كفى الزعبي *
( ثقافات )
بصق الرجل الذي يبدو أنه مشرد، على الأرض وهو يتجه نحوي. كان اقترب مني ليطلب سيجارة لكن شابا سبقه لهذا الفعل بلحظات. اعطيت الشاب سيجارة. حسنا، يجب أن أشرح إن التدخين في المطاعم ممنوع، لهذا خرجت ووقفت على الشارع لأدخن، وفي اللحظة التي أخرجت سيجارة من العلبة اقترب مني ذاك الشاب. أخذ السيحارة ونظر إليها باستغراب واحتقار: سيجارة طويلة ورفيعة وخفيفة ! ما هذا ؟ سأل بتعجب واستخفاف ، وفي هذه اللحظة اقترب الرجل المشرد ، وقبل أن يتوجه بطلبه لي كان الشاب قد مد له السيجارة التي أخذها للتو مني قائلا : خذها، فأنا لا أريدها. فأخذها المشرد ونظر إليها أيضا باستغراب واستخفاف، ثم بصق على الأرض ومسح فمه بكم معطفه ، وأشعل السيجارة، ودخن جرعة. نظرت أنا إلى المكان حولي: ناطحات سحاب، ونجوم في السماء وأكياس زبالة سوداء على الرصيف، وموسيقى جاز تنبعث من مكان قريب. لم تعجب سيجارتي الرجل المشرد، فرماها على الأرض ولم يدخن نصفها ، ومضى وهو يعرج ويبصق .
نسيت أمره وأنا أحدق به شاردة الذهن. ثم حدت بنظري عنه. نظرت ثانية لناطحات السحاب ولنجمة في السماء ولسيارة إسعاف عبرت الشارع مسرعة وملئته بضجيج صفيرها. ما الذي يربطني بهذا المكان؟ ما الذي يربطني بأي مكان؟ أنظر حولي وأفكر بأمكنة نقيضة، أتذكر أن ثمة حروب تجري الآن في أمكنة أخرى، أتذكر إن ثمة إناسا يموتون ( يقتلون تحديدا ) في هذه اللحظة…أفكر إن هناك من يشعر بالرعب، وإن هناك من يشعر باليأس …وبالجوع، وإن هناك من يغرق مثلا في بحر ما وأن هناك من دعسته للتو سيارة، وإن ثمة من سمع للتو خبرا مفجعا … ثم أتذكر محمود دوريش، فقد قال شيئا حول ذلك في إحدى قصائدة. وكما في العادة، لا أتذكر الكلمات، لكنني أتذكر المعني. ربما يقول في مطلعها وأنت تشرب القهوة تذكر أو فكر .. ( لا أستطيع أن أتذكر لما يدعونا درويش أن نفكر ونحن نشرب القهوة !) لكنني أتذكر أن الكثير من الشعراء أسرتهم هذه الصيغة الشعرية فكرروها على نحو مبتذل. ثم أتذكر أنني في الفترة القريبة الماضية وكلما شربت الماء تذكرت – وبتلقائية مزعجة – بطل رواية جنكيز ايتماتوف ” الكلب الأبلق الراكض على حافة الشاطئ “. إنه طفل خرج في رحلة صيد مع والده وعمه وأحد الصيادين الكبار في العمر من قبيلته ، ثم واجهتهم عاصفة تاهوا على إثرها في البحر ولم يبق لديهم سوى القليل جدا من الماء، فراح الذين معه يلقون بأنفسهم في البحر ، منتحرين، واحدا تلو الآخر – ابتداء من الصياد العجوز وانتهاء بأبي الطفل – كي يبقوا له القليل الذي تبقى من الماء ، على أمل أن ينجو ويعيش، فظل وحيدا تائها في مركب في البحر . أفكر إنه من الغريب أن لا أفكر بالعطشى الواقعيين الذين يحييون في هذه اللحظة التي أعيش فيها ، بل أتذكر طفلا، بطل رواية متخيلا ، يعاني العطش وهو تائه في عرض البحر محاطا بماء مالح وضباب. ولسبب خارج عن إرادتي أشعر بالإثم كلما تذكرته وأنا أشرب. عاد الرجل المشرد وتناول السيجارة التي ألقاها على الأرض. لا زالت مشتعلة. اقترب مني ثانية وقال إن قدمه تؤلمه وإنهم ربما يقطعونها، وبصق، رأيت البصاق يخرج من فمه. ورغم القرف نظرت إلى بصقته التي استقرت على الرصيف بالقرب مني. لا شيء يميزها . مثل بصاق كل الناس على اختلاف ألوانهم وطبقاتهم. كل بصاق الناس متشابه، مثلما هي ألامهم متشابهة ربما. ولسبب ما، غامض وغريب، تذكرت الشاعر الأمريكي بوكوفسكي ( في الحقيقة، وللأسف لم أتعرف عليه إلا منذ عام ) تذكرت قصيدة له يقول في بدايتها أنه يستلقي على ظهره ووجه للسقف ، وفي نهايتها يقول أنه يستلقي على بطنه ومؤخرته للسقف ( هكذا من قبيل التغيير ) ..لا أدري ما علاقة هذه القصيدة بالمشرد الذي لا يكف يبصق وقد يقطعون قدمه. عبّرت للمشرد عن أسفي وأعطيته سيجارة أخرى فأخذها ونظر إليها ثانية باستخفاف واحتقار. كنت واثقة أنه لا يفكر أبدا بأماكن أخرى تجري فيها في هذه اللحظة حروب، وأناس يسقطون قتلى وتتقطع أطرافهم، لكن ما الفائدة سواء تذكرتهم أنا أو فكر بهم هو؟ لا فرق …لن يتغير شيء في واقع هذا العالم. ألقيت سجارتي على الأرض ودست عليها بقدمي، وظلت ناطحات السحاب تناطح السماء وظلت النجوم تشع وموسيقى الجاز تنبعث من المكان القريب وظل أناس كثيرون في هذا العالم يتألمون ويقتلون وظل آخرون يرقصون وثمة آخرون راحوا يغيرون حالة استلقاءهم : من الاستلقاء على الظهر والنظر إلى السقف إلي الاستلقاء على البطن ومؤخراتهم للسقف: فقط في سبيل التغيير.
* روائية من الأردن تعيش في روسيا