الذكرى الـ83 لرحيل جبران.. شاعر الأبناء الذي أهمله الآباء



* عهد فاضل

على الرغم من ذيوع واشتهار اسم جبران خليل جبران، مؤلف «النبي» درّته الأشهر، فإن سؤالا يبرز كلما أعاد المرء قراءة هذا القلم الحائر، وهو السؤال الذي يتحدث عن ارتباط قراءة جبران بالفترات العمرية الفتية، ولماذا يتوقف القراء عن قراءته بعدما يكبرون؟! في الواقع إن جبران ارتبط عند قرائه باللغة العربية بالمرحلة الأولى من مراحل تكون الوعي والتربية عند الفتيان، وما إن يتطور وعيهم العمري ويدخلوا الجامعة حتى يتوقفوا كليا عن قراءة جبران خليل جبران. لماذا يتوقف القراء عن قراءته؟ هل لأن جبران لم يستطع تشكيل فلسفة خاصة به؟ أم لأن أدب جبران، بصفة عامة، هو نتاج «الصدمة» المعرفية التي حصلت جراء تعرفه إلى الغرب والأدب الغربي، فكان أدبه نتاج ذلك الاصطدام مشفوعا بروح واثبة طامحة وحائرة ما بين العمل ضد السيطرة العثمانية على بلاده والمشرق بعامة، والذي أشار إليه كثيرا في نثرياته، بل إلى الدرجة التي قال فيها الدكتور بطرس حلاق إنه – أي جبران – كان من القائلين بحماية دول أجنبية من أجل إنجاز الانتصار على الدولة العثمانية، وما بين إنتاج الأدب والتصوير الذي كان يحبه منذ نعومة أظفاره؟

لا يستطيع قراء الأدب العربي، بل قراء الأدب ومحبوه بصفة عامة، إنكار أن جبران خليل جبران يترك تأثيرا في فئات عمرية محددة، على الرغم من موهبته وميله العارم إلى إنتاج الأدب، إلا أنه ومع الفئات العمرية المتقدمة يصبح من الماضي، وتصبح إعادة قراءته نوعا من تذكر السني الأولى. لكن ما الذي في لغة مؤلف «النبي» يغري الفتيان ويدفعهم إلى قراءته بنهم وحماس لا يمكن لأي منا أن ينساه؟ مع أن المؤلف في الأصل لم يستهدف شريحة عمرية في كل الأحوال، ولا هي من أهدافه الكتابية ولا تعنيه في شيء. لكن لماذا انتهى هذا الأدب إلى أدب شبه مخصص للفتيان؟! وكيف يمكن أن تنتهي الصدمة المعرفية بإنتاج أدب يمكن التشاغل عنه أو تجاهله في مراحل عمرية متقدمة؟
قرن.. بلا أدب
إن حالة الأدب العربي، وتحديدا منه الشعر في مطلق الأحوال، كانت في أسوأ أحوالها مع نهاية القرن الثامن عشر، فقد كانت اللغة الشعرية قاموسية ونوعا من التمرين على إجادة البحور الشعرية ومن دون مضامين جديدة. وإن كان السبب يعزى إلى خضوع المنطقة للسيطرة العثمانية، فإن السبب ليس جوهريا بقدر الظاهرة ذاتها، وهي فقر الشعر العربي إلى درجة أن أغلب القصائد التي كتبت تحولت إلى الأرشيف كإشارة إلى زمنها دون أي إضافة أو مساهمة منها في «إحياء» الشعر العربي. فمن الخال الطالوي إلى ابن النقيب الحسيني الذي عدّه البعض من أوائل كتّاب المسرح، ومنجك باشا اليوسفي الذي افتخر على الناس بتحول أبيه من خادم إلى مخدوم ومن عبد إلى سيد، أو حتى عبد الغني النابلسي الذي نظم أقسى الهجاء بحق أهل دمشق. وهي من أشهر أسماء المرحلة التي تسمى بمرحلة الأدب في العصر العثماني، مع استثناء إحيائيي القرن الثامن عشر الذين تأثروا بالثقافة الغربية وامتلكوا ثقافة عصرية مكّنتهم من تشكيل نواة سياسية للإصلاح الأدبي والسياسي والديني، لا نجد حال الشعر العربي، في تلك المرحلة وأسمائها، إلا نوعا من التقاليد التي عمل عليها الشعراء للتعبير إما عن فكر ديني وإما صوفي وإما أخلاقي مثالي بعامة، لا قيمة إبداعية له في كل الأحوال.
هذه الحالة جعلت من اليسير على الدعوات الإبداعية أن تنطلق رافضة الشعر القاموسي والأغراض القيمية والاستخدام التعليمي للغة الشعرية، مع كل ما حفلت به تلك المرحلة من رطانة هنا وهناك. فكان من الطبيعي أن تولد دعوات التحرر من القيود والدعوات إلى أدب إبداعي أصيل يستمد لغته من الواقع والتجربة، ويجمع ما بين أصالة اللغة واستخدامها العصري الليّن. فرأينا مثلا «جماعة الديوان» في مصر، وكذلك «أبوللو» ومنظرها أحمد زكي أبو شادي (1892 – 1955) والكلام عن الحنان ما بين الحواس والطبيعة، وأن غاية الشعر الاحتماء بهذه الطبيعة. كانت المنطقة كلها تتحرك على وقع رفض القوالب الجامدة التي أُسِر فيها الشعر العربي، وتكاد تكون دعوة خليل مطران هي الدعوة الأولى المسجلة في الثورة على تلك التقاليد الأدبية السائدة والقوالب الجامدة، هذا على الرغم من أنه، كسواه، لم يخلص لدعوته تماما، فكتب الموضوعات بالأغراض القديمة مديحا ورثاء، وكذلك كان في شكل ما اتّباعيا.
هذا المناخ جعل من الطبيعي الدعوة إلى حياة جديدة في الأدب، ومنها ظاهرة جبران خليل جبران المولود سنة 1883 في بلدة بشرّي شمال لبنان، وجماعته سواء في الرابطة القلمية (1920 وتوقفت بعد وفاة جبران) التي تأسست في الولايات المتحدة الأميركية، أو من خارج الرابطة، فكان هو وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومعهم الكثير من المواهب العربية التي تقيم في الغرب أو الشرق، على حد سواء، صورة عن رفض الحال الذي وصل إليه الشعر العربي، مع أنهم لم يحصروا إنتاجهم في الشعر بل في الرواية والمقالة أيضا وزاد عليهم جبران فن التصوير الذي برع به وزين به كتبه وكتب غيره من مجايليه كميخائيل نعيمة.

جبران ضد الباب العالي!
مما لا شك فيه أن النشاط السياسي اختلط مع الإنتاج الأدبي في شكل ما، فقد كان أغلب أدباء المهجر من العاملين ضد الدولة العثمانية، حتى إن جبران اتصل بالجمعيات الفرنسية التي كانت تطالب العثمانيين بمنح العرب استقلالهم، فإن هناك من أشار إلى أن جبران ساهم في مشروع ثورة مسلحة ضد العثمانيين. جبران نفسه أكد أنه عمل في سبيل الثورة العربية طوال عشر سنوات كاملة.
وعلى الرغم من عدائهم الشديد للدولة العثمانية ونضالهم لتحرير بلادهم من الوجود التركي، فإن علاقتهم بالثقافة الإسلامية كانت مستقلة عن العمل ضد العثمانيين بصفتهم دولة محتلة لا بصفتهم مسلمين، فكتبوا عن الإسلام أجمل ما كتب، وكانت الثقافة الإسلامية مصدرا رئيسا لهم، حتى إن جبران قال إن في قلبه شطرا للمسيح وآخر لنبي الإسلام محمد عليهما السلام. وكذلك أشار جبران كثيرا إلى هذه المسألة موضحا ضرورة الفصل ما بين الدولة العثمانية والإسلام الذي مجده جبران في كل مناسبة وتأثر بالنص القرآني ودعا إلى التعلم منه، وكذلك أثر التصوف الإسلامي كثيرا في شخص وأدب جبران كتجربة الشاعر المصري المحلّق ابن الفارض، بل إن شخصية النبي في «النبي» اسمها المصطفى عند جبران، أما أمين الريحاني فقد سمى بطله «خالد» في روايته الشهيرة.
هذا كله للدلالة على أن «نضالهم» ضد الدولة العثمانية لم يكن موجها ضد الإسلام الذي كتب عنه جبران أجمل ما يكتب من كاتب غير مسلم، وكذلك قرينه الريحاني. وأكثر من ذلك، كان جبران عرضة لهجوم رجال الكنيسة بسبب مواقفه النقدية والساخرة، فقد كان لويس شيخو يصفه بالمجنون، حتى إن ميخائيل نعيمة قال في سيرته إن جبران رفض الانصياع لطلب الكاهن بإعلان الاعتراف وهو على سرير الموت.
نساء جبران
تعرف جبران في حياته إلى عدد من النساء أشهرهن وأولهن سيدة أميركية تعرّف إليها في ولاية بوسطن، من طريق الرسام الأميركي ماجر الذي كان يقدم له العون في حرفة الرسم والتصوير. وتعرف في مرسم ماجر على السيدة الأميركية التي كانت متزوجة وقتذاك بتاجر يكبرها في السن كثيرا. زواجها لم يمنعها من إقامة علاقة عاطفية خاصة مع جبران، علاقة «غير نقية انغمس فيها دون أن يعير وصايا أسرته بالاً». (ثروت عكاشة. مقدمة كتاب «النبي». الطبعة الثالثة عشرة. 2014). وقد لمحت الدكتورة أفنان نظير في مقال إلى أن أم جبران أرغمته على العودة إلى لبنان «بعد أن وقع في شرك زوجة تاجر في الثلاثين من العمر وغيابه المتكرر عن البيت، وفتن قبلها بامرأة أخرى».
وكان له نصيب في تشبيب النساء به، فقد قالت عنه بربارة يانغ: «وسيم، كثيف الحاجبين، داكن الشارب، يتموج شعره على جبهته العريضة، وتغرق في التفكير عيناه العسليتان. في ملابسه أناقة تنم عن ذوق سليم» (هذا الرجل من لبنان. بربارة يانغ. 1959).
المرأة الثانية، وبالعودة إلى مقدمة ثروت عكاشة مترجم كتاب «النبي» وكاتب مقدمته الهامة، فهي «تدير مدرسة مس هاسكل» التي دعته إلى زيارتها، فقام بذلك وعرّفته على سيدة فرنسية تدعى ميشيلين «على حظ كبير من الجمال». ويغرف عكاشة من ميخائيل نعيمة في هذه الحادثة، مشيرا إلى أن ميشيلين هذه كانت حبه الأول. وسمّاه عكاشة «حبا جسديا»، ثم يشير عكاشة إلى أن جبران كان يطلب من ميشيلين إخفاء خبر علاقتهما عن ماري هاسكل، وتستجيب لرغبته ميشيلين ثم تفترق عنه وتتزوج في أميركا وتكون وفاتها بعد ستة أشهر من وفاة جبران نفسه في عام 1931 (!).
وعلى الرغم مما تركته هذا السيرة من قتامة على صورة جبران الشاعر أو جبران في «النبي»، فإن الواقع الاجتماعي الذي جاء منه جبران من قسوة الأب المفرطة والفقر والحرمان تجعل السلوك الانتهازي الذي يظهر منه مع النساء خاصة بسبب «رد فعل لإحساس بخواء نفسي»). بل إن ميخائيل نعيمة نال من زميل عمره جبران في مثل تلك النقطة، في حديثه عن رغبات جبران بقتل خصمه، فهي: «تكشف عن تلك النفس العنيفة لدى جبران» وأن أباه كان «يشجعه على هذا العنف ويضربه إن قصّر فيه».
لولا ماري لما كان جبران
على الرغم من شهرة علاقة جبران بمي فإنها بقيت في نطاقها الفكري عبر نظام التراسل المكتوب، لا نظام العلاقة الشخصية المباشرة. وهي على الرغم من كونها تراسلية مكتوبة فقد أفاد منها جبران هي الأخرى، عبر تسليطها الضوء على أدبه في مصر في صالونها الشهير، وكذلك عبر كتابتها عنه ومناقشتها لمؤلفاته في الصحف. أما ماري هاسكل فهي شأن آخر سواء على المستوى الشخصي أو العاطفي ومن كل الوجوه، فقد قدمت هذه المرأة كل شيء لجبران خليل جبران، بدءا من تعليمه لإتقان الإنجليزية وانتهاء بمنحه النقود في شكل شهري ومنتظم، مرورا بتمويل إقامته في باريس. ويشير عكاشة إلى أن هاسكل كانت تتقبل أحلام يقظته وهو يصور نفسه أمامها ويبالغ في هذا التصوير، عارفة ومدركة لحظات الإشباع النفسي التي يجتذبه فيها الحديث عن نفسه، فيصور جسده الناحل قويا ويصور فقره الحالي ثراء. ويستند عكاشة إلى إخصائي نفسي لتعليل هذه الظاهرة فينقل عنه: «وأكثر ما تكون هذه المغالاة إذا كان الحديث إلى امرأة يريد المرء أن يخطب ودها ويملك نفسها. كان جبران لا يملك كثيرا من أسباب امتلاك المرأة من مال أو جاه أو نسب أو فحولة، فقد كانت تلك المغالاة وسيلة يعوض بها ما افتقد».
وينقل عكاشة عن ميخائيل نعيمة أن هاسكل كانت تتمنى الزواج بجبران، إلا أنها كانت تعرف قلقه فآثرت أن تظل العلاقة بينهما صداقة، وأنها كانت تحس في نفسها أن جبران لا يبادلها الحب الحقيقي الذي من الممكن أن تركن إليه، خصوصا بعد مرور هذه السنوات الطويلة وهي أمامه وقد بلغت الخمسين وتكبره بكثير، فآثرت التزوج بغيره، وحصل الأمر عام 1926. وتفرغت لزواجها وسافرت، إلا أنها لم تتخلَّ كليا عنه، وكان آخر لقائها به، وهي المخلصة الحنون، في عام 1931 يوم جنازته وهو في التابوت بعد أن أوصى لها بكل أعماله الفنية. ويختتم عكاشة قاطعاً: «لولا ماري لما كان جبران ذلك الأديب الملحوظ».
لا يمكن بأي حال اعتبار جبران فيلسوفاً، فهو لم يقُم بتأسيس مذهب فلسفي محدد أو رؤية فلسفية معينة، بل كان مبتكراً للغة نثرية جديدة على التأليف العربي، متأثرا بالخيال الذي توصي به الرومنطيقية، ومتأثرا بعدد كبير من الأدباء والمفكرين، على طريقته. هذا مع العلم أن أشهر كتبه «النبي» لم يكتب باللغة العربية، بل ألفه بالإنجليزية، ولجمهور غير عربي في المقام الأول. وعلى الرغم من رغبة البعض في إطلاق صفة الفيلسوف عليه، فإن هذا لا يتفق مع أي معيار أكاديمي، لأن جبران في طبيعته الأدبية خارج التصنيف المنهجي، فكيف به أن يترك فلسفة معينة؟ وفي التحرك في جميع كتبه وآثاره، فإن جبران المشرقي مزيج من المسيحية والتصوف الإسلامي، الذي تمثل لديه تبشيرا بالمحبة وتوحيد البشر وإزالة الفوارق. ومهما قيل عن تأثره، مثلا، بالفيلسوف نيتشه، وتحديدا كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، في «النبي» فإن هذا الرأي لا يستقيم البتة، لأن نيتشه تدميري آتٍ من بنية فلسفية راسخة طارحا الإنسان الكامل، عبر منهجية ونسق فكري عميق. أما «النبي» فهو قد يكون تأثر بـ«هكذا تكلم زرادشت» لناحية التبويب، إلا أنه مجرد تأثر شكلي لن يحوّل جبران فيلسوفا تحت أي تربيطة كانت. هو شاعر مجدد من طبقة المجددين العرب الذين عرفوا في مصر والشام والعراق، إلا أن حياته الشخصية أكثر غنى وتحولا وغرابة.
والمشكلة أن صفة الفيلسوف تستخدم بسهولة في التدوين العربي، فكل متأمل يصبح فيلسوفا وكل شاعر وكل مصنف، مع أن الفيلسوف، لو وُجِد، تتغير الحقيقة ويختلف التفكير وتتغير الأدوات، فهل حصل ذلك؟ وأين؟ هناك مثقفون أكاديميون عرب هم أقرب إلى الفلاسفة، كطه حسين ومحمد أركون أو عابد الجابري وعبد الله العروي، ومع ذلك هم «مفكرون» لا فلاسفة. فلا يمكن بحال من الأحوال تسمية جبران فيلسوفا تحت أي وجه من وجوه التصنيف، إلا أن المبالغات ارتبطت باسمه لأسباب هي من خارج أدوات البحث العلمي وتدخل في مضمار النشاط السياسي، لا أكثر.
هكذا تكلّم في كتاب «النبي»..
عرف جبران بكثير من الكتب في العالم العربي، كرمل وزبد ودمعة وابتسامة، وحديقة النبي، والمجنون، الأجنحة المتكسرة، والمواكب، والأرواح المتمردة، وسواها الكثير، وعلى رأسها كتابه ذائع الصيت «النبي». وكما أسلفنا أشار البعض إلى تأثر جبران بكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت»، خصوصا أن بينه وبين «النبي» تقاطعات تتعلق بالتبويب، لكن الأثر الذي يتركه «هكذا تكلم زرادشت» يختلف قطعيا عن الأثر الذي يتركه «النبي»، فالأخير تبشيري دعوي، والأول تدميري جذري يستبدل أصلا بأصل، فضلا عن أن الأول من السياق المتين للفلسفة الألمانية التي خرج منها نيتشه غاضبا. أما «النبي» فهو مشرقي متأمل يغوص في أعماق المشتركات بين الإنسان والإنسان، لكن الرابط الممكن يتجلى في أن شخصية «المصطفى» راحلة وخارجة من بين قومها وفي نزق القوي السوبرماني: «ليس ما أنزعه اليوم ثوباً، بل جلدي أمزّقه بيدي هاتين. ولست أنزع فكرة أخلفها ورائي، بل هو قلب رقّ بالجوع والظمأ. على أنه ليس لي أن أطيل البقاء». من ترجمة القلم الكبير ثروت عكاشة، في الطبعة التاسعة من «النبي» بتاريخ 1999 الذي زاد عليه المترجم مقدما لتلك الطبعة التي نقرأها الآن وهي في طبعتها الثالثة عشرة والصادرة عن دار الشروق. مصر. 2014. وننصح القراء بتلك النسخة رفيعة الشأن لمترجم بارع ومثقف بارز آثر أن ينشرها بنسختيها الإنجليزية والعربية متقابلتين عند كل مقطع، ليتمكن الملم بالإنجليزية، أو العكس من إضافة شيء من روحه على الترجمة.
يكرس جبران عالم الحب والمحبة، كسرّ يجمع الوجود بالموجوات، على طريقة ابن عربي «لقد صار قلبي قابلا كل صورة» أو «صح عند الناس أني عاشق غير أن لم يعرفوا عشقي لمن». وفي «النبي» يتفعّل السر بصفته إلهاماً من خارج العالم: «إذا أومأ الحب إليكم فاتبعوه، وإن كان وعر المسالك، زلقَ المنحدر. وإذا بسط عليكم جناحيه فأسلموا له القياد، وإن جرحكم سيفه المستور بين قوادمه. وإذا حدثكم فصدّقوه، وإن كان لصوته أن يعصف بأحلامكم كما تعصف ريح الشمال بالبستان». في هذا المقطع يظهر لامفكّر فيه خدع المؤلف، فقال «ريح الشمال» وهي ذات دلالة محلّية صرف لأن ريح الشمال في لبنان هي ريح قارسة، وهي ليست كذلك في بلدان أخرى. إلا أن اللامفكر فيه كان أقوى من حنكة المؤلف، فذكر جهة للريح دلالتها في مسقط رأسه لا في ثقافته الجديدة. وبالعودة إلى النبي نتابع: «فالحب لا يعطي إلا من ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته. والحب لا يملك، ولا يملكه أحد، فالحب حسبه أنه الحب». أو هنا: «ويعلم أن الأمس ما هو إلا ذاكرة اليوم، وأن الغد ما هو إلا حلمه، وأن ما يتغنى فيكم ويتأمل لا يزال يسكن في رحاب اللحظة الأولى، تلك التي انتثرت فيها النجوم في الفضاء». وهنا نعود إلى أول مقالتنا، في الإشارة إلى تأثر الفتيان بأدب جبران، حيث تتمكن هذه الضبابية في الجمل أو تلك المراوغة في حجب المعنى أو إظهاره من خلق تأثير مفرط في الشخصية، خصوصا أن فترة المراهقة هي فترة الغموض في دوافع الشخصية وغرابة الأحاسيس. من مثل: «ولا تظنن أنك قادر على توجيه مسرى الحب، فإنما الحب يقودك إن وجدك خليقا به». طبعا، لا يمكن التأثر الآن بقصة الحب الذي يقود لو وجد من هو خليق به، لأن الحب أصلا تحول إلى موضوع ميكروسكوبي قابل للعزل وللتصنيف وللنفي وللتفكيك مثله مثل أي مقولة لا معقولة. وربما هذا هو السبب الذي جعل جبران يتحول إلى ماضٍ، بسرعة، ولم يعد قابلا للقراءة إلا بصفته جزءا من اختبار أدى غرضه وزال تأثيره.
فكتاب «النبي» الآن، هو دون أي تأثير ممكن على القارئ، وأصبح من أدب ما بين الحربين العالميتين الذي يتمتع بكمّ هائل من أفكار الإصلاح والحلم والأمل وقوة الفرد والحس القيامي الألْفي الذي تتناوب فيه حالتا الطوفان والخلق، إلا أنه خسر جاذبيته النصّية وتراكم عليه غبار التحولات الأدبية والثقافية والسياسية والدينية، في نهايات القرن الـ20 وبدايات الألفية الثالثة. ولم يعد من الممكن التعامل مع اللغة القيامية الألفية إلا بصفتها «رؤية» أو خيالاً أو يوتوبيا أساسها الإيمان بعالم أجمل، سيكون، سواء في الكشف عن سر النفس والخلود، أو الكشف عن وحدة الوجود التي تقصي المختلف وتستدعي المؤتلف: «إن الخير يكمن في الشوق إلى نفسك الشامخة، وما من أحد منكم إلا ويكابد هذا الشوق». وهنا: «ذلك الذي لا يحده شيء فيكم، الإنسان الشامل، الذي لا تمثلون فيه جميعا إلا الخلايا والأنسجة.. إن في اتحادكم بالإنسان الشامل انطلاقا يخرج بكم إلى الشمول.. إن الإنسان الشامل فيكم كدوحة من البلّوط تجللها أزهار التفاح، يربطكم جبروته بالأرض، ويعصمكم دوامة الموت».
ولا يختلف «حديقة النبي» عن «النبي» في شيء، فهو استكمال للأول، إلا أنه صدر بعد وفاته. وهو على الطريق نفسه من المشرقية في نثر هاجسه القيامي الألفي أقوى من هاجسه الاختباري. وإن كان لمفهوم الحديقة ارتباط ما بالسير المنقولة، وعلاقة الشجر والطبيعة بالمقدس والوحي، فإن «حديقة النبي» هو «النبي» أسلوبا وإنشادا وتعليما وتبشيرا بعالم أجمل كامن خلف تفاصيل صغيرة.
جبران خليل جبران، شاعر وناثر ومجدد، لكنه ككثير من التجارب العربية المعاصرة، تتحول إلى ماضٍ. مع أن شعراء سبقوهم بقرون كثيرة، كالمتنبي وأبي نواس وأبي تمام أو ابن الفارض الذي أثر بجبران أيّما تأثير، لا يتحولون إلى ماض إلا بالمعنى الزمني، أما بالأثر الأدبي فهم معاصرون! فكيف اختفى أثر المجددين والإحيائيين واستمر أثر الذين قالوا شعرا منذ أكثر من ألف عام؟ لا يزال هذا الأمر محتاجا إلى الدرس عبر منهجية تلحظ استمرار الأثر الأدبي للأقدم وزوال أثر الأحدث.
___
*صحافي وناقد سوري/ مجلة المجلة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *