول؟ وهنا تختلف الآراء والتحاليل كل وفق وضعيته وظروف دولته، بل إن مفكرين سياسيين يرون أن الإنسان لن يصل للخلاص السياسي أو الاجتماعي بعيدا عن وعاء الدولة، حتى وإن تجنت عليه أو انتقصت من حقوقه.
ولكن على كل الأحوال، تظل لماكيافيلي رؤية أعمق لأهمية الدولة، نوردها بالتفصيل في الأسبوع المقبلة.
________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *