*عبدالمنعم رمضان
أحيانا أتصور وهذا محض خيال، أن هالة كوثراني فوجئت بترجمة رواية إليف شفق، قواعد العشق الأربعون، إلي اللغة العربية بعد أن قرأتها في أصلها الأجنبي، ولهذا التصور حكاية خارجة عن قدراتي في قبول الخرافة أو ترويجها، فعندما كنت شابا مثاليا وعنيفا، صادفت أحد أقربائي من شيوخ الصوفية في مجلس يجمع عددا كبيرا من الدراويش الذين أحاطوه، وشعرت أن بعضهم زائف، أن أغلبيتهم زائفة، كانت أصواتهم مثل شظايا الزجاج المكسور تخرج من حلوقهم وتحط في أذني، بعد انفضاضهم سألت الشيخ قريبي عن هؤلاء الأدعياء، فقال لي: تعلّم ألا ترد راغبا، لأن من يحوم حول الحمي يقع فيه، فيما بعد اكتشفت أن الكتابة شأنها شأن التصوف، وأن الكتّاب مثل الدراويش تزايدوا وأصبحوا أكثر عددا من القراء، خاصة في ميدان الشعر، وأيضا في ميدان الرواية، ولأنني أحب الرواية، وأحب الرواية النسوية، وأحب لبنان واللبنانيين واللبنانيات، وأحب ليلي بعلبكي في حدودها التاريخية، وبعض إميلي نصرالله، وعصر فتوة حنان الشيخ، وكل هدي بركات، وأحب غيرهن، فيما أتحاشي ذكر رشا الأمير لأنها صاحبة رواية واحدة جميلة، والحكمة تنصحنا ألا نمنح اللقب روائي، إلا بعد الرواية الثانية، وأتحاشي ذكر نجوي بركات، لأنها صاحبة ورشة تدريس لكتابة الرواية، ولانها صاحبة الشيخة مي خليفة، والصحبتان تدوران في أفلاك تقاليع البورجوازية الرثة والمال والسلطة، والفن يكره هذه الأفلاك جميعا، ويحذّر منها، أقول لأنني أحب الرواية، والرواية النسوية، ولأنني أقرأ الروايات من أجل أن ألتمس حظي في كتابة الشعر، لكل هذه الأسباب، أتطلع إلي من يدلني علي رواية جديدة، وإذا لم يدلني أحد، غامرت بنفسي، وها ما أفعله غالبا، هكذا قرأت ستديو بيروت لهالة كوثراني، وعزوت ضعفها الواضح إلي كونها من بواكير كتاباتها، روايتها الثانية، هالة كانت من فريق الفائزين بجائزة الـ 39 الملتبسة التباس مانحيها، وليس التباس الحاصلين عليها، وهالة مازالت تعمل رئيس تحرير مجلة نسوية، وهي تتميز، هكذا دلتني صورها الفوتوغرافية المنشورة، تتميز بالجمال والرقة والاناقة، مما جعلني أصبر عليها ولا أنصرف عنها، قرأت منذ فترة روايتها الثالثة، “علي الأمريكاني”، ورأيتها خطوة جديدة ابتعدت بها عن سذاجة ستديو بيروت، واقتربت بها من شطوط كتابة الرواية، لكنها مازالت علي البر، مازالت بفستانها الكامل، وانتظرت ما بعد “علي الامريكاني”، ولما صادفت روايتها الرابعة “كاريزما”، أعددت نفسي لحضور الحفل، خاصة أن مقالات تداولتها بعض الصحف، لاسيما ماكتبه زملاؤها في المؤسسة التي تعمل بها، مقالات أشادت ومدحت، ثم أشادت ومدحت، ولسوء حظي قرأت كاريزما بعد قراءتي رواية إليف شفق “قواعد العشق الأربعون”، وبعدهما أحسست أنني صعدت فوق سطح أعلي بناية في مدينتي، وهناك وأنا أنظر إلي الأرض البعيدة، تسللت خلف ظهري يدان أنثويتان ناعمتان، عرفت فيما بعد أنهما يدا هالة، ودفعتاني إلي أسفل، الغريب أنني