«دهشات» الإيطالية آليتشي رورفاكير تروي عجائب الحياة اليومية


*عرفان رشيد


أكثـر من عشر دقائق من التصفيق المتواصل رافقه نهوض على القدمين لتحية فيلم المخرجة الإيطالية الوحيدة آليتشي رورفاكير «دهشات» الذي عُرض في صالة لوميير ضمن مسابقة الدورة السابعة والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي. شريط طموح يروي بشكل طبيعي للغاية ودون أية استعانات مُلفّقة حياة عائلة فلاحية بديلة، أبٌ ألماني وأمٌ إيطالية، عاصرا مرحلة نهاية الثمانينات. وبداية التسعينات.
و تحظى آليتشي رورفاكير (33 عاما) بشريطها الروائي الطويل الثاني «دهشات»، بالحضور الثاني في مهرجان «كان» السينمائي الدولي، بعد أنْ اختيرت قبل عامين في برنامج «نصف شهر المخرجين» بشريطها «أجساد سماوية». وكما في ذلك الشريط، يحقّق «دهشات» حضوراً جميلاً متميّزاً، يضع هذه المبدعة الشابة ضمن المخرجين القادرين على رواية اليومي والمعاش برؤية ورويّة قادرتين على الإفلات من شباك التوثيقية والريبورتاج التلفزيوني، وعلى أن تُقدّم اليومي الإيطالي، باعتباره ممكن الحدوث في أي مكان، ولا أدلّ على هذه القدرة من العائلة المركٌبة التي صاغتها في الفيلم، ما جعل اللغة المحكية في الفيلم وأسماء الشخصيات والمكان الذي تدور فيه الأحداث، مجرٌد مفردات ضرورية للرواية، وقابلة للتبديل، بحيث يمكن أن تدور في أي بلد أوروبي. 
عالم متراكب تتداخل فيه الفصول بشكل يجعل مرور الوقت ثانوياً، ويحسب بمقدار نضوج المشاعر والأنوثة لدى «جيلسومينا» (آليكساندرا لونغا) ، كبرى أربع بنات الزوجين فولفغانغ (سام لوفيك) و آنجيليكا ( آلبا رورفاكير) . هو، ألماني ينتمي إلى جيل الخضر وحماة البيئة، انسحب إلى الريف وكوّن مزرعة يفلحها ويربّي الماشية والنحل ويُنتج العسل. آصرته بالأرض قويّة
وتكاد آيديولوجية تجعله يرى في صيادي الطيور وفي مستخدمي المواد والأسمدة الكيمياوية وفي السياحة الواسعة، أكبر الأعداء للطبيعة ولحياة الإنسان. وهي، آنجيليكا، الأم الشابة التي أحبّته ولحقت به في الريف ما بين روما وتوسكانا، تُعنى بالأرض والمزرعة ولخلايا النحل، وببناتهما الأربع، جيلسومينا، ماتيلدي، كاتيرينا ولونا.
ويزداد تراكب هذا العالم بحلول صبي مراهق في الرابعة عشرة من العمر، أرسلته مدرسة إصلاح الأحداث ليعيش مع هذه العائلة يتأهل عبرها للحياة الاجتماعية، بعد تورّطه في مشاكل اجتماعية وبجرائم صغيرة. وفيما تُدير جيلسومينا شؤون النحل وإنتاج العسل وتعرف، رغم شباب عمرها، كل شيء عن النحل، يمثّل المراهق الألماني الصغير، تماثلاً لحلم فولفغانغ في العثور على ابن، وهو المحاط بست إناث.
وتبدو حياة العائلة سائرة بشكل طبيعي لولا حدوث أمرين، أولهما رسالة من البلدية تخطر العائلة بضرورة إجراء تعديلات وإصلاحات قانونية وصحيّة في المنزل والمزرعة تفرضها قوانين الاتحاد الأوروبي الجديدة على منتجي عسل النحل، وبعكسها سيتم إغلاق المزرعة، وثاني الحدثين وصول فريق تلفزيوني يسجّل برنامج مسابقات بين العائلات التي تُنتج الأطعمة والمحفوظات، وتجد العائلة نفسها مشاركة في المنافس مع عائلة الجار الذي يُنتج اللحم المُقدٌد.
وبرغم معارضة الأب الألماني وإصراره على ضرورة الحفاظ على نقاوة الحياة الفلاحية، فإن «جيلسومينا» تغامر بالتسجيل للمشاركة في البرنامج، وتُصبح تلك المشاركة أمراً واقعاً لا حول للأب برفضها، سيّما وأن أفراد العائلة الآخرون يُصرون على ذلك، علّهم يفوزون بالجائزة المُجزية مالياً، لكن الأمور تسير عكس ذلك، لأن الجار، صانع اللحم المقدّد، يتمكّن بكلامه المعسول من استمالة لجنة التحكيم ومقدّمة البرامج (تؤديها مونيكا بيلّوتشي) التي ينطلي عليها إطراء القصّاب لجمالها، في حين يعجز البيئوي الألماني من التعبير عن ما يفكّر به ويثير حنق مقدّمة البرنامج.
في هذه الأثناء يهرب الصبي المراهق الألماني ويغيب في غابة الجزيرة التي يُسجّل فيها البرنامج وتعجز العائلتان والعاملين في البرنامج ورجال الشرطة المرافقين لهم من العثور عليه، ويعود الجميع إلى اليابسة، وفي صباح اليوم التالي تُقنع جيلسومينا أمّها بأن تسمح لها بالعودة إلى الجزيرة لوحدها “لأنني واثقة من العثور عليه”، وبالفعل تفعل وتعثر عليه ويؤديان رقصتهما في أحد كهوف الجزيرة الإتروسكية، يرسمان على جدار الكهف بفعل ضياء النار الموقدة نقوشهما المتحرّكة، كما لو أنهما ينتميان إلى عالم الإتروسك السحيق وأبنائه الذين ملأوا جدران تلك الكهوف بحكاياتهم المنقوشة على الجدران.
تستعيد العائلة وحدتها، لكن ظروفها لن تسمح لها بإجراء التعديلات الضرورية لمشغل العسل، التي تطالب بها السلطات الصحية في الاتحاد الأوروبي، وتصبح مغادرة المنزل والمزرعة أمراً مفروغاً منه. 
وإذا كانت رواية اليومي والمعاش من أصعب أنواع الأفلام، فإن الأداء التمثيلي الواقعي واليومي هو من أصعب انواع الإداءات وهو ما تمكّنت المخرجة الشابة تحقيقه مع ممثليها، وقد برعت مجموعة الممثلين في الإداء، وتميّزت النجمة مونيكا بيلّوتشي عن الآخرين، أنها أدّت في الفيلم شخصية مُقدّمة برامج تلفزيونية غير ناجحة وقليلة الموهبة، لذا كان عليها أنْ تُظهر وتبرز سوء التمثيل والإداء، وما أصعب من أداء دور ممثلة لا تُجيد التمثيل.
______
*المدى

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *