تصوّر فلسفي عن صلات غامضة بين البشر والآلهة



*مفيد نجم

يطرح ميشال بيران مؤلف كتاب “الشامانية فلسفة للحياة” مجموعة من الأسئلة المهمة حول طبيعة هذه الفلسفة ووظيفتها والموقف منها، وفي المقدمة منها سؤال يتعلق باعتبارها شكلا من أشكال التدين أم هي طريقة خاصة لإدراك المصائب ومعالجتها، تقتصر على النخبة أم هي ممارسة سحرية متاحة للجميع.

وفي معرض الإجابة يتحدث عن بروز ميل لدى الإتنولوجي لاعتبار هذه الفلسفة حدثا اجتماعيا يهم المجتمع ومؤسساته باعتبارها حدثا دينيا ورمزيا واقتصاديا وسياسيا وجماليا، ولذلك يحاول الكتاب التدقيق في مجموعة المفاهيم التي قدمت عنها بغية تقديم كمّ وافر من المعلومات المتعلقة بها.
تاريخ وتعريفات
يذهب المؤلف ميشال بيران إلى أن الشامانية هي واحدة من أكبر الأنساق التي تخيلها العقل الإنساني لأنها قد ظهرت لكي تعطي للأحداث معنى وتؤثر فيها، الأمر الذي يقوده لاقتراح تعريف يعتبرها من خلاله فلسفة تقدم تصورا خاصا للإنسان وللعالم يقوم على أساس وجود صلة بين البشر والآلهة بينما تتحدد وظيفة الشامان بالتنبؤ بكل اختلال ممكن والاستجابة لكل مصيبة حيث تفسرها أو تحيد عنها أو تشفي منها ما يجعل الشامانية مجموعة من الأفكار تبرر مجموعة الأفعال.
ويجمل المبادئ الكبرى المميزة لها في ثلاثة أقسام هي: الشامانية بوصفها تصورا ثنائي القطب أو تصورا مزدوجا للشخص والعالم لأن الإنسان ثنائي التكوين (الروح والنفس) والعالم مزدوج (عالم دنيوي مرئي وعالم غير مرئي هو عالم الله ورسله وعالم الأرواح وعالم الأخيار من الناس والحيوانات والنباتات وعالم الأسلاف والأموات). لكن العالم المرئي يجاور العالم اللاّمرئي الأمر الذي يجعل العالم الذي يهبه لنا العالم الآخر الحاضر دوما وأبدا لأنه يسكنه ويتحكم به.
وإذا كانت المصائب الكبرى من كوارث ومجاعات تعود إلى العالم الآخر الذي هو إسقاط لهذا العالم في حين أن الكائنات التي تسكنه تركتها الأفكار والأهواء التي تحرك الناس الذين يتخيلونها، إلا أن سلطتها تبقى هي الأكبر والأسمى. ويوضح الباحث أنواع الشامانيات بدءا من الشامانية التي تعد نوعا من التواصل والتي تقول بأن العالم الآخر يتوجه للإنسان بواسطة علامات أو لغات خاصة، وهي تفترض أن بعض الناس يستطيعون إراديا ربط تواصل مع اللامرئي حيث يتمكنون من معرفته ورؤيته وهم الشامانيون، الذين يتحولون إلى وسيط يسافر بين الحدود. وهناك الشامانية ذات الوظيفة الاجتماعية وتقوم على الاعتراف الاجتماعي به كمتلق للعالم الآخر بناء على طلب، وهذا الشاماني لا يقوم بعمل خاص به بل يتدخل لمعالجة وإبعاد المصيبة من خلال التأثير على روح المصاب واستخلاص العنصر الخبيث من جسمه.
أصل الكلمة
تعود كلمة شامان في أصولها إلى كلمة “صامان” بلغة “التونغوس” التي تعد جماعة لغوية منغولية تنتشر في سيبيريا الشرقية وحتى حدود الصين. وكلمة “صامان” مشتقة من كلمة “صا” أي المعرفة وبالتالي فكلمة صامان تعني الذي يعرف. لكن البعض يعود بالكلمة إلى جذر يحمل معنى الحركة والقفز والرقص. ومن جهته يعيد قاموس ليتري كلمة شامان إلى الكلمة السنسكريتية “صرمناص” التي تعني المتعبد الصوفي. أما في بعض قواميس القرن التاسع عشر وبداية العشرين فالكلمة مستوحاة من مؤلفين روس إذ تنحدر منها كلمة “كسمان” من “لغة بالي” وهي الفرضية التي اعتمدت من قبل مرسيا إلياد لكنه جرى التخلي عنها. وتوضح القواميس التاريخية أن الكلمة ظهرت للمرة الأولى في اللغة الفرنسية تحت اسم “شامان”. لكن الملاحظات الأولى عنها ظهرت في القرن السابع عشر من خلال رجال دين ونبلاء روس، وقد اعتبرهم البعض مشعوذين بينما نظر آخرون إلى تصرفاتهم على أنها سلوكيات مرضية ارتبطت بخصائص عرقية أو شروط مناخية صعبة. ويرى المؤلف أن الشامانية مشابهة للطوطمية فهي تشكل مستوى من التطور للديانات الممزوجة بممارسات سحرية. ويعود الباحث لمحاولة الإجابة عن السؤال الأهم هل الشامانية دين أم لا بعد أن يستعرض مواقف الدارسين التي توزعت على موقفين متناقضين يرفض الأول منهما اعتبار الشامانية دينا لأنها تفتقر إلى المعتقدات الخاصة بها ولا تتضمن أية طقوس، في حين يذهب الطرف الآخر إلى اعتبارها دينا إحيائيا توحيديا تعدديا من التواصل مع المافوق طبيعي.
