*يحيى القيسي
يكاد دور الأدباء والفنانين العرب في ما يجري من حولهم يكون غائباً، فقد مر ما يسمى “الربيع العربي” بقسوة على كثير من البلدان العربية، وظل صوت المثقفين فيها خفيضاً، لا يكاد يؤثر في ما حوله، فحضورهم يكاد يكون سلبياً، وقلة منهم أعلنوا وقوفهم مع هذه الجهة أو تلك، أي أنهم تبعوا الساسة والعسكر أكثر مما أسهموا في صياغة مشهد تنويري لحقبة حضارية قادمة . لقد رضوا بدور التابع، أو انكفأوا على ذواتهم بلا حول لهم ولا قوة .
وفي ظل تدمير المجتمعات وإرجاعها إلى القرون الوسطى بسبب فهم خاطىء أو مشوه للدين، وأيضاً مع القتل اليومي بوحشية يبدو واضحاً أن ما يجري يؤشر بقوة على أن دورهم السابق – والمجتمعات آمنة ومستقرة – كان أيضاً بلا أيّ تأثير، وضجيجهم بلا طحن، فإذا أخذنا هذه الشريحة من المجتمع والتي من المفترض أن يكون لها دور قيادي أو على الأقل يسهم في تغيير المجتمعات من أدباء وفنانين ومفكرين إضافة إلى قطاع كبير من المثقفين سنجد أنها تنشغل في الفعاليات الذاتية محدودة التأثير مثل الأمسيات الأدبية والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية أو النقاشات الخاصة على مستوى الأصدقاء، ولا يتعدى دورها ذلك، وهي أبعد عن دور “المثقف العضوي” على رأي غرامشي، فالنشاطات الأدبية التي يحضرها أشخاص لا يتجاوز عددهم الخمسين شخصاً في أغلب البلدان العربية، هم في غالبيتهم من الزملاء والأصدقاء والأقرباء لصاحب الأمسية، لن تسهم لا على المدى الطويل أو القصير في تثقيف المجتمعات ونشر ثقافة إعمار الأرض والاحتفاء بالحياة، وهي غالباً ما تكون أيضاً في العواصم والمدن الكبرى وبالتالي سيتم حرمان شريحة هائلة من الحضور لا سيما في الأرياف والبوادي والضواحي والمخيمات، وحتى هذه الفعاليات إن صدف وحضرها جمهور كبير، فإنه لن يفهم كثيراً من الأحجيات والمفردات التي يتنطع (النخبة) غالباً في استخدامها .
المسألة الأخرى التي أودّ الإشارة إليها هنا تتعلق بالدور التنويري المفترض أن يكون للأدباء والفنانين، وهذا يكاد يكون معدوماً لا بل بعضهم يسهم في الدور الظلامي بأدبه وفنه، فقد استيقظت المجتمعات العربية على مجموعات إقصائية تتلبس بثوب الدين وتعلن رغبتها في تغيير المجتمعات بالقوة، لا تعترف بالحوار ولا بثقافة الحجة بالحجة، وهي تبدو رداً موازياً لديكتاتوريات لا ترحم أيضاً، وفي ظل هاتين الثنائيتين الإقصائيتين يغيب تماماً صوت العقل، ولا يبدو أي بصيص لنور الاحتفاء بالحياة وإعمار الأرض التي هي في النهاية مقصد الوجود البشري، والسبب برأيي أن غالبية الأدباء والمثقفين لا ينشغلون أبداً بقراءة الفكر الديني ولا حتى معرفته، وبالتالي لا يستطيعون النقاش فيه، أو مقارعة الجهة الأخرى بالفكر نفسه، ذلك أن بعضهم ارتضى بفكر آخر لا ديني غالباً – وهذا حقه بالطبع – لكنه فكر نخبوي ولا يؤثر في المجتمعات، وهو أيضاً من جهة أخرى “إقصائي” أي لا يؤمن بحق الآخر في الفكر .
وبسبب من كل ذلك بدا الربيع العربي بلا أي تنظير فكري أو تأطير ثقافي، وظهر كعاصفة هوجاء سرعان ما بدأت تخرب الديار نفسها وتطيح بالأخضر واليابس .
أعتقد أن على الأدباء والفنانين العرب مراجعة الذات والتأمل بما فات، فالفأس قد وقع بالرأس كما يقال، والسيف وصل إلى الرقاب، وكل ذلك بتنظير فكري معاد للحياة يحتفي بثقافة الموت، ويعتمد على مصادر لم تتم مراجعتها وتأملها بعناية، فالفهم الخاطىء لمقاصد الدين الحقيقية، والقراءة المغلوطة للنقل قادت إلى ما وصلنا إليه في ظل غياب شامل لدور المفكرين والمبدعين، وما لم نبادر اليوم لنشر ثقافة التسامح وحرية الفكر والمراجعة الجريئة للنقل، والاحتفاء بالحياة في المجتمعات العربية ونبذ ثقافة العنف والتطرف فإن المستقبل سيبدو قاتماً، وسيظهر هناك الكثير من “البشر الجوف” على رأي الشاعر الإنجليزي ت . س . إليوت الذين يعيدون صياغة المجتمعات حسب آفاقهم الضيقة ويعزلونه عن العالم، وينشدون:
نحن البشرُ الجوّف
نحن البشرُ المحشوون
نميلُ معا
والرأسُ مملوء بالقش
فيا للحسرة!
______
** روائي أردني ورئيس تحرير “ثقافات” /الخليج الثقافي