*عمّار المأمون
دمشق – هي حالة اللاّ-حسم الّتي تحكم الفلسطيني أينما كان، حياته تساؤل دائم عن الانتماء، علاقة مختلفة مع الأرض والتاريخ تلك التي تسيّره هاذياً بين حدود البلدان لاجئاً أو مقيماً، سؤال الهوية هو شاغله، متدخلاً في كافة تفاصيل حياته.. هذه التساؤلات تعكسها الروائية الفلسطينية مايا أبو الحيات في روايتها الأخيرة “لا أحد يعرف زمرة دمه” الصادرة عن دار الآداب سنة 2013.
رواية “لا أحد يعرف زمرة دمه” تسرد قصة الفتاة جمانة ورحلة تنقلها بين ثلاثة بلدان وعلاقتها مع والديها المشوبة بالغموض أحياناً والوضوح في أحيان الأخرى، ومحاولتها معرفة والدها الحقيقي بعد اكتشافها للاختلاف الحاصل بين زمرتي دمهما. تحاول أبو الحيات تقديم صورة مجازية عن الفلسطيني المرتحل مراراً، في سبيل البحث عن انتمائه. ويذكر أن الرواية كتبت بمنحة آفاق للتفرغ الكتابي التي حازت عليها الكاتبة عام 2011.
أمكنة التيه
تستدعي الرواية قصة جمانة وتنقلها بين ثلاثة بلدان؛ لبنان، الأردن، وتونس، حيث ترسم تفاصيل حياة الطفلة الفلسطينية خلال رحلاتها الكثيرة. لا يوجد نقاط محددة في حياتها سوى تلك التي تتعلق بخيارتها مع الآخرين، الذين يتناوبون بالحضور والغياب في حياة جمانة و أختها يارا، فهي تتكون كأنثى عبر علاقتها مع الآخر، وعبر ما تسمع من قصص حولهم، معادلات رمزية تتعلق بحياة الفلسطيني الذي يقوم معظم تاريخه على الروي القص، لا على المعاينة الشخصية والخبرة الذاتية مع ذاك الغياب قصراً المسمى فلسطين. حياة جمانة لا تعرف الحدود، مليئة بالمفاجأة التي لا يمكن أن يتوقعها المرء.
تعدد الألسنة
تعتمد أبو الحيات في سرد القصة على عدة أصوات، فالرواية مقسومة إلى فصول كل منها يروي جانبا من القصة بلسان شخصية ما حسب علاقتها مع جمانة، هنا نلاحظ تقلب جمانة بالأدوار ففي كل مرة تتخذ شكلاً جديداً حسب رؤية من يقوم بالسرد، كل منهم يقدم لها صورة مختلفة؛ عمتها التي تراها كطفلة صغيرة وتعتبرها عالة، حيث ألقاها والدُها رفقة أختها على كاهلها بعد أن تركتهما أمهما -حسب رواية العمّة-، والأب الّذي يراها كمشروع عاهرة ويصرّ على أنّها تشبه أمها التي تركته.
نلاحظ أن الرواية ترسم ملامح للمرأة بوصفها مبعدة ومهمشة ودائما ما تتعرّض رغباتها إلى القمع، مهما يكن ما تعانيه من المجتمع أو الذكر فعليها الانصياع دون أي نقاش. هذه حالة والدة جمانة التي قاومت وهربت بعيداً من زوجها فتحولت إلى رمز للعهر والفساد بعيداً عما تعرضت له من قسوة بسبب زوجها. حتى يارا وجمانة و”العلقه” التي نالتاها بسبب رغبتهما في قصّ غُرّتهما، فحسب أبو السعيد -الوالد- عليه دائماً أن يضيق عليهما الخناق، كي لا يتسنّى لهما أن تُصبحا عاهرتين كأمهما، حسب تعبيره .
تتصعد المأساة التي تعيشها الشخصيات لتمتلك صيغة أشبه بالكوميديا السوداء، حيث يتناول القارئ المأساة كحدث اعتيادي لا يرتقي إلى مستوى الخسارة الكبرى التي تعيشها الشخصيات، المأساة التي تنتمي إلى الغياب، غياب الأم والأب أحياناً وبصورة أهم الوطن والهوية، فالمآسي الصغيرة والمعاناة ضمن التفاصيل اليومية تكتسب حساً كوميدياً، يجعل الشخصيات أكثر واقعية وغرابة، محكومة بالقسوة أمام هول ما هو أهم -المذكور سلفا-، فالقمع الذكوري والخلافات على السلطة السياسية وتعدّد الانتماءات وضياع الحب، هي حالات هامشية أمام حالة الغياب الكبرى المتمثلة في الأم والوطن.
تناقش الرواية عبر خطابها أزمة الهوية الانتماء، و تجعل الرغبة في معرفة حقيقة الأب في المختبرات الطبية معادلاً رمزيا في سبيل استحضار معالم الهوية التي تشكك جمانة بوجودها، كما إنّها تشكك في انتمائها إلى فلسطين وفي الخطاب الذي يحمله هذه الانتماء، نوع من (الانحراف المعرفي) تصاب به جمانة، هناك صورة كُوّنت لها عن دورها وهويتها وانتماءاتها، فُرضت عليها لكنّها تكتشف مع مرور الزّمن عدم مثالية هذه الصورة ومُخالفتها للواقع الّذي تعيشه وتختبره، وهذا ينعكس على لغة الشخصيات نفسها التي تتطور حسب المراحل العمرية، فجمانة تكبر وتختلف لغتها ومحاكمتها للأمور، حيث تمتزج لغتها بلغة غيرها لتصبح أقسى وأكثر استهتاراً أحيانا، فهي تختلف باختلافها كأنثى؛ جسداً وروحاً، جمانة تستعيض عن الحضور أحياناً بالأثر، ذاك الذي يتغير شكلاً لكنّه يبقى على مستوى المضمون، هو (الموتيف) الذي يأخذ أشكالاً عدة في حضوره الرمزي، هو الغياب على حساب الحضور المحكوم بالفقدان.
معضلة الحقيقة
ترسم أبو الحيات ملامح ضبابية للمكان، الفضاءات المغلقة أكثر طغيانا على تلك المفتوحة، وتفاصيل الحياة اليومية ترسم الداخل أكثر من الخارج، فالداخل هو الانتماء، الجدران وما داخلها هي التي تحكم الشخصيات، الخارج هو القلق، هو اللّا-انتماء لانفتاحه وغياب حدوده بصورة دقيقة، على الرغم من استدعاء أبو الحيات لمدن و فضاءات مختلفة إلاّ أن الحضور الآني للشخصية هو الطاغي على حضور المكان بخصائصه الفيزيائية، والمثال الأوضح عن ذلك هو علاقة جمانة وزوجها سهيل بالوسائد، حيث لم يعتادا على الجديدة منها بل كانا يُحبذان تلك القديمة القاسية، والوسادة معادل رمزي للانتماء إلى الداخل وما هو مختزن في الحياة اليومية وشعريّة تفاصيلها، فالانتماء الحقيقي إلى الجسد فقط، هو الحقيقية التي يحملها (اللاجئ) والتي لا تنتمي إلى لغة الخطابات والشعارات.
تستحضر أبو الحيات تاريخا طويلا من الصراع الفلسطيني مع السلطات العربية، وكيف ينعكس على الحياة اليومية للفلسطينيين، حيث تشير إلى غضب اللبنانيّين من منظمة التحرير، وتسبر أحداث السبعينات والثمانينات لترسم معالم الموت والمذابح التي مر بها فلسطينيُّو المخيمات في تلك الفترة، بالإضافة إلى التنقلات بين تونس وعمان وبيروت، والتحولات التي مرت على الفدائيين الفلسطينيين، حيث تحول بعضهم إلى موظفين مكتبيّين بعد تاريخ طويل من القتال في الخنادق والعمل الثوري.
اللاّ-انتماء حالة تصيب الجميع، كل الذين فقدوا الأرض وأَضحوا مهمشين، الأمر ذاته ينعكس على بنية الحبكة التي تختزل حياة جمانة وأسرتها بين حدثين هما موت ملكة -القابلة- ثم التوقف أمام مستوطنة إسرائيلية كي تتبول ابنتها شيرين، حياة سريعة، مليئة بالفقدان تسترجعها جمانة على ألسنة من تعرفهم، في سبيل الإجابة عن سؤال مفصلي في حياة الأنثى ( هل أبي هو أبي فعلاً..؟) ، إن لم يكن كذلك فهل أنّ ما عشته، يعدُّ وهمًا؟
_______
*العرب