*نزار حسين راشد
( ثقافات )
التأبين السخي،الّذي جاد به المثقّفون العرب،على روح غابرييل غارسيا ماركيز،طغى رُبّما وفاض،على ما اختزنته الذاكرة الثقافيّة،في زواياها،أو على رفوفها،من ثناءٍ على هذا الرجل!
كالعادة تسبق الإحتفاليّة البصيرة،أو التبصُّر،وهذه هي الحال،الّتي يبدو أنّها ثابتة،لدى مُثقّفي اليسار العربي،الّذي يُفترضُ أن يروا ما يراهُ الرائي،لو وضع قدميه في أحذيتهم،أو وقف في أمكنتهم!
ولكنّهم يتجاوزون ذلك،إلى حالةٍ مُتخيّلة،تُلامسُ تلامساً ودوداً،واقعيّة ماركيز العجائبيّة،أو السحريّة!
رُبّما كان ماركيز،مثالياً ثوريّاً،ورُبّما وقف في الصف المناويء،للإمبرياليّة المتوحّشة،وفي صف االشعوب المستضعفة أو الثائرة في وجه الإستعمار القبيح،والديكتاتوريّات الّتي تُمثّله!
ولكنّه في كُلّ ذلك،لم يصدر عن أيديولوجيا ماركسيّة،ولا حتى إشتراكيّة علمية،وإنّما عن بعدٍ إنساني،يعكس الروح الحُرّة،للمُثقّف النزيه،والمتعاطف مع قضايا الإنسان!الإشتراكيّة الّتي نادى بها،كانت صوتاً داعياً للعدالة،وانتصاراً للمُضطهدين والمقهورين،بالمعنى الإنساني المطلق،لا السياسي الضيّق،ورُبّما هذا ما أعطى أدبه قيمته،ونقلهُ إلى الأفق الإنساني،ومنحه تلك اللمسة السحرية،الّتي تضفي بعداً ميتافيزيقيّاً على حياة الإنسان،عوضاً عن سجنها في قفص الماديّة الضيّق!
ولكنّ اليسار العربي،أبى إلّا أن يُلبسهُ ثوب ماركسيّته الفضفاض،والّذي يناسب كُلّ المقاسات،حسب خطابهم المرتبك!
لم يكن ماركيز ليكون نصيراً لأيّ ديكتاتوريّة غاشمة،لا يهمّ عن أيّ أيديولوجيّة صدرت،إلّا أنّ رؤية اليسار العربي،المنحازة بلا خجل للديكتاتوريات العربيّة،الّتي لبست مسوح الوطنيّة والقوميّة والإشتراكيّة،لم تصلها رسالته هذه بوضوح،بل إنّ شكلها الأكثر راديكاليّة،الشيوعيّون على سبيل المثال،وقفوا بشراسة في وجه المشروع الديمقراطي الوليد،الّذي حملته موجات الربيع العربي،ولصالح أنظمة رجعيّة تقليدية،متصالحة مع المشروع الإستعماري،في أكثر صوره فظاظة وعنصريّة،مُمثّلاً بإسرائيل،العدو الأوّل لمشروع النهضة والتقدّم العربيّين!
ومن هنا نذكر موقف ماركيز،المنحاز لقضيّتنا،كما عبّر عنه موقفه،من مجزرة قانا،والازدراء الّذي صبّه على رأس شمعون بيريز،في حينه!هذا الموقف المتماهي أصلاً مع ذاته ورؤيته،البريئة من الإزدواجيّة الّتي يُمثّلها اليسار العربي!
الّذي يقف مع الأنظمة ضدّ الشعوب،باسم الإشتراكيّة والوطنيّة،في تناقضٍ صارخ،ينسف رؤيته من أساسها،فاليسار الفلسطيني،ينحي باللائمة لا على إسرائيل،بل على اليمين الإسرائيلي،في إفراغٍ فاضح للمواجهة،من زخمها،ونزعٍٍ لفتيلها الثوري،الّذي تنسب هذه الأحزاب لذواتها،فضيلة ،إشعاله!
هذه الرؤية الضحلة،قادتها إلى مواجهة مباشرة،مع التيّار الديني ،الثائر في وجه الأنظمة الديكتاتوريّة،بعكس أمريكا الجنوبيّة،الّتي تحالف فيها اليسار الثوري،مع الديني الثوري،المنبثق من صفوف الكنيسة الكاثوليكيّة ذاتها!
الذرائع الّتي يقدّمها اليسار في هذا السياق،يكشف عن إفلاسٍ فكري،تعزّزه مواقفه السياسيّة ذاتها!فالأنظمة القوميّة الإشتراكية،تحوّلت إلى مافياتٍ عائليّة،تراكم الثروة،من خلال أبشع الممارسات الرأسماليّة،الإحتكار والسمسرة والكمبرادوريّة!
لم تكن ديكتاتورية كاسترو،صديق ماركيز الحميم،لتنحى هذا النحو الزائف ،المتحايل والجهنّمي،وكلّ خطيئته،هي حَرْفيّة التطبيق،ولكنّه لم يفتح للرأسماليّة الجشعة باباً خلفيّاً،ولم يراكم ثروة عائليّة،أمّا رفيقه جيفارا،فقد لمّ حوله عدداً من رجال الدّين الثوريين،ومن قساوسة الكنيسة،وقال إنّ المسيح نفسه،ما كان ليقف إلّا في صف المظلومين!
حتّى هذا الفهم البسيط،قد جانب اليسار العربي،والّذي فشل في التحالف،مع القواعد الجماهيريّة الّتي صعّدت التيار الإسلامي،لا بل أصدر شهادات براءة من دمها للديكتاتوريّات القمعيّة الّتي لم تُمثّل أبداً إلّا مصالحها الطبقيّة،وهيمنتها الجشعة،على الموارد الإقتصاديّة،ومشروعها السياسي،المتماهي مع إسرائيل،جبهة الرأسماليّة المتقدّمة،وخطُّ هجومها الأوّل!