لم أصل إلي الأرض التي أحن اليها، سقطت في بئر، تمنيتها أن تكون بئر شمس تبريزي، لكنني اكتشفت أنها بئر قرة العين، أرض الكتابة أعرف أنها ليست بيضاء تماما، وأنها فعل علي فعل، كتابة علي كتابة، لكنها رغم ما تحمله داخلها من ذخيرة ومعارف سابقة، إلا أنها مجبرة علي أن تكون بلا أبوين معروفين، علي أن تكون لقيطة، هي كتابة إثبات، لكنها أيضا كتابة محو، في رواية إليف شفق، وإليف تعني حرف الألف، خطان يجريان في اتصال وتواشج، أحدهما معاصر وأحدهما تاريخي، امرأة في أسرة يهودية تحكمها تقاليد الديانة، امرأة ذات زوج وابن وابنة، وتعاني من رتابة حياتها، وخيانات زوجها، والحيوات الخاصة للاثنين من ذريتها، فتعمل قارئة لدي إحدي دور النشر، مهمتها أن تكتب تقريرا عما تقرأه، وتحال إليها رواية عن مولاي جلال الدين الرومي وشمس تبريزي، وهكذا تتناوب الرواية، أعني قواعد العشق، دون انتظام استاتيكي صارم، فصول من حياة المرأة، وحياة الرومي وشمس، وسوف يبدو طوال الرواية أن فصول الماضي أكثر قوة وإمتاعا من فصول الحاضر، وكأن نعي الحاضر هاجس مضمر، مع الاحتراز بأنه ليس نعيا لحساب الماضي، إنه نعي لحساب الحاضر ذاته، ولذلك فإن المرأة تتغير في أثناء القراءة، ويتغير معها عالمها، وتبحث عن المؤلف، وتلتقيه وتتعلق به، وعند الخاتمة تلتحم النهايتان، يختفي شمس تبريزي في حادثة قيل أن متآمرين بينهم ابن جلال الدين، ألقوه في البئر، وأهالوا عليه التراب، آنذاك يلتقي العاشقان: الروائي والقارئة صاحبة التقرير، ويتحابان ويتضاجعان قبل أن يموت الروائي بمرضه اللعين، كان جلال الدين الرومي قد ضاع بعد فقده شمس، ومثله ضاعت المرأة، هاتان هما النهايتان موت شمس وموت الروائي، وضياع جلال الدين وضياع المرأة، ومعها وعلي حدود ضياعهما، اكتملت قواعد العشق الأربعون، رواية هالة كوثراني، كاريزما، أيضا خطان يجريان في اتصال وتواشج مزعومين، أحدهما معاصر، وأحدهما تاريخي، فتاة تعاني من رتابة حياتها، بعد قصة حب فاشلة، اكتشفت بعدها أنها لم تكن تحب، فتعمل قارئة لدي سيدة وحيدة موسرة عجوز، وتختار أن تقرأ عليها حياة قرة العين، التي تروي كتب التاريخ أنها كانت من الأركان الأساسية في حركة الباب الشيرازي، ويري البعض أنها السبب المباشر لقضية حرية المرأة في الشرق الإسلامي، عموما تتناوب الرواية دون انتظام استاتيكي صارم، فصولا من حياة الفتاة وحياة قرة العين، وهي فصول مياهها واحدة، لا تختلف فيها فصول الماضي عن فصول الحاضر، وكأنهما زمان واحد، وكأنهما زمان بليد رغم كثرة أحداثه، كأنهما زنزانة، خاصة أن الإيديولوجيا غلبت السرد وسرقت منه حميميته وحبستها، واللغة الرخام غلبت اللغة النار وسرقت منها نورها، وحبسته، الإحساس الطاغي بالنقص والحاجة، دفع هالة كوثراني إلي الاستعانة ببعض نصوص فروغ فرخزاد في حركة إقحام واستعراض ثقافي، مما كشف عن قلة حيلتها ونقص متاعها، وبدت روايتها كأنها امرأة بلا رحم.
______
*أخبار الأدب