أما ميشال بيران فيعتمد التوصيف التركيبي إذ أن هناك حالات خاضعة للديانات الكبرى أو هي أشكال ممزوجة تحت أسماء رتبتها الصدفة ولذلك يلجأ إلى إبراز منطق التمثلات الشامانية ومنطق ممارسات الشامان بهدف استثمار الاتجاهين الأنثربولوجيين الكبيرين، الاتجاه الذي يهتم بالمعنى والأفكار والشكل والاتجاه الذي يهتم بالوظائف والأدوار الاجتماعية مع التأكيد على العلاقات الصميمية بين هذين المستويين.
كيف تصبح شامانيا
نظرا لأن المنطق الشاماني يستدعي من العالم الآخر أن يقدم للشامان روحا أو عدة أرواح مساعدة فإن هناك ثلاثة طرق للوصول إلى الشامانية يحددها المؤلف في الاختيار الإلهي أو العفوي دون إرادة ظاهرة من الشخص وهو اختيار فردي وعلى صاحبه أن يتحمل الصعاب بمحض إرادته إلى أن يتلقى علامات من اللامرئي، أو عن طريق الاصطفاء العفوي الذي يقوم به العالم الآخر أو الكائنات اللامرئية المتنوعة بشكل كبير.
وهناك أخيرا الإرث أو التناقل العائلي حيث تبذل الجهود لتبقى الشامانية داخل العائلة أو المجموعة من قبل الأجداد وهو ما يحدث في مجتمعات تعرف التراتبية تقوم بدفع بعض أعضائها للبحث عن العلامات المبشرة حيث يتم نقل الشامانية في نهاية عصر كل جيلين إذ يتم عند موت كل شامان التعويض عنه بواحد من أحفاده بعد أن كان مساعدا له. وينوه الباحث إلى جانب هام في عملية الاصطفاء يتمثل في أن هذا الاختيار نادرا ما يكون فجائيا ففي السابق كانت العلامات تتراكم إلى أن تحصل القطيعة، التي تشير إلى أن الشخص قد تم اختياره من قَبْلُ من طرف العالم الآخر.
وتعتبر الأحلام والرؤى والأمراض والنفور من الأكل من علامات الاصطفاء أو الموهبة لأن هذه المظاهر هي علامات دالة. وبعد أن يشرح الباحث هذه العلامات يتناول القطيعة النهائية التي تحدث بعد تراكم العلامات السابقة وكيفية تشخيص المعلم الشامان الذي يلجأ عادة إلى إخضاع المتعلم لامتحانات لها أهداف مضاعفة، لكن في بعض الأحيان قد يكون الامتحان مستقلا عن المتعلم ومعلمه من خلال التضحية بالسنجاب الطائر الذي يدل ظهور جثته بعد سبعة أيام من التضحية به على أن المرشح هو شخص شاماني.
الشاماني وتمثلاته
في هذا الفصل يتناول الباحث أنماط تواصل الشامان مع اللامرئي كالجدية والوجد ثم يناقش وضع هذه الحالة بوصفها حالة من حالات تغير الوعي حيث يعيش الشامان علاقة أخرى مع العالم ومع جسده وفي هذا السياق يتحدث عن استخدام الشامان لحشائش الهلوسة لكن الشامان الكبير تكمن قدرته في التخلي عن هذه المخدرات.
وينتقل في الفصل التالي للحديث عن فنون الشامان الذي تتضمن وظيفته ثقافة واسعة وصفات تعبيرية عالية ومعرفة واسعة بالسياق وهو يلجأ أثناء الطقوس إلى تأكيد دور بعض الرموز مثل الألوان والأعداد والأفضية والعناصر، لكن الشامانية تتميز بكونها فنا شفهيا وفنا دراسيا وتبدو فيها الصفات الذاتية والشخصية أساسية ما يجعل من الشاماني فنانا يمارس التخييل والإبداع مع كل وضعية جديدة وقد يكون هذا الفن صباغيا كصباغة الرمل، وتَحْمِلُ الطبول الخاصة بهم زخارف دائمة، كما يمكن للشاماني أن يكون منشطا للحياة الاجتماعية عبر طقوس مختلفة كالقنص والمرض والحرب والموت.
——-
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *